&
شكل "اعلان برشلونه" مرحلة مفصلية في العلاقة بين الاتحاد الاوروبي وبلدان حوض المتوسط. لقد وضع هذا الاعلان اطاراً للعلاقات المستقبلية بين بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر وبلدان حوض المتوسط الاثني عشر المرشحة للشراكة مع الاتحاد الاوروبي (1). وكان اعلان برشلونة نقطة انطلاق لمجموعة برامج ومؤسسات وسياسات تستهدف انشاء منطقة تشمل المغرب والمشرق العربيين وتركيا، منطقة تشارك بلدانها في بيئة سلام واستقرار وازدهار. إن اعلان برشلونة يدعو الى انشاء شراكة جديدة واسعة النطاق تشمل القضايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية والبشرية والثقافية والامنية والسياسية. وبعد مضي ست سنوات على هذا الاعلان التاريخي، يجدر بنا ان نبحث في مدى تحقيق أهدافه المعلنة، مع تحليل التقدم المحرز واستشراف طريق المستقبل (2).
خلال هذه السنوات الست، تابع الاتحاد الاوروبي تنفيذ التغييرات البنيوية التي يحتاجها، وهو ينظر حالياً في توسيع نطاق الاتحاد ليشمل ثلاثة عشر بلداً جديداً (3). ومن الممكن ان يكون لهذا التوسع المقترح نتائج عميقة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستراتيجية، نظراً الى طبيعة الاقتصاد في تلك البلدان المرشحة لعضوية الاتحاد وعدد سكانها وخصائصها الديموغرافية وغيرها. ومن جهة اخرى، فإن لمثل هذا التوسع في الاتحاد الاوروبي آثاراً مهمة في العلاقات بين البلدان العربية وبلدان حوض المتوسط والبلدان الاثني عشر المرشحة للشراكة وبلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر. ولذلك فمن المهم في هذه المرحلة ان نقوم، ولو في شكل تمهيدي، بتقدير النتائج الممكنة لتوسيع الاتحاد الاوروبي من زاوية تنفيذ اعلان برشلونة وادوات السياسة العامة اللازمة لمثل هذا التنفيذ.
وثمة عناصر اخرى تهيمن حالياً على القضايا الاقليمية بل على العالم اجمع، وهي نتائج الاحداث التي تعرضت لها الولايات المتحدة في 11 ايلول الماضي. فقد تم اعلان حرب من "نوع جديد" يخطط لها ان تكون حرباً شاملة، حرباً على الارهاب تتجاوز الميدان العسكري والامني لتشمل النشاطات الاقتصادية والمالية والمصرفية والروابط التي تجمعها بالنشاطات الاجتماعية والثقافية وبسائر جوانب الحياة المدنية. والواقع أن الاهتمامات الامنية هي في الصدارة وأنها غطت على قضايا اخرى. فردود فعل الاسواق وردود الفعل السياسية بما فيها السياسات الاقتصادية والمالية حيال الاحداث الرهيبة التي حصلت في 11 ايلول الماضي تنبئ كلها بتباطؤ إن لم يكن توقف سياق العولمة، الذي سيطر على النشاطات التجارية والاقتصادية خلال التسعينات. فحيوية الاسواق المالية الوطنية والدولية، والتوسع الذي لا سابق له في التجارة الدولية بالسلع والخدمات، والتطور السريع في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائط الاعلام كانت كلها عوامل محركة للنمو خلال التسعينات. واذا نظرنا الى التطورات الاخيرة التي حدثت قبل الحادي عشر من ايلول وبعده وجدنا ان العوامل المذكورة آنفاً لن تقوم بعد الآن بالدور ذاته، حتى إن بعض المراقبين يقولون إننا انتقلنا الى ما يصلح تسميته "اقتصاد الخوف" (4). وبهذا الصدد، يبدو ان منطقتنا والبلدان العربية هي في خضم الحرب الجديدة، وهذا امر يزيد الارتياب حول النتائج الاقتصادية والاجتماعية والمالية.
اننا نعيش حالياً في خطر هيمنة المخاوف الامنية، اي ان تسيطر ظاهرة "اقتصاد الخوف" على الاسواق والنشاطات الاقتصادية. إن الفكرة الرئيسية هنا هي أن توسيع الاتحاد الاوروبي واعادة رسم خريطة اوروبا و"الحرب الجديدة" هي عوامل تقتضي اتباع سياسات ناشطة وحاســمة تدعم بقوة تنــفيذ اعلان برشلونة (5). وبهذا الصدد، علينا ان ننتهز هذه الفرصة التاريخية والاستراتيجية، الناجمة صدفة عن احداث 11 ايلول الفاجعة، كي ننشئ منطقة سلام واستقرار وازدهار، ونتبع سياسات تعالج الاسباب الجذرية للنزاعات العنيفة والارهاب دون الاكتفاء بمعالجة ظواهرها وعوارضها. وكما جاء في مذكرة قدمت اخيراً الى البرلمان الاوروبي، "فإن اتباع سياسة ديناميكية حيال النزاعات العنيفة يقتضي من الاتحاد الاوروبي ان يحول تركيزه من ادارة الازمات الى تجنب النزاعات، بما في ذلك اتخاذ تدابير وقائية ذات طابع بنيوي. فالسياسة الناجحة تقتضي من الاتحاد الاوروبي ان يكثف جهوده لمعالجة المشكلات البنيوية في شكل منهجي، اي معالجة الاسباب الجذرية للنزاعات لا سيما مشكلات الفقر والحكم غير الديموقراطي" (6).
إن هذا البحث يتألف من ثلاثة اقسام. سأذكر اولاً بإيجاز بعض الوقائع الخاصة بالعلاقات الاقتصادية بين بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر وبلدان حوض المتوسط الاثني عشر المرشحة للشراكة الاوروبية، مع التركيز على لبنان. ويبحث القسم الثاني اهداف السياق التنفيذي لاعلان برشلونة وأداته الرئيسية، وهي اتفاقات الشراكة المقترحة. والتركيز هنا هو ايضاً على بلدان حوض المتوسط الجنوبية، وعلى لبنان في صورة خاصة. اما القسم الثالث فيحاول رسم طريق للمستقبل.
&
علاقات التبادل التجاري والمساعدات الاقتصادية
إن بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر هي أهم الشركاء التجاريين لبلدان حوض المتوسط الاثني عشر المرشحة للشراكة الاوروبية، علماً بأن اكثر من 45 في المئة من تجارة الاخيرة هي مع الاتحاد الاوروبي (7). كذلك فإن بلدان المغرب العربي ومالطا هي جغرافيا أقرب البلدان الى الاتحاد الاوروبي و اكثرها اعتماداً عليه، علماً بأن اكثر من 60 في المئة من مجموع تجارتها هي مع الاتحاد الاوروبي. اما بلدان المشرق العربي التي تتصف اقتصاداتها بانفتاح اقل فتبادلها التجاري مع الاتحاد الاوروبي يمثل حوالى 40 في المئة من مجموع تجارتها، علماً بأن سوريا هي اكثر اعتماداً من لبنان على هذه المتاجرة.
وبالرغم من تراجع بسيط في العلاقات التجارية خلال السنوات العشر الاخيرة، لا تزال بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر& اهم مصدر لمستوردات البلدان المتوسطية الاثني عشر، علما بأن حصة بلدان الاتحاد من المجموع بلغت وسطيا اكثر من 60 في المئة خلال السنوات 1991-.2000 وهذا التركيز في التبادل التجاري ينطبق ايضا على الصادرات. فبلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر هي المقصد الرئيسي لصادرات البلدان المتوسطية الاثني عشر، علما بأن حصة الصادرات الى بلدان الاتحاد بلغت وسطيا 68 في المئة خلال الفترة ذاتها.
مقابل ذلك نجد، من زاوية التجارة الخارجية للاتحاد الاوروبي، ان منطقة حوض المتوسط لم تتسع اهميتها. فحصة البلدان المتوسطية الاثني عشر من مجموع مستوردات بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر بلغت 6 في المئة تقريبا (تعود حصة لبنان الى 0.3 في المئة، كما ان حصتها من مجموع الصادرات بلغت 9 في المئة تقريبا (تعود حصة لبنان الى 3.2 في المئة اي اقل من حصص بلدان منطقة التجارة الحرة الاوروبية، او البلدان المرشحة لدخول الاتحاد الاوروبي، او الولايات التحدة، اما حصة لبنان من مجموع مستوردات بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر فبلغت 0.02 في المئة وحصتها من مجموع الصادرات بلغت 0.3 في& المئة. ولم تتمكن بلدان حوض المتوسط من توسيع نطاق دخولها الى اسواق الاتحاد الاوروبي المتنامية، الداخلية او الخارجية. وهذا امر يتمثل في ضعف القدرة التنافسية الخارجية لدى البلدان المتوسطية الاثني عشر وفي استمرار الحواجز الحمائية، لاسيما الحواجز التجارية غير الجمركية التي تطبقها بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر. وتاليا فإن الاثر الكامل لاتفاق الشراكة لا يتوقع حدوثه قبل تحقيق منطقة التجارة الحرة الاوروبية - المتوسطية في سنة .2010
وهكذا نجد ان التبادل التجاري بين البلدان المتوسطية وشركائها التجاريين من بلدان الاتحاد الاوروبي لم يتسع بالرغم من انطلاق تنفيذ اعلان برشلونة.
ان تقويم برنامج الاتحاد الاوروبي الاول للمعونة والتعاون MEDA I، وهو اداة اساسية من ادوات تنفيذ اعلان برشلونة، قد ادى الى تدابير اصلاحية جوهرية. فهذا البرنامج الاول قد خصص مبلغ 3435 مليون اورو للمساعدات المالية والمنح خلال السنوات 1996-،2000 ولكن التنفيذ الفعلي والمدفوعات لم تبلغ سوى 890 مليون اورو، اي 26 في& المئة من الالتزامات فحسب، كما ان هناك فروقا كبيرة في نسبة التنفيذ عبر البلدان. اما برنامج المعونة والتعاون الثاني MEDA II فيقترح زيادة المبلغ حتى 5350 مليون اورو واصلاحا داخليا في اللجنة الاوروبية، وارتباطا اوثق مع عملية تنفيذ الشراكة الاوروبية - المتوسطية، بالاضافة الى اجراء اصلاح مؤسسي بإنشاء وكالة المساعدة الاوروبية Europe Aid (8). ومن شأن هذه التدابير الاصلاحية العملية ان ترفع نسبة التنفيذ، بحيث تتلقى البلدان الشريكة المزيد مما ينطوي عليه اعلان برشلونة. وبهذا الصدد، من المهم ان يكون تنفيذ اعلان برشلونة فعليا وواضحا في نظر سكان البلدان الشريكة حاليا والبلدان المرشحة للشراكة.
ومهما تكن النية الحسنة لمهندسي اعلان برشلونة وعملية تنفيذه وما تبع ذلك من قرارات سياسية وقرارات تتعلق بالموازنات، فمن الواضح ان النتائج ونسب التنفيذ لبرنامج MEDA هي ادنى من التوقعات.
ومن الواضح ايضا انه يجب تنفيذ الامور في شكل مختلف، كي يتحقق نجاح التعاون واتفاقات الشراكة بين الاتحاد الاوروبي وبلدان حوض المتوسط.
&
مسار برشلونة (9-10) واتفاق الشراكة مع لبنان
ان اتفاق الشراكة المقترح عقده بين لبنان والاتحاد الاوروبي هو حاليا في طور الانجاز، وسوف يحل محل اتفاقات تجارية تفضيلية سابقة واتفاقات اخرى تعود الى عام 1972 وما بعد. ان لبنان يقوم حاليا بتحرير قطاعه الخارجي كما ينفذ سياسة تحرير تجاري، علما بأنه يتمتع، منذ نيسان ،1999 بوضع المراقب في المنظمة العالمية للتجارة. وفي ايار ،2001 قدم لبنان الى المنظمة العالمية للتجارة مذكرة تحليلية عن نظامه التجاري، وهذه مرحلة مهمة في طريق قبوله في عضوية المنظمة. واتفاق الشراكة المقترح سوف يلغي التعريفات الجمركية لينشئ منطقة تجارة حرة خلال فترة تمتد على مدى 12 سنة، مع استثناءات تتعلق ببعض السلع الزراعية والسلع الزراعية المصنعة وغيرها من السلع المصنعة.
واستنادا الى هيكلية الانتاج في الاقتصاد اللبناني، وعلى عكس سائر اتفاقات الشراكة المقترحة مع الاتحاد الاوروبي، فإن اتفاق الشراكة المقترح عقده مع لبنان يدعو الى تحرير الخدمات بين الاتحاد الاوروبي ولبنان. فلبنان لديه نظام حر بشأن حقوق انشاء (11) الشركات وتأسيسها، وهو حرية القيام باستثمارات خارجية مباشرة تتمتع بمعاملة مماثلة للاستثمارات الوطنية، وتاليا فبإمكانه ان يحقق مكاسب من تحرير قطاع الخدمات.
وهذا يعني ان شركات بلدان الاتحاد الاوروبي سوف تعامل اسوة بالشركات الوطنية في لبنان، في حين ان الشركات اللبنانية سوف تتمتع بوضع الدولة الاكثر رعاية في بلدان الاتحاد الاوروبي. وهذا امر يشجع بلدان الاتحاد الاوروبي على انشاء شركات في لبنان، كي تستفيد من علاقاته وروابطه المتينة مع العالم العربي في جميع الميادين المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد اصدر لبنان اخيرا قانونا لتشجيع الاستثمارات، وهو قانون يسهل الحصول على الرخص اللازمة(12) ويؤدي في النهاية الى تعزيز مكانة لبنان كمركز اقليمي للخدمات.
ان اتفاق الشراكة المتوسطة بين لبنان والاتحاد الاوروبي سيكون له اثر مهم في قطاعات اقتصادية عدة لاسيما في الزراعة والصناعة والتصنيع الزراعي. وسوف تحتاج هذه القطاعات الى بذل جهود تضعها على مستوى المهمة المطلوبة، وهذا يعني تحسين رأس المال القومي المادي، واعادة رسملة الشركات، وتحديث الاجهزة والمعدات، واعتماد القواعد والمعايير الدولية، وذلك للتمكن من المنافسة في سوق الاتحاد الاوروبية وفي سائر الاسواق الدولية. وتقدر كلفة هذه الجهود، بما في ذلك توفير خدمات البنية التحتية، بحوالى 1 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي سنويا خلال فترة خمس سنوات. وتجدر الاشارة الى ان لبنان وقع، في حزيران ،2000 على اتفاق مع الاتحاد الاوروبي في شأن برنامج لتحسين الصناعة اللبنانية وتحديثها، وذلك بتمويل قدره 11 مليون اورو.
ومن جهة اخرى، سيكون لاتفاق الشراكة المتوسطة بين لبنان والاتحاد الاوروبي اثر كبير في المالية العامة في لبنان، نظرا الى نطاق المتاجرة مع بلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر (اكثر من 45 في المئة من المستوردات اللبنانية) ونظرا الى اعتماد الخزينة اللبنانية على الايرادات الجمركية (حوالى 47 في المئة من مجموع الايرادات العامة). ومن المقدر ان تبلغ الخسارة في الايرادات العامة حوالى 4.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في نهاية فترة التحرير التجاري. ومن الممكن للكلفة وخسارة الايرادات ان تكون بقدر اكبر اذا تم تحول مهم في التبادل التجاري نحو بلدان الاتحاد الاوروبي، واذا انضمت البلدان المرشحة الى عضوية الاتحاد، ومن اجل التعويض جزئيا عن الخسارة في الايرادات العامة وكجزء من مجهود اوسع لاصلاح المالية العامة والنظام الضريبي، يعتزم لبنان بحلول 2002 اعتماد ضريبة ذات قاعدة واسعة هي الضريبة على القيمة المضافة. (النهار اللبنانية)
&
وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة سابقاً،
وهو حالياً النائب الاول لحاكم مصرف لبنان
&