(الجزء الاخير)
القاهرة- نبيل شرف الدين: في الجزئين الاول والثاني من عرضنا لخريطة انتشار الجماعات الاصولية، والتي تعتبر أحد المفاتيح الأساسية لفهم أسباب الظاهرة وأساليب المواجهة ، تحدثنا عن المحور السلفي والمحور الجهادي لنتناول اليوم المحور الثالث والاخير: محور جماعات التكفير.
محور جماعات التكفير :
نأتي إلى المحور الأخير في الحلقة الأصولية المعاصرة ، وهو جماعات "التكفير" التي ظهرت لأول مرة بين جدران السجن الحربي عام 1965 على يد الشيخ على عبده إسماعيل وهو أحد أقطاب الإخوان من الرعيل الثاني الذين اعتنقوا أفكار سيد قطب التي تدور في مجملها حول التأصيل الفكري لمفاهيم أصبحت فيما بعد ثوابت وأدبيات هذه التنظيمات والجماعات ومنها على سبيل المثال مفاهيم : جاهلية المجتمع ، وتكفير الحاكم والمحكومين ، والعذر بالجهل ، والمفاصلة الشعورية ، وتغيير المنكر بالقوة وغيرها ، ثم قام فجأة& على عبده إسماعيل بالانخراط في صفوف الإخوان وتبنى آراء حسن الهضيبي المرشد العام للجماعة آنذاك ، فأعلن داخل السجن توبته عن منهج التكفير بطريقة مسرحية حينما خلع جلبابه وأحرقه قائلاً: "أشهد الله أنني تخليت عن أفكار التكفير كما تخليت عن هذا الثوب تماماً" ، لكن تلميذه شكري مصطفى لم يقتنع بهذا السلوك وظل مؤمنا بأفكار التكفير وسار عكس الاتجاه الذي سار فيه أستاذه ، فانشق على انتمائه السابق للإخوان وتشدد في أحكام التكفير وتوسع في مفهوم (المفاصلة الشعورية) والتي تعنى الانفصال عن المجتمع بمعنى هجرته تماما حتى في حالة الاضطرار في العيش داخله فإنه ينفصل عنه بمشاعره تماماً وعلى الرغم من ضآلة حجم المنتمين لهذه الجماعات بالقياس لهؤلاء المنتمين إلى المحورين السابقين (السلفي والجهادى) إلا أن هذا التيار يشكل خطورة لا تقل عن تلك التي تشكلها التنظيمات الأخرى وربما تفوقها نوعيا وتكتيكياً ، ولعل تلك الخطورة تعود لمنهج هذا الفصيل الأصولي في النشاط الحركي الذي يتسم& بالمركزية التامة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالممارسات التنظيمية ، فضلاً عن الالتزام الصارم بقواعد العمل السري وآلياته وتقاليده المتعارف عليها ، وحتى تتضح الرؤية ينبغي في البداية التعريف بهذا المحور الأصولي الذي خرج من عباءة الإخوان المسلمين مباشرة ودون& المرور بأية حلقات وسطى ، ونشأ على يد الإخواني شكري مصطفى الذي تبنى في البداية المنهج الفكري لسيد قطب ثم استطاع التوصل& إلى تأصيل منهجه الفكري الخاص به في مؤلفه الحركي "الخلافة" ، وما أن خرج من السجن حتى أنشأ جماعته التي أطلق عليها "جماعة المسلمون" والتي اشتهرت إعلاميا بـجماعة "التكفير والهجرة" ولكنها ما لبثت أن أجهضت تنظيميا عقب اختطافهم للشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري الأسبق ، وقتله بعد محاولة مساومة السلطات على تلبية مطالب لم يكن ممكناً الرضوخ لها ، وهكذا انتهت& تلك الجماعة واندثرت من على الساحة منذ ذلك الوقت بينما ظلت أفكارها الفقهية والحركية كمدرسة رائدة للتكفير خرج من بين ثناياها العديد من الجماعات التي تحمل مسميات مختلفة وتسلك نفس المنهج الفكري والحركي الذي يقوم على السرية التامة والمرحلية في النشاط والتدرج في الانتشار وفقاً لمفاهيمهم المتعلقة بالتحرك& على مراحل ثلاث هي :
1- الدعوة : وتتمثل في نشر دعوتهم بشكل سلمى وبشكل مكثف وبطريقة هادئة داخل قطاعات محددة بغرض توسيع قاعدة الجماعة والانتشار الأفقي لضم من يرونه صالحا للانضواء تحت رايتهم بعد أن يجتاز عدداً من الاختبارات الدقيقة الصعبة التي تحتم على العنصر أن يثبت ولاءه الأعمى لأمير الجماعة ولا يناقشه فيما يكلفه من أعمال حتى ولو كانت متنطعة أو تافهة فبعد أن يبايع العضو أمير الجماعة على السمع والطاعة يفقد إرادة القبول والرفض ويتحول لمجرد أداة عمياء في يد الأمير الذي يصبح بوسعه التدخل في كافة شئونه العامة والخاصة وعليه أن يقاطع أهله ويمتنع عن العمل سواء لدى الدولة أو حتى العمل الحر وما إلى ذلك من ممارسات بالغة الشذوذ والغرابة .
2- الاستضعاف : وفي هذه المرحلة يعتزلون المجتمع "الكافر" وينسحبون منه تماماً سواء بالإقامة في الصحراء على النحو الذي حدث مع جماعة شكري مصطفى في بداية تكوين التنظيم ، أو داخل المدينة في الشقق المفروشة مع اعتزال كل الناس من الأهل والأقارب والأصدقاء والانعزال عن المجتمع وعدم الاهتمام بقضاياه ، ويرفضون التعامل مع أشخاصه ومؤسساته ويعيشون حياة بدائية للغاية تطبيقاً لمبدأ (المفاصلة الشعورية) وخطورة هذه المرحلة أنها بمثابة عملية "غسيل مخ" جماعي لأعضاء التنظيم .
3- التمكن : وهى المرحلة التي يبشر بها أمراء ومنظرو جماعات التكفير أتباعهم بأنهم سيعودون فيها من هجرتهم للمجتمع "الكافر" فاتحين ومستعدين لكل عمل صدامي مع المجتمع الكافر بعد أن أصبحوا أقوى وأكثر عدداً وعدة وعتاداً على النحو الذي حدث مع المهاجرين الأوائل إبان الهجرات الأولى للحبشة ويثرب ثم عودتهم لمكة فاتحين ، وفي هذه المرحلة يحدث تحول كبير في سلوك أعضاء الجماعة حيث يبيحون أرواح وأموال وأعراض كل من يخالفهم وذلك بعد أن صار العضو ـ عقب المرحلة السابقة ـ مجرد أداة طيعة في يد الأمير وهى عملية تشبه في الكثير من جوانبها وأدواتها ما كان يقوم به حسن الصباح مع فرقة "الحشاشين" الشهيرة ، أو في عمليات غسيل المخ الجماعية التي تمارسها الجماعات الباطنية .
وقد تحولت هذه الأطروحة لاحقاً إلى مدرسة في التكفير ، وهنا سنعرض لأهم هذه الجماعات:
1- التكفير والهجرة :
وهى الجماعة الأم التي أسسها شكري مصطفى ، وقد اعتنقت أفكاراً بالغة الغرابة والتطرف وغير مسبوقة في إطار التنظيمات ذات الصبغة الدينية& كتكفير المجتمع وهجرته إلى الجبال والمغارات والشقق المفروشة وتزويج وتطليق الأعضاء بإرادة الأمير المنفردة ، وقد انتهى الأمر بهذه الجماعة إلى جريمة اختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف الأسبق ومساومة السلطات على مطالب مستحيلة التنفيذ ثم قتلوه حينما رفضت مطالبهم ، وقد أعدم شكري وعدد من معاونيه وبالرغم من هذا لم تمت أفكار شكري فقد توارثها عدد من أتباعه ليكونوا جماعات أخرى انتهجت فكر التكفير تحت مسميات مختلفة على النحو الذي سنراه فيما بعد .
2- جماعة السماوية :
ومؤسسها& هو عبد الله أحمد السماوي الشهير بطه السماوي والذي كان محبوسا مع شكري مصطفى داخل زنزانة واحدة في أوائل السبعينيات وسميت هذه الزنزانة "بالمكفرة" لمبالغتهم في تكفير جميع الاتجاهات المتطرفة حتى هؤلاء الذين يقفون معهم على أرضية واحدة ، وحينما أفرج عنه انشق على جماعة شكري وكون جماعة لا تتميز أفكارها ومنهجها عن الجماعة الأم& إلا بالتشدد الأحمق والتنطع الذي تجاوز حدود تكفير الحاكم والمحكوم وتحريم العمل بوظائف الدولة والتعليم ليصل إلى مناطق وعرة وبالغة الحماقة من مظاهر السلوك الإنساني ـ أو اللاإنساني ـ ومنها على سبيل المثال لا الحصر تكفير من يقبل التداوي لدى الأطباء ، ووجوب المجاهرة بتكفير السلطات وإعلان "البراء" منها ، وقصر السمع والطاعة للأمير وحده الذي كان يستغل أعضاء جماعته في أعمال حقيرة كغسل ملابسه الداخلية وتدليك جسده وغيرها من الممارسات الشاذة والمهووسة .
3- الشوقيون "الجهاد الجديد" :
وقد نشأت هذه الجماعة بطريقة مريبة في منتصف الثمانينيات بمركز أبشواي بالفيوم على يد مهندس زراعي يدعى شوقي عبد الرازق الشيخ ، ومنه استمدت اسمها الحركي وكان قد انشق على تنظيم الجماعة الإسلامية بعد أن كان أحد أعضائها في البداية ، وعمل شوقي والعناصر الموالية له على مواجهة عمر عبد الرحمن وجماعته وأفتوا بتكفيره حتى تمكن من السيطرة على عدد من القرى أشهرها "كحك" ، وأطلق على نفسه لقب "أمير المؤمنين" ، وعلى زوجته "أم المؤمنين" وأفتى بتحريم زواجها بعده لو طلقها أو توفي ، ثم انزلقت بصورة سريعة إلى دائرة العنف بشكل مفاجئ عندما قتل شوقي أحد الخفراء النظاميين ويدعى زيد مجاهد أبو الغيط لشكه في التجسس على نشاطه في تدريب جماعته على الرياضة العنيفة بالصحراء ثم قتل مهندس المساحة لاعتقادهم أنه أحد ضباط أمن الدولة حينما شاهدهم مصادفة يتدربون في الصحراء وأخيرا قتل المقدم أحمد علاء البراوي ضابط مباحث أمن الدولة بالفيوم في الحادث الشهير ، وانتهى الأمر بمقتل شوقي برصاص الشرطة ضمن عدد من أتباعه في مواجهة دامية بقرية كحك وقد أطلق عليها أتباعه فيما بعد (ساحة الشهداء) .
4- الناجون من النار أو"التوقف والتبين" :
تزعم هذه الجماعة بأنه لا يكفي لاعتبار المرء مسلما أن يلتزم بأركان الإسلام الخمسة وأداء الفروض ، والابتعاد عن الكبائر من الذنوب ، بل توسعوا في منطق التفكير ومنهجه حتى اعتبروا أن المرء يعد كافراً بمجرد ارتكابه معصية ، ولو كانت من الصغائر ، وهو ما أطلقوا عليه (التكفير بالمعصية) وتمتد جذور هذه الفكرة إلى فرق تاريخية شهيرة ، ثم مضوا لما هو أبعد من هذا فأفتوا بتكفير هؤلاء الذين لم تصلهم الدعوة الإسلامية بعد وكذا الذين يجهلون الأحكام الشرعية فيما يعرف في أدبيات فقه التطرف بـ (عدم العذر بالجهل) وأخذت هذه الجماعة على عاتقها مهمة محاكمة الجميع 00كل فرد على حده ، فيتوقفون مثلا عند فلان ويفحصون سلوكه الشخصي وحينما يتبين ارتكابه للمعصية ينفذون فيه حد الردة وهو التصفية الجسدية وقد قاموا بعدة محاولات فاشلة لاغتيال حسن أبو باشا والنبوي إسماعيل وزيري الداخلية السابقين ، والصحفي مكرم محمد أحمد ، ولا يزال نشاط هذه الجماعة كامنا للآن وإن كان قد تراجع كثيراً ، وآخر عملياتهم هو محاولة إحراق أحد الأضرحة بدمياط أثناء الاحتفال بمولد أحد الأولياء ، كما تجري الأعراف الاجتماعية في العديد من القرى والمدن المصرية منذ قرون بصرف النظر عن تقويم مدى صحة ذلك السلوك شرعياً ، لكن بالتأكيد فإنه من غير المقبول إقرار المواجهة من عوام الناس ، وبوسائل العنف كالحريق والتفجيرات ، ويعتبر المراقبون هذه الجماعة من أشرس الفرق القائمة على التكفير وأخطرها في ساحة العمل الأصولي رغم ضآلة أعداد المنتمين إليها نسبياً بالمقارنة بالجماعات الأخرى ، ومرجع تلك الخطورة عدة أسباب تتعلق بالإمعان في السيطرة النفسية والفكرية على أعضائها هذا فضلاً عن التدقيق في قبول العناصر الجديدة وإخضاعهم لعدة مواقف منتقاة بهدف الكشف عن مدى استجابتهم لما يكلفون به من مهام ، وعقب تفتت جماعة المسلمين - التكفير والهجرة - تفرق أعضاؤها في دروب شتى بين الانخراط في صفوف& السلفيين أو الجماعة الإسلامية أو الإخوان أو حتى الكف عن النشاط الحركي ، ولكن مدرسة التكفير عادت للظهور مرة أخرى عام 1987 على يد عنصرين من أخطر نشطاء الحركة هما : محمد كاظم ويسرى عبد المنعم& الذين استطاعوا تجنيد عشرات الشباب فيما عرف آنذاك بجماعة "التوقف والتبين" التي اشتهرت& إعلامياً باسم "الناجون من النار" ويعتمد فكر هذه الجماعة منهج التكفير بأسلوب يتسم بالإمعان في السرية وتوخى الحذر والتحرك في دوائر مغلقة ، ونتيجة لذلك لم تتمكن أجهزة الأمن آنذاك أن ترصد وجود أو نشاط هذه الجماعة إلا بعد قيام أعضائها بتنفيذ عدة عمليات عنف أبرزها محاولات اغتيال الصحفي مكرم محمد أحمد ووزيري الداخلية السابقين حسن أبو باشا والنبوي إسماعيل ، وتخبطت أجهزة الأمن كثيراً في تحديد هوية مرتكبي تلك الجرائم حتى انكشف أمر الجماعة - مصادفة - وألقي القبض عليهم في حادث قرية "الخرقانية" الشهير الذي لقي فيه كاظم مصرعه وتمكن مجدي الصفطي من الفرار .
وهكذا أصبحت حقيقة مؤكدة لدى رجال الأمن أن جماعة شكري مصطفى قد تلاشت بالفعل تنظيمياً لكنها ظلت باقية كمدرسة للتكفير تظهر في صور متعددة من حين لآخر وهو الأمر الذي حدث مرة أخرى& في الفيوم منذ سنوات حينما انشق شوقي الشيخ أحد تلاميذ عمر عبد الرحمن عليه وتبنى فقه مدرسة التكفير وبدا في مطلع الأمر مسالما والحقيقة أنه كان في مرحلة "الاستضعاف" التي تحدثنا عنها ثم خرج من قبضة السيطرة الأمنية عليه وعاد بجماعته المسماة "بالجهاد الجديد" والمعروفة إعلاميا "بالشوقيين" وأعلن خصومته مع أستاذه السابق عمر عبد الرحمن حتى أنه اضطر حينذاك لمغادرة منزله بالفيوم وتوجه للإقامة بمنزله في مدينة بني سويف المصرية بعد فتوى شوقي الشيخ بإهدار دمه .
1 مجلة "المنار الجديد" العدد 10& ـ إبريل 2000 ، القاهرة .
( يستند كثير من منظري هذا التيار إلى هذه الرواية باعتبارها أساساً فكرياً 00ومرجعية فقهية لما أسموه بفقه الحركة ، أو الاستناد الفقهي للعمل الحركي ولعل سيد قطب هو أول المحدثين في التنظير لهذا المنطق في مؤلفه الشهير (معالم على الطريق) ، كما أوضحنا في موضع سابق0
( تحقيقات قضية اغتيال الرئيس السادات سنة 1981 التي قضى فيها بإعدام عبد السلام فرج وآخرين 0