"من كثرة المظالم يصرخون. يستغيثون من ذراع الأعزاء" (ايوب 9:35). الزمان كله تاريخ ظلم من الأعزة على الأذلة، كأن المقهور لا يستطيع لفت القهار اليه لأن القوي ليس في حاجة الى من يكلمه فقد حاز الدنيا كلها وما عساك تزيد على الدنيا التي له فإن وعى كبره لا يكتمل بأحد. وحده الفقير يتكىء على الفقير لانهما مسحوقان معا. يتلاقيان في هذا الجزء اليسير الذي يغتصبانه ليستمرا في هذا النزر القليل من الوجود. وقد وضعهما اصحاب الوجود في الظلام.
في اللغة، الظلم وضع الشيء في غير موضعه أي جعله غير مرئي وكأنك القيت الظلام عليه. المظلومون يجمعهم هذا الظلام الذي يلغي وجوههم. لهذا بعدما قتل قايين اخاه هابيل قال الله لقايين أين& هابيل اخوك. فقال لا أعلم. أحارس انا لأخي (تكوين 99:4). لنا ان نستبطن آخر الآية هكذا: اذا كان أخي موجوداً أنا حارسه. ولكنه غير موجود لأني شئت له عدم الوجود. نفس قايين لم تقبل هابيل ذاتا. "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتلته" (سورة المائدة 30). علاقة الاول بالثاني علاقة الغاء.
الرؤية اللاهوتية للظلم في استنادها الاساسي الى العهد القديم تكشف ان الله لا ظلم فيه وان الارض بالمقابل امتلأت ظلما. غير ان البار الآتي من كلمة الرب لا ظلم في يديه لكن اعداءه يبغضونه ظلما. والمرجو عند الانبياء الكبار الا يبقى ظلم في الارض. وتتوالى المترادفات: الظلم، المعصية، الاغتصاب. قبل النهاية يقول سفر الرؤيا: "من يظلم فليظلم بعد" (10:22) غير ان هذا كله سيكف بمجيء المسيح في الأخير لانه "الألف والياء، البداية والنهاية، الاول والآخر". عندئذ يكون سكن الله مع الناس ويكون& "كل شيء جديدا".
في كل حقول الوجود ترى الظالمين. ربة المنزل التي تجور على الخادمة، مدير العمل الذي يقسو أو يتعسف، الشرطي الذي يسجل مخالفة حيث لا مخالفة، الزوج الامار لذكورة يعتبرها امتيازا، الحاكم اذا استبد، كل هؤلاء أمثلة عادية في التحكم المنثني في نفوس لا تزهو الا بتطويع الناس. هناك أمزجة لا توجد الا بالإذلال أو الاقصاء أو الالغاء.
هناك أنظمة سياسية قائمة على الاسكات، على المحو وتختفي وراء هاجس الامن او السلام الاهلي تثبيتا لدوامها. والديمومة، اذا اردتها مبدأ، تقودك الى اهتزاز الآخر او تواريه في صمت هو زي وجوده في المجتمع السياسي.
* * *
وما قيل في الأفراد يقال في الدول القادرة على التحكم في ظرف زمني محدد. هناك فلسفة ضمنية في الدولة قائمة على الفكر السياسي الآحادي الذي لا يتاخمه فكر آخر أو يوازيه أو يسائله لأن الفكر الآحادي له نفسيا عند صاحبه قيمة الوحي الذي لا يناقشه بشر. في زمن قيل فيه ان اندثرت الايديولوجيات تعود هذه في عقائدية لا تقال ولكنها تعاش. في الحقيقة اننا نعيش زمنا، القوة فيه هي العقائدية الوحيدة وان لم يجرؤ المستكبرون على ان يقولوا ذلك بسبب ادعائهم نظاما انسانيا.
* * *
لا أفهم الميكانيزم الذي يدفع دولة الى الاستعمار او الامبرالية أو بسط النفوذ. ما من شك في ان الشعوب طيبة وانها قادرة في الثقافة والتجارة على ان تنمو وتتعاون. الشعوب كلها طيبة وتريد ان تعيش بسلام وان تربي أولادها فيحبوا أولاد الجيران والاصدقاء. ليست الجماعات البشرية هي التي تخوض الحروب. لا أحد يريد ان يصبح اولاده قتلة. من يدفع البشر الى الموت؟ هناك مصالح اقتصادية كبرى لا ريب في ذلك. هناك سلاح جديد يجب تصريفه ومنتجات زراعية لا بد من تحويلها الى صناعات في الدول المصنعة. ثم هناك نفط وغاز وما الى ذلك. وتجلس الشركات المتعددة الجنسية فوق هذا كله. ما من شك في ان ثمة آلة اقتصادية تفرز آلة حربية وتغطي هذه العملية بالمبادىء الكبرى وحب الوطن فيؤمن البسطاء انهم مهددون ويسيرون الى الذبح متغنين برسالة حضارية. من رفَض العلم والرقي ان لم يصحبها سلاح وادارة استعمارية؟
لقد افتضحت أخيرا الاكذوبة القائلة ان هذه الدولة أو تلك تريد بسط الديموقراطية والحرية عند غيرها بعدما بات معروفا ان الدول المتمدنة تفرض بفرح كبير أنظمة عسكرية هنا وثمة فتمارس ديكتاتورية في بلدها ويستنزف الحكام فيها جماهيرهم ويثرون. الدول الكبرى لا ترفض استمرار الفساد عند حكام الدول الصغيرة التابعة. الظلم بضاعة يصدرّها الكبار وينتفع بها الصغار.
* * *
يظلم الانسان والدولة والمافيات من الخوف. لا يكذب أحد، لا يسرق أحد، لا يقتل أحد الا من خوف. الظالم لم يحقق نفسه، لم يهنأ بما وفره الله له. الاضطراب من عدم الغنى او من قلته، من عدم الفرح أو قلته، من عدم السلام، كل هذا يجعل في نفس الظالم عبودية تنتقم لنفسها باستعباد الآخرين. بكلام آخر يظلم الظالم من كون قلبه لم يشاهد الإله، من كونه في العتمات. يضرب انى أتت ضرباته. ينشر الموت ويعيش منه أو يظن ذلك وهكذا يذهب من ايهام الى ايهام.
ليس أحد مثل القرآن فهم ذلك. أكثر من ثلاثمئة أية فيها جذر ظَلمَ. وليس المجال لاورد المعاني كلها. غير ان ما تفرد به القرآن في حسباني هو فكرة ان الانسان يظلم نفسه كما في قوله: "ومن يفعل ذلك فقط ظلم نفسه" (سورة البقرة، الآية 231). كذلك: "رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي" (القصص، الآية 16). المظلوم الاول هو الظالم. وينفي الكتاب الظلم عن الله فيؤكد: "وما ظلمناهم ولكن ظلموا انفسهم" (سورة هود، الآية 101). هنا وثمة يربط القرآن الظلم بتعدي حدود الله، بالكفر، بالضلال، ولكن عندي ان ما تميز به هو ان الظالم يؤذي نفسه.
* * *
حيال القهر المستولي على التاريخ، على حياتنا اليومية، نتوق تاريخا غير هذا ودولا غير هذه ونشتهي ألا يجور سيد على مسود وأب على ابنه وحاكم على مواطن وقاض على من تقاضى. نتوق ملكوت العدل يسود الظاهر، اعني أهل السلطان، ويسود الباطن، أعني قلوبنا. هل يكون لملكوت الله صورة في زمان الناس؟
ان الفكر الديني في صميمه، مع كونه يرجو العدل في اليوم الأخير، يدعو الى النضال في سبيل العدل الآن وهنا. ان نرفع الظلم عن القلب القهار فيه لعمري الكثير من التطهر. وعندما كان اصدقائي يلومونني لكوني اصدّق كل الناس وتالياً يخدعني الكثير منهم كنت أجيب اني اؤثر ان انخدع تسعا وتسعين مرة من ان أظلم أحداً مرة. انه لمؤذ كثيراً للنفس ان تفترض ان ما ينويه مخاطبك هو كذا وكذا ولا يكون الأمر صحيحا.
ومن عدل الله انه يراك كما انت ولا ينسب اليك في دينونته ما ليس فيك. أقل ما يطلب من الانسان ان يصبح عادلا على صورة الله هذه وان يعدل بين الناس اذا احتكموا اليه ولا يحابي الوجوه. غير ان العدل الكبير لا يستقيم لك ما لم تحب الاخوة جميعا كما الله احبهم. فقط اذا احسوا بمحبوبيتهم يدركون ملكوتا معطاء لا ظلم فيه.(النهار اللبنانية)
&