&
القاهرة: نبيل شرف الدين
كأن الملاحقات الأمنية والقضائية ، هي قدر الشاعر والمسرحي الراحل نجيب سرور حياَ وميتاً ، فقد فوجئ ابنه شهدي سرور ، الذي يعمل أخصائي كمبيوتر بمؤسسة "الأهرام"& بمباحث حماية الآداب في مديرية أمن القاهرة ، تهاجم منزله في حي السيدة زينب بالقاهرة ، وتحتجزه قبل أن تحيله على النيابة العامة التي أمرت بإخلاء سبيله بكفالة مالية كبيرة ، بعد أن توجه له تهمة هي غريبة وهي تأسيس ونشر موقع عبر الإنترنت يدعو للإباحية ، ويخدش "الحياء العام" ، في الوقت الذي تغص فيه الشبكة بملايين المواقع الجنسية الفاضحة والصريحة ، وغير المحظورة في مصر أساساً حيث لا توجد نظم "بروكسي" كالمعمول بها في دول الخليج العربي، أو غيرها من الدول العربية
وتهمة شهدي سرور "الغريبة" تمثلت في قيامه بنشر أعمال ودواوين والده الشاعر والمسرحي الراحل ، ومنها الديوان الشهير "رباعيات نجيب سرور" ، الذي اعتبرته المباحث المصرية عملاً إباحياً ، إذ أنه يستخدم أدوات المسكوت عنه اجتماعياً وسياسياً ، وهو عمل يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً مضت ، ومنذ نهاية الستينات ومطلع السبعينات حين كان نجيب سرور أحد أهم الشعراء والكتاب المسرحيين الذين أصابهم الاحباط إثر هزيمة يونيو حزيران 1967 ، والتي أثرت سلباً في كل أبناء هذا الجيل .
ولم تكتف مباحث الآداب المصرية بالقبض على شهدي ، بل صادرت كمية كبيرة من الأقراص المدمجة التي عثرت عليها في منزل شهدي ، وزعمت أنها تحتوي على المواد التي بثها عبر موقع "نجيب سرور" ، وقد أكد شهدي لـ "إيلاف" أنها أقراص تحتوي على برامج ومواد لا صلو لها من قريب أو بعيد بالموقع .
مأساة تتجدد
جدير بالذكر أن نجيب سرور ، وُلد في أول يونيو ( حزيران ) 1932 في قرية إخطاب ( الدقهلية ، مصر ) وكان لا يزال تلميذاً صغيراً عندما بدأ يقول شعراً نضالياً ، وقد برزت ميوله المسرحية في مطلع شبابه , فترك دراسة الحقوق و هو في سنتها النهائية والتحق بمعهد التمثيل ( المعهد العالي للفنون المسرحية ) وحصل علي الدبلوم عام 1956 .
وعند تخرّجه انضمّ إلي " المسرح الشعبي " الذي كان تابعاً لمصلحة الفنون ، وكان مديرها القاص والروائي المعروف يحي حقي .
اشترك في أعمال " المسرح الشعبي " بالتأليف والخراج والتمثيل .
في أواخر عام 1958 سافر في بعثة إلي الاتحاد السوفيتي (السابق) ، حيث درس الإخراج المسرحي .
وفي عام 1963 انتقل إلي المجر وظلّ بها حتى العام 1964 ، عاد بعدها إلي الوطن ، حيث شهدت القاهرة فترة ازدهار إنتاج سرور المسرحي والشعري والنقدي ، فكان أحد أهم فرسان المسرح المصري المتميزين في فترة الازدهار المسرحي العربي المدهش خلال الستينات .
خلال وجوده في موسكو تزوّج من طالبة الآداب السوفيتية ساشا كورساكوفا وله منها ولدان هما شهدي و فريد .
في فترة السبعينات عاني نجيب سرور ظروفاً مأسوية : اضطهد ، وجاع , وتشرَد , وطورد ، وفُصل من أكاديمية الفنون حيث كان يعمل أستاذاً للإخراج والتمثيل .. واُدخل عدة مرات إلي مستشفى الأمراض العقلية ! ..
توفي نجيب سرور في 24 أكتوبر 1978 بمدينة دمنهور ، مصر بعد أن نكل به رجال عهد الرئيس المصري الراحل السادات ، حيث تم فصله من عمله في نتيجة لآرائه السياسية الحادة ، ومنع من العمل المسرحي أو الإذاعي ، وحظرت مقالاته في كل الصحف المصرية ، وخاض تجارب مأساوية انتهت باتهامه "زوراً" بالجنون ، حيث أجبر على دخول مستشفى الامراض العقلية ، بعد أن نشر في أوساط المثقفين المحبطين حينئذ قصائد يسخر فيها من السلوك السياسي والشخصي للسادات ، خاصة في سنوات حكمه الأولى .
أعمال سرور
وقد تنوعت أعمال الشاعر المصري الراحل نجيب سرور بين النصوص الدرايمة والنصوص الشعرية ، والأعمال النقدية فضلاً عن الإخراج المسرحي ، والتمثيل.
النصوص الدرامية :
شجرة الزيتون
تابلوه غنائى ، قُدمت عام 1958 ، من إخراج الشاعر نفسه .
&
يسين و بهية&&
رواية شعرية ، كتبت عام 1964 في بودابست و أخرجها كرم مطاوع في العام نفس علي مسرح الجيب .& نشرت في سلسلة "مسرحيتي" عام 1965 . ( و هي تشكّل الجزء الأول من " ثلاثية " سرور ، التي تضم أيضاً: " آه يا ليل يا قمر " و " قولوا لعين الشمس " ) .
آه يا ليل يا قمر&&
مسرحية شعرية ، كتبت عام 1966 في الأسكندرية ، أخرجها جلال الشرقاوي علي مسرح محمد فريد عام 1967، و صدرت في منشورات دار الكاتب العربي عام 1968
يا بهيه وخبريني&&
كوميديا إنتقادية كتبت عام 1967 ، إنتقد فيها نجيب سرور منهج إخراج جلال الشرقاوي في "اه ياليل ياقمر".& و قُدمت في العام نفسه بإخراج كرم مطاوع علي مسرح الجيب . و نشر نصها ضمن كتاب " حوار في المسرح " الصادر عن " دار الأنجلو المصرية " عام 1969.
آلو يا مصر
مسرحية نثرية ، كتبت في القاهرة عام 1968. نشرت في مجلة " آفاق المسرح " عام 1994 .
ميرامار&&
دراما نثرية إقتبسها نجيب سرور من رواية بنفس الاسم للروائي المصري نجيب محفوظ.& أخرجها نجيب سرور لفرقة المسرح الحر عام 1968علي مسرح الزمالك. لم تنشر.
الكلمات المتقاطعة&
مسرحية نثرية ، كتبت عام 1969. حولها المخرج جلال الشرقاوي إلي عمل تليفزيوني في العام نفسه ، و أخرجها شاكر عبد اللطيف لمسرح الجامعة عام 1979. نشرت ضمن سلسلة "أصوات" بالثقافة الجماهيرية عام 1996.
الحكم قبل المداولة&
مسرحية نثرية ، كتبت عام 1969، نشرتها دار " ألف " بالقاهرة في أواسط الثمانينات، عرضت عدة مرات بالجامعات المصرية و بالثقافة الجماهيرية.
البيرق الأبيض&
مسرحية نثرية ، كتبها نجيب سرور عام 1969، فقد المخطوط الأصلي بأحد فنادق القاهرة .
ملك الشحاتين&
كوميديا غنائية ، مقتبسة عن " أوبرا الجروش الثلاثة " لبرنرد برخت و " أوبرا الشحاذ " لجون جاي ، كتبت عام 1970 ، و قُدمت بإخراج جلال الشرقاوي عام 1971 ، نشرت ضمن المجلد الثاني من أعماله الكاملة عام 1995.
الذباب الأزرق&
كوميديا سوداء كتبت عام 1971 ، عقب مذابح أيلول الأسود . أخرجها بنفسه لفرع منظمة التحرير الفلصطنية في القاهرة ، و منعتها الرقابة عرضها ، نشرت ضمن المجلد الثاني من أعماله الكاملة عام 1995.
قولوا لعين الشمس&
مسرحية نثرية في ثلاثة فصول ، كتبها عام 1972 ، قدمت بإخراج توفيق عبد اللطيف علي المسرح القومي عام 1973 ، نشرتها أولاً مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1976.
&&&
منين أجيب ناس&
مسرحية شعرية ، كتبت عام 1974 ، وقدمت في العام نفسه , صدرت عن " دار الثقافة الجديدة " عام 1976 .
&
النجمة اُم ديل&&
مسرحية نثرية ، كتبت عام 1974، فقدها بالقاهرة في نفس العام .
أفكار جنونية في دفتر هملت
&دراما شعرية في خمسة فصول ، مستوحاة من هملت شكسبير ، نشرت ضمن ديوان "بروتوكولات حكماء ريش " الصادر عن مكتبة مدبولي 1977
الأعمال الشعرية :
التراجيديا الإنسانية&&
مجموعة شعرية كتبها بين 1952 و 1959 . صدرت عن " دار المصرية للتأليف و الترجمة و النشر " عام 1967 بالقاهرة .
&&
لزوم ما يلزم&&
مجموعة شعرية كتبها في بودابِست عام 1964 ، صدر أول مرة عن " دار الشعب " عام 1975 بالقاهرة .&&
الأميّات
رباعيات و قصائد هجائية كتبها نجيب سرور بين 1969 و 1974 ، نشرت بالإنترنت عام 1998 .
&&
بروتوكولات حكماء ريش&&
أشعار و مشاهد مسرحية ، كتبها و صدر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1978 .
رباعيات نجيب سرور&&
ديوان كتبه بين 1974 و 1975 ، صدر بمكتبة مدبولي عام 1978 .
الطوفــان الثــاني&&
ديوان كتبه عام 1978 بالقاهرة ، تضمنه المجلد الرابع من أعماله الكاملة عام 1997 .
فـارس آخر زمن&&
ديوان كتبه عام 1978 ، تضمنه المجلد الرابع من أعماله الكاملة عام 1997 .
أعمـال شــعرية عن الوطن و المـنـفي&&
ديوان كتبه فيما بين 1959 و 1963 و لم ينشر .
رسـائل إلي صـلاح عبد الصـبـور&&
كتبها في مـوسـكو بين 1959 و 1963 و لم تنشر .
عن الإنسان الطيب&&
ديوان كتبه في مـوسـكو فيما بين 1959 و 1963 و لم ينشر .

الأعمال النقدية :
رحلـة في ثلاثيــة نجــيب محفــوظ
كتبه عام 1959 ، نشر عن دار " الفارابي " عام 1991 .
دراسة طويلة نشر فصولاً منها في مجلة " الثقافة الوطنية " اللبنانية عام 1959 ، وأنجز فصولاً أخرى منها حتى عام 1963 , ثم جُمعت , وقام بتحقيقها وتقديمها محمد دكروب ، وصدرت في سلسلة " الكتاب الجديد "، دار الفكر الجديد ، بيروت 1989 .
حوار في المسرح
مقالات نقدية ، صدرت عن " دار الأنجلو المصرية " ، القاهرة 1969 .
همــوم في الأدب و الفـن&&
مقالات نقدية ، جمعها و نسَقها قبيل وفاته ، صدر عن " دار المريخ " عام 1993 .
تحت عباءة أبي العلاء&&
مقالات نقديـة ، كتبها في الأعوام منذ 1973 و حتى وفاته ، لم تنشر .
هكذا قال جحا&&
مقالات هجائية ساخرة حول الحياة الثقافية في القاهرة ، كتبها عام 1978 ، صدرت عن " دار الثقافة الجديدة " ، القاهرة ، عام 1981 .
له أيضاً مقالات وقصائد كثيرة لم يجمعها ، وقد نشرت في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية ، منها : "الثقافة" ، "المجلة" ، "الكاتب" ، "الطليعة" ، "الشعر" ، في مصر ، ومجلات "الآداب" ، "الثقافة الوطنية" ، "الأخبار" ، "الطريق" في لبنان ، ومجلة "الثقافة" العراقية ، و "الدوحة" ، و"الموقف العربي" و غيرها .

دراسة عن سيرة الشاعر .. وقراءة في أعماله :
نجيب سرور..مأساة العقل
د. أبو بكر يوسف
" قل للمهرجين المجانين : لقد ضاعت ارزاق أهل الفكاهة و المجون.. ضاعت لأن أهل العقل انفسهم قد اصبحوا من المجانين. خلطوا فى تصرفاتهم وارتكبواالأعمال الشاذه ،فأضحكوا الناس جميعا"
المهرج فى مسرحية "الملك لير" لشكسبير
فى اواخر ديسمبر 1978، و كان نجيب سرور قد فارق الحياة منذ بضعة اشهر، وصلنى آخر دواوينه(رباعيات نجيب سرور) مرسلا الى مع رسول من القاهرة .
وحينما قرأت كلمات الاهداء : "إلى ولدى و أخى و عزيزى أبو بكر يوسف.. نبضات من حبنا المشترك لمصر" داهمنى احساس طاغ بأنها رسالة بعث بها نجيب الى من العالم الآخر، حيث استقرت أخيرا روحه الحائرة المعذبة! كان الاحساس واقعيا الى درجة ارعبتنى. و لم استطع التخلص من وطأته الا بعد تحامل على النفس أعادنى الى توازنى الذى كدت افقده... و انهالت الذكريات"
فى عام 1959، و كنا مجموعة صغيرة السن من مبعوثى "الجمهورية العربية المتحدة" ندرس فى كلية الآداب بجامعة موسكو، جاءنى زميلى السورى عدنان جاموس،و كان انضجنا خبرة و اكثرنا معرفة بشؤون الحياة و الأدب ، بعدد من مجلة "الآداب" البيروتية قائلا: هل قرأت هذه القصيدة؟ و للصراحة فقد كنت أرى هذه المجلة لأول مرة، إذ غادرت مصر الى موسكوعام 1958 بعد ان انهيت الدراسة الثانوية لتوى، و عمرى 18 سنة، و كانت قراءاتى خارج المنهج الدراسى لا تكاد تحيط بما يصدر من روايات و قصص، فلم يبقى للمجلات الأدبية وقت أو نقود. كانت القصيدة بعنوان "التراجيديا الانسانية" لشاعر لم اسمع عنه من قبل هو: نجيب سرور. و كان مطلعها لافتا و جاذبا:
كانوا قالوا: إن الحب يطيل العمر ..
حقا، حقا.. ان الحب يطيل العمر!
حين نحس كأن العالم باقة زهر،
حين نرق كبسمة فجر،
حين نشف كما لو كنا من بلور،
حين نقول كلاما مثل الشعر،
حين يدق القلب كما عصفور،
يوشك يهجر قفص الصدر،
كى ينطلق يعانق كل الناس...
كانت قصيدة مختلفة عن كل ما قرأت حتى ذلك الحين، و اثارت فى نفسى العديد من الأسئلة..سألت صديقى عن هذا الشاعر فقال انه مصرى، و هو هنا فى موسكو، فأبديت تشوقا للتعرف به. فوعدنى عدنان الغامض -الذى بدا لى آنذاك لغزا لا يفصح إلا عن قليل مما يعرف- بأخذى معه الى نجيب سرور فى المدينة الجامعية الالجديدة لجامعة موسكو على تلال لينين، و كنا نحن نسكن فى المدينة الجامعية القديمة على اطراف موسكو.. فى نفس المبنى الذى كان يسكن فيه قبلنا ببضع سنوات ميخائيل جورباتشوف عندما كان طالبا فى الجامعة.
استقبلنا نجيب سرور بابتسامة عريضة كشفت عن فجوة وسط اسنانه العليا (علامة الشبق!)و كان حاجباه معقودين بتقطيبة طبيعية، و عيناه الضيقتان، الشديدتا الذكاء و المكر، تشعان بالمرح و الثقة بالنفس، و تنقل اليك احساسا بأن صاحبهما ينظر الى ما حوله و ما حوله نظرة فيها كثير من السخرية و المرارة الدفينة.و كان ثمة تناقض هائل بين هذا الوجه البشوش الممتلىء و الضاحك,و هاتين العينين بنظرتهما الثاقبةو الساخرة.
لفتت نظرى فى ذلك اللقاء تفصيلة خارجية .فقد كان الحاكى يعمل طوال جلستنا، و نجيب يغير الاسطوانة بين الحين و الحين،و كانت كلها موسيقى كلاسيكية لموسيقيين لم اكن سمعت حتى بأسمائهم. و كنا قد تعودنا منذ صغرنا ان نسرع بإغلاق المذياع أو تحويل المحطة ما ان يعلن المذيع عن فاصل من الموسيقى الكلاسكية التى لم نكن نفهمها بنغماتها المشوشة التى لا تسير على ايقاع واحد بل تزعج آذاننا الشرقية بهذا التخبط بين الانغام صعودا و هبوطا, طولا و قصرا,و نحن نبحث فيها عبثا عن مستقر للايقاع المطرد المطرب! و أسارع فأقول اننى مدين لنجيب سرور بتعرفى على الموسيقى الكلاسيكية الروسية و الغربية و تذوقى لها. فمنذ ذلك اليوم طال وجوده فى موسكو, كان نجيب يعلمنى كيف أتذوق اللحن الغربى و يشرح لى مواضيع السمفونيات، و يلفت انتباهى الى هذه النغمة أو تلك. و الى خصائص الأسلوب الموسيقى لهذاالموسيقار أو ذاك. كان يفعل ذلك بتلقائية و حماسة و حب غير مصطنع للموسيقى جعلنى لا اشعر بأننى تلميذ فى حضرة معلم.و عندما سألته عن سبب تعلقه بالموسيقى الكلاسيكية قال إن المخرج -و كان نجيب سرور قد جاء فى بعثة حكومية لدراسة فن الاخراج المسرحى- ينبغى ان يكون. على اطلاع واسع بكافة الوان الثقافة و الفنون, لأن المسرح هو مجمع الفنون, و الجهل او قلة الدراية بأى لون منها يؤثر سلبا على قدرات المخرج الابداعية و على مستوى حرفيته.
و منذ أن تعرفت بنجيب سرور أحست بأننى مشدود بهذه الشخصية الفذة كقطعة حديد الى مغناطيس قوى. كان فارق السن بيننا غير كبير, إذ كنت فى العشرين, و كان هو فى اواخر العشرينيات,و لكن الفارق فيما عدا ذلك كان هائلا.
كان نجيب- بالنسبة الى على الأقل-كنزا لا يفنى من المعرفة, و شخصية متعددة المواهب الى درجة خارقة. فقد كان ممثلا, و شاعرا, و مخرجا, و ناقدا, و كاتبا.و كانت معرفته بالأدب العربى و الغربى واسعة. و لكثرة ما لاحظت فى اشعاره من استشهادات بالتاريخ و الأساطير المسيحية ظننته فن بداية تعارفنا مسيحيا, خاصة و ان الاسم (نجيب سرور) أقرب الى الاسماء المسيحية فى مصر. و تحرجت أن اسأله, و لكنه ملأأمامى ذات مرة استمارة إقامة فرأيت جواز سفره, و كان اسمه فيها: محمد نجيب محمد سرور هجرس! و فيما بعد لمست كيف كان يستلهم فى اشعاره التاريخ و الأساطير الفرعونية و الاغريقية و الشعبية المصرية و الفلكلورية العربية, إذ كانت الروافد الثقافية المختلفة تمثل لدى نجيب نهرا انسانيا عريضا يغترف من كيف يشاء . أما الانتماء الدينى فكان مسألة تركها وراء ظهره!
و كان نجيب شخصية معقدة, و لكنها فى غاية الغنى و العمق, منطلقة و مرحة الى اقصى حد. كان لا يكف عن القاء النكت و القفشات الفورية، بنت الساعة. و حتى فى ذروة الجد و احتدام النقاش تفلت رغما عنه, فينفجر الحاضرون بالضحك, و ينفرط عقد التزمت و الجدية.
و لم يفلح نجيب تعلم اللغة الروسية حسب القواعد, فكان يخلط خلطا شديدا بين حالات الاعراب الست فى اللغة الروسية, حتى اشاع انه اخترع حالة جديدة, سابعة, للاعراب, هى الحالة التى يتكلم بها! و لكنه كان دائم القراءة باللغة الروسية و دؤوبا -كتلميذ- فى استخراج معانى الكلمات الجديدة من القواميس, و كأنما كان ييريد أن يسبق الزمن ليطلع على الأدب الروسى بلغته الاصلية. و عندما يعجبه كتاب, سواء فى الادب أم فى الفلسفة أم فى التاريخ .. كان ينكب عليه و ينقطع له, فلا ينام احيانا عدة ايام و لا يأكل الا لماما,و لكنه لا يكف عن تناول الشاى و القهوة.و يظل فى هذه الحمأة, و هذا التوتر الذهنى و العصبى حتى يفرغ من قراءة الكتاب المكتوب بلغة لا يكاد يعرفها!
و تلك كانت احدى خصال نجيب سرور التى عرفتها فيه فيما بعد.
و كان نجيب سرور لا يكتب الشعر كثيرا. قصيدتين أو ثلاثة فى السنه.. و لكنه كان يعانى مخاض القصيدة بالأسابيع.. يكتب و يشطب و يمزق, و يشرد كثيرا, يدندن لنفسه بإيقاعات ما, و احيانا يصبح غير قادر على تحمل هذه الحالة النفسية وحده, فيبوح لى بمطلع القصيدة أو ببضعة أبيات منها,و كأنما ينفس عن زفرة جاش بها صدره.
و لم يكن لنجيب سرور مثيل فى القاء الشعر..و شعره خاصة.و قد اجتمعت له ملكة الصوت الجهير العميق, المتوسط النبرة ما بين "الباص" و "التينور" مع القدرة على التحكم بمخارج الالفاظ التى اكتسبها عن دراسة فى المعهد العالى للفنون المسرحية بالقاهرة. و لم يكن يقرأ الشعر بل يمثله, مؤديا بصوته أدوار الشخصيات المختلفة إذا كانت القصيدة درامية, أو مختلف العواطف, اذا كانت القصيدة وجدانية. و حتى الأبيات العادية, التى ما كانت تحرك فيك أحاسيس قوية لو قرأتها بنفسك, كانت تنبض بالمشاعر الجياشة فى القاء نجيب سرور و بصوته المتفرد , و تهزك الى الاعماق. و قد عرفت شعراء عاديين لا يجيدون القاء شعرهم فيضيعون الكثير من جماله و يهدمون بصوتهم ما بنته قريحتهم...
كنا نلتقى ثلاثتنا -نجيب و عدنان و أنا- فى مقهى من مقاهى موسكو, حيث يختلف الجو عن مثيله فى المقاهى الشرقية.فالمكان هنا مغلق دائما بسبب الجوالبارد
و هو اقرب الى المطعم منه الى مقهى المشروبات الشرقي, و الرواد يأتون ليأكلوا و يشربوا و يرقصوا. أما نحن فكنا نختار طاولة فى احد الأركان, و ننفصل بها عن كل ما كان يحيط بنا من صخب الموسيقى و ضجة الأطباق و الملاعق, و شهقات الثمالى, و نظرات الشقراوات الداعية, و دقات احذية الراقصين المدوية. كان نجيب يقرألنا من اشعاره, و نحن نصغى اليه فاغرى الأفواه, و عندما يلقى قصيدة حزينة كقصيدة"أبى" (والد نجيب) الذى ضربه الاقطاعى امام ابنه(نجيب) كان صوته يتهدج, و تنساب الدموع على خديه, و ما ان ينهى القصيدة حتى نهب لعناقه و تقبيله و مواساته، و الدموع تسيل على خدودنا أيضا!...
و كنا لا نغادر المكان الا بعد انفضاض جميع الرواد و جميع الكراسى و المفارش, و تقريبا بعد طردنا طردا و اطفاء اضواء الصالة, بينما نحن مندمجين مع اشعار نجيب سرور, غير عابئين بما يفعله خدم المقهىلإجبارنا على الانصراف. و فى ليالى الصيف القصيرة فى موسكو, إذ يحل الفجر فى الثانية صباحا و تشرق الشمس فى الرابعة, كنا نمضى متسكعين فى شوارع موسكو النظيفة و الخالية, و خاصة فى وسط المدينة و نجيب يواصل القاء اشعاره تحت تماثيل الشاعرين بوشكين و ماياكوفسكى و الأمير يورى دولجاروكى مؤسس موسكو.و نظل نضرب فى الشوارع حتى الساعة السادسة, موعد افتتاح محطات المترو, لنستقله فى اتجاهين متعاكسين: هو الى المدينة الجامعية الجديدة, و عدنان و انا الى المدينة القديمة...
و سرعان ما اصبحت راوى اشعار نجيب سرور فى مجموعة الدارسين المصريين و السوريين فى موسكو. و رحت اقلده فى طريقة القائه المتميزة, و نجحت فى ذلك الى حد ما فقد لاحظت ان السامعين لا يعجبون بالأشعار فحسب, بل و بطريقة القائى لها.و شيئا فشيئا تجمعت حول نجيب سرور مجموعة من الطلبة الشباب المصرين و السوريين, فانتعش و ارتفعت معنوياته, و بدأيخرج من عزلته التى كان قد ضربها على نفسه عند مجيئه لموسكو, لاقتناعه-كما قال لىفيما بعد- بأن المبعوثين المصريين آنذاك(1959)كانوا منتقين بعناية من اجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمى واحد. أما هو فأفلت بأعجوبةلأنه وصل الى موسكو فى قمة الحملة المعادية للشيوعية فى "الجمهورية العربية المتحدة", و هى حملة صاحبت اقامة الوحدة بين مصر و سوريا و لعبت هذه الصدفة دورمأساويا فى حياة نجيب سرور فى موسكو.
فما ان افصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسى, و اشاع انه كان عضوا بأحد التنظيمات الشيوعية فى مصر(جماعة حد تو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك و ريب قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية فى موسكو, و خاصة تنظيم الحزب الشيوعى السورى الذى كان يقوده فى موسكو احد اعضاء اللجنة المركزية لحزب اللاجئين الى الاتحاد السوفييتى. و كان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول انه شيوعى من المجىء الى موسكو فى هذه الفترة بالذات, و يفلت من اجهزة المباحث المصرية التى كانت فى اوج عنفوانها, بل و فوق ذلك يأتى طالبا فى بعثة حكومية!
و فى محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب الى التطرف، فلجأالى تشكيل مجموعة من "الديمقراطيين المصريين" لإصدار البيانات و اتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم, و استغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبى فى جامعة موسكو فقفز الى المنصة و استولى عليها , و اطلق بيانا ناريا ضد "النظام القمعى الديكتاتورى" فى مصر و سوريا.و بينما هدرت القاعة المملوءة عربا و اجانب بالتصفيق ظهر الحرج و الضيق على أوجه المسؤولينفى الجامعة, الذين وضعهم نجيب فى ورطة شديدة.و نجحوا اخيرا فى تنحيته عن المنصة و لكن بعد فوات الأوان! ففى اليوم التالى احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو, و فصل نجيب من البعثة(هو و ماهر عسل الذى ترجم له البيان و ألقاه بالروسية) و ألغى جوازا سفرهما, و طالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور و ماهر عسل الى القاهرة فورا!
بهذه الحركة نجح نجيب فى كسب ثقة الشيوعيين العرب فى موسكو فدافعوا عن بقائه فيها و تكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب فى موسكو, و لكنه نقل الى مدينة جامعية اخرىحتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده. و بمرور الوقت ادرك نجيب انه ارتكب حماقه,و لم يعد يدرى ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التى التصقت به. و اعترف لنا صراحة بأنه لا يفقه شيئا فى السياسة, و انه لا يريد ان يلحق بنا الضرر, و لذلك قرر تركنا و الانصراف الى الدراسة, و نصحنا ان نحذو حذوه.
حتى ذلك الحين لم اكن قد ادركت مدى تعقد شخصية نجيب سرور فأزعجنى منه هذا السلوك الذى اعتبرته "غير رجولى", و لم استطع ان افهم سبب هذه الازمة التى داهمته فى الوقت الذى بدا و كأن اموره تسير الى الأفضل بعد تبدد سحب الشكوك فيه و انتصاره فى المواجهة مع السلطات المصرية و فشل الضغوط التى مورست ضده. و اخذ نجيب يبتعد عنا و يغرق فى الشرابو الديون. و فى هذه الفترة بدأيكتب قصيدة "العودة" التى اورد مقاطع منها فى ديوانه "لزوم ما يلزم" و هى قصيدة مغرقة فى اليأس و الضياع و الحنين الى الوطن:
"يا مصر يا وطنى الحبيب!
يا عش عصفور رمته الريح فى عش غريب,
يا مرفأى آت انا آت.. و لو
فى جسمى المهزول آلاف الجراح..
و كما ذهبت مع الرياح..
يوما اعود مع الرياح..
و متى تهب الريح؟ أو هبت..
فهل تأتى بما يهوى الشراع؟
ها انت تصبح فى الضياع..
فى اليأس.. شاة عاجزة..
ماذا لها ان سلت السكين غير المعجزة؟!.. "
و هجر نجيب سرور المسرح الذى كان يدرس فيه تحت اشراف المخرج الكبير نيكولاى اخلوبوكوف متعللا بأن اخلوبوكوف مخرج شكلى يهوى المؤثرات الصوتيه والضوئية و لا يغوص فى اعماق النص المسرحى. و قد شاهدت بالفعل مسرحية "هاملت" من اخراج اخلوبوكوف فأصم اسماعنا دوى الطبول فى اوركسترا المسرح, و أغشت ابصارنا الأضواء الباهرة التى كان يسلطها على الصالة. و مع ذلك لم يكن هذا هو السبب الحقيقى الذى نفر نجيب من دراسة المسرح, و انما كانت الأزمة الحادة التى أخذت تتفاعل فى اعماقه, و التى لم استطع -رغم كل ما بذلت من جهدآنذاك- أن ادرك أسبابها و بواعثها.كنت لا ارى غير ظاهرها:الاغراق فى الشراب, اليأس المطبق, الاحباط المطلق. كل ما استطعت ان ادركه هو ان اغراقه فى الشراب كان الوسيلة التى لم يجد سواها للهروب من ازمته. و ذات مرة سألته مستنكرا-و كنت اجالسه فى احد المطاعم- :
-لماذا يفرط فى الشراب الى هذا الحد،
-فأجاب: لكى انسى!
-قلت له: و ما الذى تريد ان تنساه؟
-فأجاب بروح دعابته الحاضرة دائما: و هل ترانى أذكر.!
فى اواخر فترة وجوده فى موسكو، حوالى عام 1963 بدأ نجيب يكثر من الحديث عن النفوذ الصهيونى فى الاتحاد السوفييتى. و استنكرنا منه ذلك بشدة,إذ كنا نعيش فى "عصر الأممية ", و لم نصدق ان الاتحاد السوفييتى العظيم يمكن ان يكون خاضعا للنفوذ الصهيونى، و اعتبرنا -انا و زملائى- أن نجيب يغالى كعادته، و خاصة فى ظل تفاقم ازمته الشخصية.و بعد ذلك بسنوات أدركت مدى صواب ما يقال عن عين الفنان التى ترى ما وراء الظاهر و تغوص الى اعماق الاشياء, و تكشف لنا ما لا نراهمثل عينى زرقاء اليمامة! و أنا لا اريد هنا ان اقول أن نجيب سرور كان محقا تماما آنذاك, و لكنه رأى بوادر الظاهرة التى لم تتكشف لنا الا فيما بعد.
ثم وقعت الحادثة التى وضعت نهاية لبقاء نجيب سرور فى موسكو...
كان يسامر احد الاصدقاء اليمنيين فحدثت مشاحنه بينه و بين أحد الرواد الذى ظنهما يهينانه. و تدخل رجال الشرطة و حاولوا اقتياده بلَى ذراعيه.و كان نجيب قوى البنية فتخلص منهم بقوة اعتبروها مقاومة, فاجتمعوا عليه و اقتادوه الى مبنى الشرطة حيث اوسعوه ضربا. و قال لى نجيب و هو يروى هذه الواقعة: لقد بكيت آنذاك ليس من الألم بل على انهيار المثال و احسست انه لا فرق بين شرطة مصرية و مباحث مصرية, فكلها اجهزة قمع, و انما نحن الذين صدقنا الاوهام عن "انسانية الاشتراكية" و كعادته "نظر" نجيب لهذا الحدث و اختزل فيه كل جوانب الظاهرة!
و سافر نجيب الى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسين المصريين هناك, حيث عمل فى القسم العربى بإذاعة بودابست, و التف حوله العرب و رحبوا به, و لكن سرعان ما عاودته ازمته التى لم يفلح تغيير المكان فى اطفاء جذوتها, و كان يتصل بى من هناك هاتفيا, مؤكدا على استفحال النفوذ الصهيونى لا فى القسم العربى فى الاذاعة فحسب بل و فى معظم اوجه الحياة السياسية و الثقافية و الاقتصادية فى المجر. و بالطبع أخذت ما قاله على محمل المبالغة المعهودة فيه...
و ذات مرة اتصل بى منن بودابست, و كان ذلك فى ربيع عام 1964, و طلب من عاملة البدالة أن تكون المكالمة على حسابى، فوافقت مستغربا, و عندما تم الاتصال أخبرنى انه طلب ذلك لأنه لا يملك ثمن المكالمة, و قال بصوت متهدج أفجعتنى نبرته المتهالكة إنه جائع و لم يأكل منذ ايام, و سيذهب غدا الى السفارة المصرية "ليسلم نفسه" (كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به و يريد ان يعود الى مصر ليموت فيها, مثل سنوحى!
رجوته ان يهدأو لا يتسرع و سنحاول تدبير الأمر, و لكنه اصر قائلاانه لم يعد ثمة معنى للاستمرار فى لعبة الخداع, فالعالم كله لصوص و مخدوعون, و ما المذاهب الا أساليب يلجأ اليها اللصوص لتغطية سرقاتهم. و بهذه المناسبة فقد كتب نجيب سرور فى بودابست قصيدته الشهيرة "المسيح و اللصوص" حيث "اتهم" فيها المسيح بأنه السبب فى ظهور اللصوص الذين اخذوا يتاجرون باسمه, و باسمه يحكمون!
و حين يحاول "مسيح نجيب سرور" أن يرد على الشاعر بأنه سيعود ليصحح الأوضاع يجادله الشاعر:
-هل تصدقُ ما تقولٌ؟
-الأبُّ قال بأننى حتما أعودْ
مَلِكاً على أرض البشرْ
لتَسودَ فى الناس المسرةُ و السلامْ!
-لو عدتَ.. منذاَ يعرفُكْ؟
-سأقول: جئتُ انا المسيحْ!
-سيطالبونكَ بالدليلْ.
-ستكونُ فى جيبى البطاقةُ و الجوازْ.
-هذا قليل..
ما اسهلَ التزويرَ للأوراقِ فى عصرِ اللصوصْ.
و لديهمُ (الخبراءُ) سوف يؤكدونْ
أن الهويةَ زائفةْ!
-لكنْ عليها الختمُ..ختمُ الأبّْ..
-يا بئسَ الدليلْ!
سيؤكدُ الخبراءُ ان الختمَ برهانٌ على زيفِ الهوية!
-سأريهمُ هذى الثقوبْ..
فى جبهتى -انظرْ- و فى الكفينِ, فى الرجلين..
جئتُ أنا المسيحْ!
-سيقول لوقا: قالَ مرقصُ
إنَّ متََّى قال يوحنَّا يقولْ:
"فى البدء كانَ الأمرُ "إصلبْ
و الآن صار الصلب أوجَبْ!"
حتماً ستُصلبُ من جديد
همْ فى انتظاركَ-كلُّ اتباعِكَ، قطعانُ اللصوص-
همْ فى انتظاركَ بالصليبْ...
ماذا؟ أتبكى؟ كلُّ شىءٍ مضحكٌ حتى الدموعْ!
العصرُ يضحك من دموعك, من دموعى, عصرنا
عصرُ اللصوصْ,
بل أنتَ... حتى انت لصٌّ!
لو لم تكن ما كان فى الأرض اللصوصْ!
حتى أنا لصٌ.. ألم أخدع طويلا باللصوص؟!
و نقول بين قوسين إن الأديب المصرى الكبير يوسف ادريس كتب فى نفس الفترة تقريبا مسرحية "المخططين" التى تتصدى ايضا لظاهرة استيلاء "جماعة المنتفعين" على الحكم, و منع اى محاولة لتصحيح الأوضاع حتى لو كانت من صاحب الفكرة نفسها! و هذا دليل انتشار ظاهرة عدم الثقة فى الأنظمة الحاكمة آنذاك و التى كانت تتشدق بالشعارات الديماغوجية عن الحرية و الديموقراطية و الاشتراكية فى غيبة تامة لهذه المثل.
على ان نجيب سرور قد كتب فى نفس الفترة فى بودابست روايته الشعرية الرائعة "ياسين و بهية" التى حولها المخرج كرم مطاوع الى مسرحية قدمت على "مسرح الجيب" فى القاهرة عام 1965 بعد عودة نجيب سرور الى مصر. و تمثل هذه الرواية رؤية جديدة لقصة ياسين و بهية المعروفة فى الأدب الشعبى المصرى, إذ يجعل نجيب من بطلها مناضلا ضد الاقطاع و ثائرا على الظلم, و مضحيا بحياته فى سبيل تحرير الفلاحين، كاسبارتاكوس محرر العبيد. فكيف اجتمع فى نفس نجيب ذلك الضياع الخانق و اليأس المطلق مع هذا الايمان الحار بعدالة النضال من أجل الحرية و الثورة على الظلم و الاضطهاد؟ أهى اصداء مرارته القديمة من الاقطاع الذى أهان الوالد أمام ابنه الصغير؟.. أم هى روح الفلاح المصرى الكامنة فى اعماق نجيب سرور, و التى تتجاوز الايمان أو الكفر بالنظريات و المذاهب، لأن النظريات تقوم و تسقط, أما الارضية الفلاحية الضاربة فى عمق التاريخ المصرى لآلاف السنين, فتبقى هى الأساس الراسخ الذى ينفذ من اليأس و الضياع. و بالفعل فلو تجاوزنا عن الخط المتعرج و المتأزم لحياة نجيب سرور, فسنجد خطه الابداعى، ممثلا فى مسرحياته التالية ل"ياسين و بهية", "آه يا ليل يا قمر", قولوا لعين الشمس.." , هو خط نضال العامل المصرى و الجندى المصرى -بعد الفلاح فى ياسين و بهية- ضد الظلم الطبقى و الاستعمار الأجنبى. و لهذا فبوسعى أن اقول إن نجيب سرور, رغم كل شطحاته و تقلباته و ضياعه و أزماته, كان فنانا ملتزما بقضايا شعبه و وطنه على المستويين المصرى و العربى, حتى الرمق الأخير ..
و كم مرة طرحت على نفسى هذا السؤال: ما السبب فى الأزمة التى لازمت نجيب سرور طوال حياته القصيرة و كانت السبب فى رحيله المبكر؟
فى البداية ظننته الاضطهاد.. و لكن نجيب عاد الى مصر فلم يتعرض للملاحقه و السجن.. و كنت اظنه الظلم و حرمانه من فرصة تحقيق مواهبه.. و لكنه نشر دواوينه و مسرحياته، و مثل على المسرح و فى التليفزيون، و أخرج للمسرح و أخرجت له مسرحياته.. ربما لم ينل كل ما كان يريد.. و لكنه لم يحرم تماما...
ثمة تفسير منطقى واحد لهذه الأزمة, لا أجد غيره..
إنه الصراع فى نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض.. و المثال المستحيل..
انه مأساة العقل, الذى يحفر كالمثقاب فى طبقات الزبف و الأكاذيب ليصل الى الحقيقة, و لكنه للأسف يواصل الحفر حتى يخرج الى الجانب الآخر, محدثا ثغرة فى السد تتسع مع الزمن لتندفع منها المياه المخزونه مدمرة كل شىء!...
الفنان شمعة تحترق.. لتضىء لنا الدرب الى الحقيقة, و الخير, و الجمال...
و نجيب سرور فنان لم يدخر ضوءه, فاحترق سريعا كشهاب مرق فى سمائنا, و لكنه ترك فى نفسى, و فى نفوس الكثيرين غيرى, أثرا ساطعا لا ينسى.. لأنه أثر الموهبة المبدعة .
&