&
&
&
سامي كليب : يحتل وزير الداخلية السابق جان بيار شوفنمان دائرة الجدل الفرنسي بامتياز هذه الأيام، فاستطلاعات الرأي تعطيه ما بين 11 و12 بالمئة من الأصوات قبيل حوالى ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية، وتوحي نوعية الراغبين بالتصويت له بأنه خرج من دائرة <<المسلمات>> الانتخابية وبات <<فلتة الشوط>> الأولى وربما الأخطر لمرشحي اليسار واليمين على السواء.
والفرنسيون الباحثون منذ أشهر عن <<الرجل الثالث>> للمعركة الانتخابية المقبلة التي ستليها مباشرة انتخابات تشريعية (خلافا للمألوف) لكي لا تنحصر العملية برجل يحبون شخصه ولا يثقون بمشروعه السياسي (جاك شيراك) وآخر يحبون بعض مشاريعه ولا يستسيغون شخصه (ليونيل جوسبان)، يريدون ربما الآن وأكثر من أي وقت مضى قياديا يقلب المعادلة أو على الأقل يخرجها من روتينها القاتل.
واللافت في الشعبية المتزايدة لشوفنمان (كانت قبل أشهر قليلة لا تزيد عن 4 بالمئة) أنها ليست بالضرورة يسارية ولا محصورة برافضي الوحدة الأوروبية (حيث انه هو نفسه متحفظ جدا على الكثير من جوانب الوحدة)، فاستطلاعات الرأي تؤكد أن حوالى نصف ناخبيه لا يصنفون أنفسهم يساريين، ما يعني أن هذا الجمهوري العريق المعروف بأنه ديغولي اليسار ويساري اليمين، بدأ يقطتع من الجانبين فيقلقهما جديا.
ثم ان الناخبين المفترضين للرفيق السابق لفرانسوا ميتران هم في غالبيتهم من المثقفين وذوي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الجيدة، ما يعني أن شعبية الرجل صارت تمتد الى أكثر من طبقة اجتماعية، وتتمحور في صفوف الذين تزيد أعمارهم عن 30 عاما (في مجتمع معروف بنسبة كبار السن فيه)، كما أن له خطوطا جيدة في مواقع التأثير نظرا لمروره في وزارات عديدة وفي الحزب الاشتراكي نفسه، وتمتد صداقاته من جمهوريي اليمين الى يسار اليسار مرورا ببعض قادة الماسونية والنقابات العمالية وأحد قادة الشيوعيين الثوريين سابقا (فرانسوا مورفان). (حضور مهرجاناته الخطابية يوضح مساحة تلك الشعبية).
بمعنى أشمل، فإن شوفنمان صار خشبة خلاص داخل اليسار نفسه، مقابل <<الانحرافات>> الليبرالية وأنماط العولمة المشبوهة التي تصدر بين الوقت والآخر عن جوسبان وحكومته اليسارية المتعددة.
ربما لن يصل شوفنمان الى حد استقطاب ما يكفيه من الأصوات ليصبح رئيسا، لكنه قد يصبح بيضة القبان في الدورة الثانية، ولعله سيكون منقذ جوسبان الأساسي إذا ما أقنع ناخبيه بنقل أصواتهم في تلك الدورة الى مرشح الحزب الاشتراكي، ولكن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة، ومن يدري فلعل شوفنمان سيحدث مفاجأة أكبر.
فالرجل المعروف بأنه واضع شعار الحزب الاشتراكي (الوردة المقبوضة بكف) ومهندس أكثر من مشروع سياسي للحزب خصوصا في مؤتمر إيبينال الشهير في مطلع السبعينات كان قد أغلق الباب للمرة الأولى في وجه حكومة اشتراكية حين كان الاشتراكيون في عز مجدهم العام 1983 حيث هجر حكومة بيار موروا احتجاجا على سياستها الاقتصادية.
ثم عارض رفيقه الحميم فرانسوا ميتران حين كان العالم الغربي كله يريد <<تأديب>> الرئيس العراقي صدام حسين على اجتياحه الكويت، فسار شوفنمان العام 1991 عكس التيار وانسحب أيضا من وزارة الداخلية معتبرا أن ما تقوم به فرنسا في <<عاصفة الصحراء>> خطأ وان تاريها وتقاليدها وعلاقاتها مع العالم العربي تفرض عليها ألا تنصاع لرغبات واشنطن. ثم أغلق الباب ثالثة بوجه جوسبان نفسه وانسحب من حكومته احتجاجا على نقل صلاحيات إضافة الى برلمان كورسيكا معتبرا أن في ذلك بداية خطر نزعات انفصالية.
عرف شوفنمان تاريخا وسيرة سياسيتين متمايزتين وغالبا ما كان يفاجئ الجميع بالسير عكس التيار، فنجده مثلا في الستينات يسارع لإنقاذ غي موليه المترنح على وقع حرب الجزائر أو نراه في مطالع التسعينات متلاقيا مع اثنين من فيلة اليمين التقليدي هما فيليب سيغان وشارل باسكوا الديغوليين حتى العظم والجمهوريين مثله حتى النخاع، يرفعون راية مناهضة معاهدة ماستريخت الأوروبية (لأنه يرفض تلك الأوروبية الألمانية الأميركية على حد قوله) خشية أن يكون فيها ما يقضي على الهوية الوطنية الفرنسية.
ويمكن القول إن القيادي اليساري الذي ابتعد عن الحزب الاشتراكي ليؤسس <<حركة المواطنين>> يشبه الى حد بعيد ما كان يوصف به العميد ريمون اده في لبنان، فهو واحد من <<ضمائر>> فرنسا، معروف بنزاهته ونظافة كفه، ودفاعه عن قضايا فرنسا والعالم بعيدا عن كل مركانتيلية وعقل تجاري.(السفير اللبنانية)
&