(1821-1867)&
&
عبدالقادر الجنابي
تبرهن الدراسات البودليرية منذ مطلع ستينات القرن العشرين على أن قصائده النثرية تحظى بدراسات أكثر مما ناله كتابه "أزهار الشر." وهذا لم يحصل فقط مع بودلير، بل مع مالارميه الذي أصبحت أعماله النثرية اليوم محط دراسات جدية أكثر من أشعاره التي تبدو وكأنها قد نسيت، وكذلك مع رامبو الذي لولا "الاشراقات" لكان في عداد المنسيين مهما كانت قصائده الموزونة كـ"القارب السكران" جميلة، ومع بول
كلوديل الذي راحت أوزانه وقوافيه تتلاشى أمام هذا المد النثري الهائل في كتابيه "معرفة الشرق" و"الطير الأسود في الشمس الطالعة". أما ماكس جاكوب فلولا "كوب الزّار" لما عرف أحد ما الذي سيبقى منه! كما أن أحد المهتمين بالروحانيات قال إنّ "قصيدة النثر تعرّض مؤلفها إلى شر القوى العليا"، مؤكدا كلامه عن سوء حظ برتران الذي اختفى قبل أن يتمكن من طبع كتابه، وبالشلل الذي منع بودلير من استكمال مجموعة قصائده النثرية، نهاية رامبو الفظيعة الذي لعله لم يعلم أن "الاشراقات" قد طبعت. يقيناً إن نكد الطالع لم يراع شعور هؤلاء الشعراء، لكن عملهم لم يعرف، وهذه هي المعاناة، أين يختلف شكله من هذا الذي أرادوا إعطاءه. لكن نحن هنا في صدد هذا الذي وصفه رامبو بـ"الرائي الأول، ملك الشعراء، إله حقيقي" : شارل بودلير.
أولاً، يجب توضيح معنى كلمة& Spleen. إنها لفظة انكليزية تعني "الطحال" على أن الرومانتيكيين حمّلوها معنى جديدا في كتاباتهم الشعرية، وهو المعنى الذي دخل اللغة الفرنسية: "المنخوليا" أو "السُويداء". وفي المناسبة إن كلمة "السَوداء" تعني بالعربية في آن الطحال ومرض المنخوليا. وفي العامية العراقية، عندما نريد أن نصف شخصاً سوداوياً وكئيباً نقول: "مطوحل". لعل أقرب ترجمة إذاً لعنوان قصائد بودلير النثرية Le Spleen de Paris هي "سوداوية باريس". ثانياً إن بودلير كان متردداً بين عناوين عدة لقصائده& النثرية الصغيرة" هذه: "قصائد ليلية"، وهو عنوان أشبه برد الجميل إلى الزيويس برتراند. ثم العنوانان التاليان: "المتنزه المنفردُ بنفسه" و"الجوّال الباريسي" اللذان يختصران انهمامات حقيقية بباريس يتناولها بعض قصائد الكتاب. غير إنّ بودلير، اعتباراً من العام 1863، بدأ يفكر في عنوان جديد يتردد كثيراً في رسائله: "سوداوية باريس". لكن عددا من النقاد يرفض وضع هذا العنوان على مؤلَّف مات بودلير قبل الانتهاء منه. كما أن الكثير من القصائد التي جمعت في هذا الكتاب وهي قصائد بودلير، فكر، حقاً، في ضمها، لا تتناول باريس، بل لا علاقة لها البتة بهذه المدينة، وإنما ببقاع ومدن أخرى. لذا أتفق الجميع على وضع عنوان: "قصائد نثر صغيرة" (والمعنى هنا قصيرة) مع عنوان فرعي: "سوداوية باريس". وأفضل توضيح لمشروع بودلير النثري الملاحظة التي كتبها الناقد الفرنسي غوستاف بوردان (ويقال أن بودلير أسرّها إليه) في "الفيغارو" في 7 فبراير/شباط 1864:
"سوداوية باريس" هو عنوان تبنّاه السيد شارل بودلير لكتاب يحضّره، ويريده أن يكون خليقاً بـ"أزهار الشر". وبالطبع، إن كل ما قد أقصيَ من الصنيع الشعري المقفى والموزون، وما صعب عليه التعبير عنه، كل التفاصيل المادية، بل كل لحظات الحياة النثرية، تجد مكانها في العمل النثري حيث المثالي والمبتذل ينصهران في ملغمة متلاحمة. من جهة أخرى، إن الروح الكئيبة والمريضة التي افترضها المؤلف ليكتب "أزهار الشر"، هي تقريباً نفسها التي تؤلّف "سوداوية باريس". وفي العمل النثري هذا، كما في الديوان المنظوم، كل ما يوحيه الشارع، الظرف والسماء الباريسيان، كل انتفاضات الوعي، لواعج التخيّلات، الفلسفة، الحلم، وحتّى النادرة، يمكن كل هذا أن يأخذ دوره بالتناوب. فالأمر يتعلق فقط بالعثور على نثر يتكيف والحالات المختلفة لروح المستطرق الكئيبة. قراؤنا سيحكمون إن كان السيد شارل بودلير قد نجح في هذا.
يظنّ بعض الناس أن لندن لها الحظ الأريستوقراطي في أن يكون لها سوداوية، وإن باريس، باريس البهيجة، لم تعرف قط هذا المرض الأسود. لعل هنا، كما يزعم المؤلف، نوعاً من سوداوية باريسية؛ ويؤكد أن هؤلاء الذين عرفوها، وسيتعرفون عليها عددهم كبير."

توفي بودلير في 31 آب 1867 وفي اليوم الذي حُمل فيه إلى المقبرة& برفقة شلة صغيرة من الأصدقاء والمعجبين، كان المطر شديداً والجو كئيباً، وعلى بعد خمسين متر، كانت هناك جنازة أخرى فخمة مصحوبة بالجوقات والطبول والهيئات الرسمية لأحد صغار موظفي الشرطة. ألا نرى هنا قصيدة نثر مُرة امتزج فيها المِثال، بودلير، بالعادي والمبتذل، رجل الشرطة الصغير؟
صفحة من مخطوطة ازهار الشر
"مع بودلير"، يقول والتر بنيامين، "باريس أصبحت للمرة الأولى موضوع الشعر الغنائي. والشعر هذا ليس فولكلورا محليا؛ فنظرة الشارح الرمزي التي تقع على المدينة هي بالأحرى نظرة إنسان مغترب. إنها نظرة المستطرق الذي أضفت طريقة حياته على فاقة البشر المتنامية في المدينة الكبيرة بصيصاً إسترضائياً."
في الحقيقة إن ثورة بودلير الثانية هذه، حيث يتماهى الحدث العادي واللقطة السامية في نثر حياتي جديد، جاءت في عز تعبيد شوارع باريس وتحديثها. وشعر بودلير إن قصيدة النثر هي القادرة على التعبير عما ترسل المدن الكبرى من شعاع شعري وأبدي إلى معالم الحياة اليومية. وبما أن لكل حقبة شاعرها العرّاف الذي يُسرّ إلى أهلها بحقائق ظاهر ما تجدد وباطنه، فإن بودلير هو، عن حق، شاعر الحقبة البورجوازية. إذ هو أول من التفت إلى الدفق الشعري الكامن في هذه المعالم، وإن كانت هي عابرة وزائلة تاريخياً، فقد راحت تتلمح زخماً حسياً غرضه تحديث الإنسان ودفعه إلى الأمام. ولذلك عبر بودلير عن هذا الجديد بكلمة صارت عنوان الخلق والتقدم: الحداثة، مشيراً إلى كل ما يتأتى عن حسيّة جمالية لم تدركها الأزمنة السابقة، مُميزة بقدرتها على إدراك ما هو أبدي وشعري في هذا العابر والزائل. روبرت كُب الذي حقق كتاب بودلير كتب في مقدمته لـ "سوداوية باريس": "إن ديوان "أزهار الشر" يفتح الطريق إلى الشعر الحديث، بينما كتاب "قصائد نثر صغيرة" يستهل شعر الحداثة." والكلام هذا صحيح ، لأن البطل المضمر في كل قصائد بودلير النثرية هو هذا المُستطرق Le flâneur& الذي يختلف عن المتسكع المتحول أثناء تطوافه إلى جزء من هذه المعالم المترامية مشهداً خلاباً، وهكذا يُحبس عن أية قدرة نقدية كامنة، ويصير جزءاً من هذا المشهد فيضيع فيه ضياعاً تاماً. بينما المستطرق متسيّب بإرادته في الطرقات والمعابر، تاركاً حاسته التشكيلية السوداء والعيناء تتفرج على هذه الأزياء، الزحام، واجهات المحلات، بائعات اللذة الخ...، راصدة في هذه المعالم العابرة والزائلة كل ما هو أبدي منفلت، وشعري عارض.
&
القصائـــــــد
&
النّوافذ
&
هذا الذي ينظر إلى الخارج خلال نافذة مفتوحة، لن يرى من الأشياء مقدار ما يرى مَن ينظر إلى نافذة مغلقة. إذ ليس هناك شيءٌ أعمقَ، أغمضَ، أخصبَ، أكثفَ وأبهرَ من نافذةٍ تُضيئها شمعةٌ. إنّ ما نستطيع رؤيته في وضح الشمس لهو، دوماً، أقل أهميّة مما يجري وراء النافذة. ففي هذا الجُحر الأسود أو النُّورانيّ، تعيش الحياة، تتألّم الحياة.
ألمحُ، في الناحية الأخرى من أمواج السطوح، امرأة ناضجةً، وجهها متغضّنٌ؛ فقيرة الحال؛ مُنحنيةٌ دوماً على شيءٍ ما؛ لا تُغادر منزلها أبداً. من وجهها، لِبْسِها، تلميحاتها، تقريباً من لا شيء، استعدتُ قصة هذه المرأة، بل سيرتَها، وأحياناً أرويها لنفسي باكياً.
ولو كانت شيخاً مسكيناً، لاستطعت أيضاً والسهولة نفسها استعادة قصّته. ثم أخلد إلى النوم فخوراً بأنّي عشتُ وعانيت في حيواتٍ أخرى غير حياتي.
وربَّ سائلٍ يقول لي: "أمتأكّدٌ أنّ هذه السيرة هي الأصحُّ؟" وماذا تهمّ معرفة الواقع القائم خارج نفسي، بما أنّه يساعدني على أنْ أعيش، أنْ أشعر أنّي موجود، وأنّي أنا نفسي؟

&
فقدان الهالة

"ما هذا! واعَجَباً! أنتَ هنا! أنتْ، يا صديقي، في مكان سيئ كهذا! أنت الذي يشرب من الجوهر، ويأكل من طعام الآلهة! هذا أمرٌ يدهشني فعلاً.
- تعرف، يا صديقي، كم أرتعب من الخيل والعربات. قبل قليل، وأنا أعبر البولفار على جَناح السُّرعة، خائضاً في الوحل خلال هذه الفوضى غير المُستتبة، حيث الموت يراودك من كل جانب، انزلقت من رأسي هالتي، إثر حركة مفاجئة، في وحل الشوارع المعبّدة. لم تكن لي شجاعة التقاطها. وجدتُ أن فقدان علامة مَجدي أقل هوناً من أن تتكسر عظامي. ثم، قلت بيني وبين نفسي: ربّ شرٍّ نجمَ عنهُ خيرٌ. الآن أستطيع أن أتجول خفيةً؛ وأرتكب أعمالاً خسيسة؛ أن أنغمس كسائر الفانين البسطاء، في الخلاعة والفسق. وهاأنا الآن، كما ترى، مثلك بالضبط.
- ولكن انشرْ على الأقل إعلاناً عن هذه الهالة؟ أو بلّغ البوليس ليدبّر تعويضاً؟
- لعَمري، كلا! أشعر بالارتياح هنا. أنت الوحيد الذي تَعرّفَ عليّ. ثمَّ إنّ الوجاهة أخذت تزعجني. ناهيك بأنّي أشعر بفرح شديد أن شاعراً رديئاً سيلتقطها ويضعها بكل صفاقة على رأسه. يا لها متعة، أن تجعل شخصاً آخر سعيداً، وسيجعلني بالأخص أضحك. فكّر معي في "هاء" أو في "خاء"! ألا ترى كم سيكون الحال مضحكا؟"

&
نِعَم القمر
&
القمر، النزوة عينُها، نظر من النافذة وأنت نائمة في مهدك، فقال لنفسه: "الطفلة هذه تعجبني."
نزل باسترخاء سلّمه المصنوع من السحاب، ودلف عبر الزجاج بلا ضجيج. ثم أستلقى عليك بحنان أمومي دمث، وحط ألوانه على وجهك. فاحتفظت حدقتاك بلونهما الأخضر، وخداك بقيتا شاحبتين كل الشحوب. وعيناك لم تتسعا بهذا الشكل الغريب إلا عندما تأملت زائرك هذا، وضمك برقة حتّى ظللت محتفظة برغبة في البكاء.
في هذه الأثناء، وفي انتشار فرحه، أخذ القمرُ يملأ الغرفة جواً فُوسفورياً، سماً لامعاً، وكان كل هذا النور الحي يفكر ويقول: "ستكابدين إلى الأبد تأثير قبلتي. ستكونين جميلة على طريقتي. ستحبّين ما أحب أنا: الماء، السحاب، الصمت والليل، البحر الأخضر الذي لا حدّ له، الماء العديم الشكل والمتعدد الأشكال، المكان حيث لن تكوني، العاشق الذي لن تتعرفي عليه، الأزهار الوحشية، العطور التي تسبب الهذيان، القطط التي يُغشى عليها فوق آلات البيانو، والتي تنوء كالنساء بصوت أجشّ وعذب!
"كما سيهيم بك عشاقي، تغازلك حاشيتي، ستكونين ملكة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين هم أيضا ضممتهم من خناقهم إبان مغازلاتي الليلية، هؤلاء الذين يعشقون البحرَ، البحر الذي لا حدَّ له، الهائج والأخضر، الماءَ العديم الشكل والمتعدد الأشكال، المكانَ حيث لا يتواجدون، المرأة التي لا يعرفونها، الأزهار المشؤومة التي تشبه مباخر دينٍ غير معروف، العطور التي تشوُش الإرادة، الحيوانات الوحشية والشهوانيّة رموز جنونهم."
لهذا، أيتها الطفلة العزيزة اللعينة المدللة، إني أضطجع الآن عند قدميك باحثاً في كل كيانك عن انعكاس الألوهيّة المريعة والعرابةِ المنبئة عن الغيب والمُرضعةِ التي تسمم كل الذين بهم مسٌّ قمري.

&
ساعة الحائط
&
يرى الصّينيون الساعة في عين القطط.
ذات يوم وهو يتنزّه في ضاحية نانكين، لحظ مبشّرٌ بأنّه نسي ساعته، فسأل ولداً صغيراً "كم الساعة الآن؟"
تَردد صبيُّ الإمبراطورية السماويّة في بدء الأمر، ثمّ غيّر رأيه فأجاب "سأقول لك". وسرعان ما عاد حاملاً قطّاً ضخماً بين ذراعيه، وبعد أن حدّق، كما يقال، في بياض العين، أكّد من دون أيّ تردد: "إنّها ليست الظهيرة بالضبط"، وهذه هي الحقيقة بالفعل.
أمّا بالنسبة إلي أنا، فإذا انحنيت صوب سنَّوريتي الجميلة، اسم طبق المرام، التي هي في آن كرامة جنسها، كبرياء قلبي وعطر روحي، فإنّي أرى، سواء في الليل أو في النهار، في نور النهار أو في الظل الكثيف، الساعةَ بكل وضوح في أعماق عينيها الرائعتين، ساعة، هي ذاتها على الدوام، شاسعة، مهيبة، جسيمة كالفضاء، غير مقسّمة إلى دقائق أو ثوان - ساعة ثابتة لا تتحرّك، لم تشر إليها أيّة ساعة حائط، ومع هذا فإنّها خفيفة كنهْدة، وسريعة كلمح البصر.

وإذا جاء ثقيل لإزعاجي فيما نظري مستقر على هذه الميناءِ اللذيذة، أو جاء جنّيُّ فظّ ومتشدد، أو شيطانُ طارئٍ ليقول لي: "إلى ماذا تنظر بهذا الاهتمام الشديد؟ عمّ تبحث في عين هذه الكائنة؟ أترى، أيّها الفاني المُسرف الكسول، الساعةَ فيها؟" لأجبت بلا تردد: "نعم إنّي أرى الساعة: لهي الأبدية".
بودلير ومدام ساباتييه لوحة للرسام توماس كوتور
ألا تعتقدين، يا سيدتي، أن غزلية هاهنا تستحق التقدير، وهي مفخّمة مثلك؟ كم تمتعتُ بتدبيج المغازلة المتكلّفة حتّى أني لن أطالبك بأي شيءٍ مُقابل ذلك.

الرّغبة في الرّسم
&
&لعلّ الإنسان سيئ الحظّ لكن الفنان الذي تمزّقه الرغبة محظوظٌ.
أتحرّقُ رغبةً في رسم هذه التي قلّما تراءت لي والتي هربت سريعاً كأي شيء جميل تركه متأسفاً مسافرٌ ذهب به الليل. لقد مضى أصلا زمن طويل على اختفائها.
جميلة، بل أكثر من جميلة، إنّها مدهشة. فهي تزخر بالسواد: وكلّ ما توحي به لهو ليلٌ وعميق. عيناها كهفان حيث يتلألأ الغيبُ بخفاء، ونظرتها تنير كالبرق وكأنّها انفجار في الظُلُمات.
كنت لأقارنها بالشمس السوداء لو كان من الممكن تصور نجمٍ أسودَ يسكب النور والسعادة. لكنّها تذكّرني أكثر بالقمر الذي وسمها بلا ريب بتأثيره المخيف، لا بالقمر الشاحب قمر الغزليات الرعويّة الذي يشبه عروساً باردة، وإنّما بالقمر المريع المثير للحواس، المعلّق في أعماق ليلة عاصفة يتدافع فيها الغيم الراكض، لا بالقمر الهادئ والمحتشم الذي يزور منام الناس الأبرياء، وإنّما بالقمر المُنتزَع من السماء، منهزماً وناقماً، كأن تجبره بالقوّة ساحرات "ثيسالي" على الرقص فوق العشب المرتعد.
فوق جبينها الصغير تقطن الإرادة العنيدة وحب الافتراس. في حين أنَّ، أسفل هذا الوجه الذي ينمّ عن قلق، حيث مناخير رَجراجة تستنشق المجهول والمستحيل، تنفجر، بأناقة لا تُفسَّر، ضحكةُ فمٍ عريض، أحمر وأبيض ولذيذ، يجعلني أحلم بأعجوبة زهرة مدهشة تتفتّح في الأرض البركانيّة.
ثمّة نساء يشوّقن المرء إلى قهرهن والتمتّع بهن، إلا أنّ هذه تحفّز على الموت ببطءٍ أسفل نظرتها.


الزحام

لم يتيسر لكل إنسان أن يستحم في حشد من الناس: إن التمتع بالزحام فنٌ؛ ولا يستطيع القيام بعربدة حيوية، على نفقة الجنس البشري، سوى هذا الذي نفخت جنية فيه، وهو في مهده، طعمَ التنكّر والقناع، كراهية البيت وحب السفر.
حَشدٌ، وَحْدةٌ: مفردتان متعادلتان وقابلتان للتحوّل بالنسبة إلى الشعراء النشطين والغزيرين. هذا الذي لا يعرف كيف يجعل وَحْدته مكتظة، لا يعرف أيضاً أن يكون وحيداً وسط زحامٍ منهمكٍ في أشغاله.
الشاعر يتمتع بهذا الامتياز الذي لا نظير له، في أن يكون كما يشاء هو نفسه والآخر. مثل هذه النفوس التائهة التي تبحث عن جسد، يدخل، متى يشاء، شخصية أي كائن آخر. بالنسبة إليه وحده، كلُّ شيءٍ فارغٌ؛ وإذا بدت أماكن مغلقة أمامه، فلأنها لا تستحق في نظره أن تزار.
يستمد المتنزّهُ المتأمل والمنفرد بنفسه ثمالةً فريدة من هذا الاتحاد الكوني. ذاك الذي ينسجم بسهولة مع الزحام يتمتع بملذات محمومة، يُحرم منها الأناني، المنغلق على نفسه كخزانة، والكسول المحجوز كمحارة. الشاعر يتبنى، وكأنها خاصته، كل المهن، كل المتع وكل أشكال البؤس التي يتعرض لها بسبب الظروف.
إن ما يسميه الناس بـالحب هو فعلاً شيءٌ صغيرٌ، محدود وضئيل، مقارنةً بهذا الفجور الفائق الوصف، بعهر الروح المقدس هذا& الذي يستسلم بأكمله، شعراً وإحساناً، للطارئ الذي يتجلى، للمجهول الذي يمر.
من المستحسن أحياناً إعلام سعداء العالم، فقط لتحقير كبريائهم التافه للحظة واحدة، بأن ثمة سعادة أكبر وأفسح وأرفع من سعادتهم. مؤسسو المستعمرات، رعاة الشعوب، المبشرون المنفيون في أقصى العالم، يعرفون بلا شك بعض هذه الثمالة الغامضة؛ ومن المحتمل إنهم، في حضن العائلة الكبرى التي خلقتها عبقريتهم، يضحكون أحياناً من هؤلاء الذين يشفقون عليهم بسبب حظهم المضطرب وحياتهم العفيفة.

&
&
* المقدمة والقصائد من كتاب عبد القادر الجنابي&"الأفعى بلا رأس ولا ذيل: انطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية" يصدر قريباً عن دار النهار - بيروت.