&
تطرح التطورات السريعة علي الأرض في أفغانستان أسئلة لا بدّ من إثارتها في ما يمثل التحدي الأول للإنسانية في هذا القرن. ولم يأت التضعضع الذي تشاهده عواصم العالم في البحث عن تنظيم المعارضة وآلية الحكم والحكومة في مرحلة ما بعد سيطرة طالبان علي كابول، إلا ليتثبت النقص في المفاهيم القانونية والسياسية للتعاطي مع الأزمة التي تفجرت في 11 أيلول (سبتمبر). وكانت الإشارة الأولي الي الضياع الذي تتخبط فيه الدول، جاءت في الحديث المتواصل لحكومة الولايات المتحدة منذ بداية الحملة العسكرية عن عدم ارتياحها الي تقدم تحالف الشمال علي العاصمة الأفغانية.
نقيضتان واضحتان، إذاً، أولاهما الهرولة إلي خلق الحليف ولّم شمله، وثانيهما التباطؤ المعتمد في اخراج كابول من قبضة العدو . وإذا أمكن تفسير هذه النقائض بسبب التحالف بين واشنطن وحكومة الجنرال برويز مشرّف، إلا أن الخلل متصل في عمقه بقصور النظرة الأميركية عن استحداث بديل مقنع في كابول لتجاهلها مصير الشعب الأفغاني عقداً كاملاً، كما انتقاص الآليات الدولية المعهودة في التعاطي مع الفراغ القانوني والسياسي الذي فرضته سنوات الحرب الداخلية والاقليمية الطويلة في البلد المنكوب.
وفي غياب تصوّر واضح في واشنطن عن مستقبل أفغانستان، عدا تركيزها المخطئ علي الحرب بلا هوادة ضد الإرهاب ، في وقت لا يزال تحديد هذه الكلمة في القانون الدولي ضبابياً في أحسن الأحوال، تقع المسؤولية الكبري لمستقبل الشعب الأفغاني علي الأخضر الإبراهيمي، وهو الديبلوماسي المتمرّس الذي خوله الأمين العام التعاطي مع الملف الأفغاني. والإبراهيمي هو الشخص نفسه الذي أشرف علي تقرير أساسي وضعته الأمم المتحدة في العقد المنصرم بعنوان تقرير الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام .
والحملة الأفغانية خير مثال علي أهمية تقرير الإبراهيمي، الذي نشر في آب (اغسطس) 2000 تحضيراً لقمة الألفية التي اعتنقته. يقع التقرير في ما يقارب السبعين صفحة، تبعه تقريران بحجم أكبر لوضع الآليات التي تحتاجها الأمم المتحدة لتطوير عملياتها في حفظ السلام. وإذا كان بعض هذه الآليات متصلاً بمشاكل تنظيمية ومالية بحجم التحدي الذي يفرضه تحرك عسكري دولي، فإننا نري في ثنايا بعض الفصول، لا سيما منها المتعلقة بحقوق الإنسان، المرتكز الأهم في الحالة المستجدة في أفغانستان، وأشرنا إليها في كتابنا الأخير في فصل عن ضرورة الصدارة للقاضي في الشأن العالمي .
يشير تقرير الإبراهيمي إلي هذه الضرورة بعنوان الافتقار إلي قانون جنائي صالح للتطبيق في المناطق التي تخرج من سيطرة طالبان . وبالفعل، وخلافاً لجميع التوقعات، لا تتمثل المشكلة الأهم في المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم اليوم في كيفية توزيع الغذاء أو في كيفية انشاء حكومة تجمع كل الأطراف. فقد تبدد الخوف من المجاعة في أفغانستان، بمجرد انهيار السلطة الطالبانية، فانفتح المجال لقوافل المعونة الطبية والغذائية في المناطق المحررة ، والخبرة متوافرة لدي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية علي السواء للعودة إلي حياة أقل بأساً في معظم المدن الأفغانية.
أما التركيز علي حكومة تجمع الأطراف كلها، والذي يتصدر خطة الأخضر الإبراهيمي التي أقرّها مجلس الأمن، فقد يكون مفيداً التساؤل عن جدواها من ناحية الوظيفة، أي لجهة حفظ الأرواح وإقرار السلم في المناطق التي باتت تسيطر عليها الفئات المختلفة. الوظيفة هنا أهم من المؤسسة: فالأولوية ليست تشكيل الحكومة بقدر ما هي المحافظة علي حياة الناس، ولا سيما أولئك الذين تعتبرهم السلطة الجديدة منافسين أو أعداء. والخطر الذي يداهم أفغانستان يتعلق قبل كل شيء بالسجل الذي ينفتح علي الإنسان الأفغاني لجهة حقوقه الأساسية، وأولها الحق بالحياة والحق بمحاكمة عادلة إذا كان متهماً بجريمة ما، أياً كانت هذه الجريمة.
من المستحيل في الحالة الحاضرة أن توفر الميليشيات أو الجيوش التي تسيطر علي مجمل أفغانستان من تلقاء نفسها مرجعاً فعالاً لمعالجة هذه الانتهاكات. من هنا طرحنا لصدارة القاضي، أو ما يعبر عنه تقرير الأخضر الإبراهيمي السنة الماضية بالقانون الجنائي الذي تحتاج إليه أية عملية جدية لحفظ السلم. وبشكل أدق، فإن المهمة الأولي للأمم المتحدة، ومن ورائها حكومة الولايات المتحدة وحليفاتها التي رجحت الكفة لصالح القوات التي هزمت قوات طالبان ، هي توفير طواقم من رجال أمن وشرطة يخضعون لقضاة هم المرجع الأساسي لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان الملحة. أما الحكومة، فإنها ثانوية وقد يطول البحث عنها نظراً لعمق الكره بين الفئات الأفغانية، وسجلها غير المشجع، فضلاً عن التأثير الذي لا بد من الدول الست المحاذية لأفغانستان أن تعود لفرضه عليها، وليس السجل الحقوقي رمزها الأعلي في تصرفها مع شعوبها.
قد يكون مبالغاً تحميل الاستاذ الإبراهيمي هذا القسط من المسؤولية، لكنه واضح اليوم ان الولايات المتحدة ليست مهتمة، وليست قادرة أصلاً، علي تولي الحكم في كابول. وقد يكون مبالغاً أيضاً تحميل الأمم المتحدة، جماعياً أو فردياً، مسؤولية استقرار في بلد مثل أفغانستان. لكن السلام العالمي مرتكز علي السابقة الأفغانية، وما تحمله من تداعيات هندية - باكستانية وعربية - إسرائيلية، فضلاً عن الحالة العراقية ، وكلها تبحث عن مراجع قضائية فعالة تصدّر معايير إنسانية مشتركة لحل يخرج الشعوب من دائرة العنف، ويمنع الثأر من العدو المغلوب أو الحليف المنافس. هذا صحيح اليوم بالنسبة لـ الأفغان العرب ولـ طالبان ، كما وســائر الفئات المتناحرة علي السلطة، وهذا معيار حضارة السلم المتوخاة في أفغانستان كنموذج للعالم. وإذا كان قرار مجلس الأمن الأخير الخاص بأفغانستان (قرار 1378) يتحدث بحق عن ضرورة تفعيل مشاريع مباشرة الوقع، فإعادة الصدارة للقاضي قد تكون أهمها.(الحياة اللندنية)

ہ محام، استاذ في القانون الأوروبي في جامعة القديس يوسف، بيروت. صدر له اخيراً عن دار النهار كتاب الديموقراطية في اميركا .