&
بعامل ثالث لا اسم له، هو غير عاملَي الصدفة او القصد، تؤدي "الجامعة" فكرةً وصرحاً، منذ العام 1977 دورا في الدلالة على وجهة الاحتقان السياسي في "المنطقة الشرقية" سواء كان هذا الاحتقان، بوجهته الفعلية، معلنا حينا او غير معلن حينا آخر. و"المنطقة الشرقية" حسب بعض الصحف في "الويك اند" هو العنوان الجغرافي الذي عاد الى الظهور مع دعوة رئيس الجامعة اليسوعية الى الاضراب الذي حصل امس ومناصرة جامعات "المنطقة الشرقية" الكامل له، كعنوان للدلالة على منطقة "الكثافة" المسيحية في لبنان.
طبعا ان يقوم رئيس جامعة - خصوصا اذا كانت مهمة - بالدعوة الى اضراب احتجاجا على انتهاك الحرم الجامعي، هو أمر تقليدي حدث في أمكنة كثيرة في العالم. لكن في لبنان يحمل معنى أكثر عمقا يكمن وراء المعنى الاول.
صحيح ان سليم عبو الشخص لا يشبه الا نفسه، الا انه في سياق الاحتقان السياسي المسيحي المزمن، سواء في مرحلة الهجوم الانكفائي قبل ،1984 او في مرحلة الدفاع الانكفائي بعد ،1984 يمكن اعتبار دعوته - اي اضراب الجامعة اليسوعية - نوعا من "الاسقاط" على "الفكرة الوطنية" كما تراها الثقافة السياسية التي ينتمي اليها.
ان الحساسية المفرطة لـ"سيادة" الجامعة، حتى لدى رجل أكاديمي في جامعة ذات مستوى، ليست اكاديمية. على الاقل "انفجارها" ليس أكاديميا. فكأنما سليم عبو، بتأييد منتبه من بيئته، يستعيض عن سيادة الكيان اللبناني التي لا حول ولا قوة له تجاهها كما تراها ثقافته، بالتشديد على "سيادة" الجامعة، بهذا المعنى الكياني الكامن او الطافح عن المعنى التقليدي للحرم الجامعي. وكم كان ذا دلالة - وهو ما يمكن فهمه - ان رئاسة الجامعة الاميركية لم تؤيد دعوة رئاسة الجامعة اليسوعية، ليس طبعا بل ليس حتما لأن رئيس الاميركية جون واتربوري غير حساس لحرمة الجامعة، بل لأن "السياسي" في حساب قراره - اي الشأن الداخلي اللبناني - اقوى من "الاكاديمي" تبعا لقوة الخلفية السياسية للحدث نفسه. فالجامعة اليسوعية "حزب" مهم في "الخيارات" اللبنانية الكبرى، او بكلام آخر حزب أساسي في الصراع على الهوية السياسية للبلد، بينما شقيقتها (وحتى منافستها العلمية) الاميركية تنظر الى نفسها بدور آخر، أكثر اجتماعيةً - اقتصاديةً في بعده الداخلي، فضلا عن ان تاريخها في لبنان هو تاريخ اقليمي، نشأة ونموا. ثم أنها بعد ان انحسرت وظيفتها التعليمية الاقليمية هي في طور البحث عن معنى جديد لهذا الدور الاقليمي في ظل التحديات الاقليمية (لا اللبنانية) وبعدما أعادت ترميم "دورها" الداخلي اللبناني، (على أي حال حصل اضراب "جزئي" في الاميركية بدعوة من بعض القاعدة الطلابية).
الجامعة اليسوعية "حزب" مؤسس في الكيان اللبناني. اما الجامعة الاميركية، ولو ولدت قبل اليسوعية، فهي خارج هذه الدائرة من الادوار.
"يسوعية" سليم عبو (وهي ليست يسوعيته وحده طبعا) جزء من ظواهر الاستنفار في زمن الانكفاء الدفاعي. فهي في هذا السياق تستكمل ظاهرةَ تنكُّب الكنيسة المارونية لدور قيادي، واستنفارها حين انفصلت - في لبنان - فكرة الدولة عن فكرة "الأمة" ذلك "الزواج" الذي ولدت منه - في نظر المؤسسين المحليين عام 1920 - معادلة الكيان اللبناني. تغيرت الدولة، ولم يولد مشروع "الأمة" التي حلم بها الكيانيون الاوائل، مع تحول الازمنة، وتطور فكرة "الأمة" نفسها بالاتجاهات التي صنعتها او صدعتها حقائق التاريخ والجغرافيا في لبنان. ولا شك، ككل الافكار "القومية" في نهايات القرن التاسع عشر، ان تغير مفهوم "الأمة" يجعل من بعض الاذكياء المواكبين الذين يعتبرون انفسهم في قرنة شهوان ورثة سلف العشرينات - وليس الاربعينات فقط - يجعل من هؤلاء ينظرون الى أحلام السلف المؤسس الآن على انها أحلام "ساذجة" بمنظور القرن الحادي والعشرين، رغم ان هذه "السذاجة" انتجت بين الثلاثينات والستينات احدى أجمل وأهم بلدان الشرق الاوسط... في ما تبين لاحقا ايضا، انه - بكلفة مأساوية - احدى أضعف دول الشرق الاوسط وأكثرها ديمومة في الهشاشة. (كيف يكون احد المجتمعات الاكثر حداثة في المنطقة احد المجتمعات الاكثر هشاشة؟ من يدرس هذا السؤال: علماء الانتروبولوجيا او السياسة او الاجتماع او الاقتصاد أو التاريخ؟).
عام 1977 ذهب "الهجوم الانكفائي" الى ان تتلقف الجامعة اللبنانية كرة الانقسام العام في الكيان، فحدث "التفريع". فيما كان "التفريع" السياسي الواقعي يطال الجغرافيا ايضا، بين "فرع المنطقة الغربية" و"فرع المنطقة الشرقية" ... حتى بلغ في خريف عام 1988 حد ولادة حكومتين (ميشال عون وسليم الحص) لكل "فرع". الى ان انتصر "فرع" على آخر في معادلة اقليمية دولية منتصرة... وحّدت الدولة.
في السنة الماضية تجدد اسقاط "التوحيد - التفريع" حول موضوع "الجامعة". تلك كانت جامعة الدولة (البائسة اكاديميا سواء توحدت او تفرعت... وهذا - أي البؤس - ... ملف مختلف تماما).
وأمس... تجدد اسقاط "السيادة - الانتهاك" حول موضوع "الجامعة". تلك كانت جامعة "جميع القديسين" على الاقل جامعة "المزاج" السياسي لـ"جميع القديسين".
& & &
هل لنا ان نتفاءل لننشل المعالجة، ولو في خاتمتها، من ضيق الاوكسيجين السياسي اللبناني الحالي، فنردد مع المثل الاسلامي الشائع عن انه من الافضل ان ترى "الزعماء على أبواب العلماء لا العلماء على ابواب الزعماء"... بهذا المعنى ان نرى "رؤساء الاحزاب" على ابواب رؤساء الجامعات من ان نرى رؤساء الجامعات على أبواب "رؤساء الاحزاب"؟ (النهار اللبنانية)
بعامل ثالث لا اسم له، هو غير عاملَي الصدفة او القصد، تؤدي "الجامعة" فكرةً وصرحاً، منذ العام 1977 دورا في الدلالة على وجهة الاحتقان السياسي في "المنطقة الشرقية" سواء كان هذا الاحتقان، بوجهته الفعلية، معلنا حينا او غير معلن حينا آخر. و"المنطقة الشرقية" حسب بعض الصحف في "الويك اند" هو العنوان الجغرافي الذي عاد الى الظهور مع دعوة رئيس الجامعة اليسوعية الى الاضراب الذي حصل امس ومناصرة جامعات "المنطقة الشرقية" الكامل له، كعنوان للدلالة على منطقة "الكثافة" المسيحية في لبنان.
طبعا ان يقوم رئيس جامعة - خصوصا اذا كانت مهمة - بالدعوة الى اضراب احتجاجا على انتهاك الحرم الجامعي، هو أمر تقليدي حدث في أمكنة كثيرة في العالم. لكن في لبنان يحمل معنى أكثر عمقا يكمن وراء المعنى الاول.
صحيح ان سليم عبو الشخص لا يشبه الا نفسه، الا انه في سياق الاحتقان السياسي المسيحي المزمن، سواء في مرحلة الهجوم الانكفائي قبل ،1984 او في مرحلة الدفاع الانكفائي بعد ،1984 يمكن اعتبار دعوته - اي اضراب الجامعة اليسوعية - نوعا من "الاسقاط" على "الفكرة الوطنية" كما تراها الثقافة السياسية التي ينتمي اليها.
ان الحساسية المفرطة لـ"سيادة" الجامعة، حتى لدى رجل أكاديمي في جامعة ذات مستوى، ليست اكاديمية. على الاقل "انفجارها" ليس أكاديميا. فكأنما سليم عبو، بتأييد منتبه من بيئته، يستعيض عن سيادة الكيان اللبناني التي لا حول ولا قوة له تجاهها كما تراها ثقافته، بالتشديد على "سيادة" الجامعة، بهذا المعنى الكياني الكامن او الطافح عن المعنى التقليدي للحرم الجامعي. وكم كان ذا دلالة - وهو ما يمكن فهمه - ان رئاسة الجامعة الاميركية لم تؤيد دعوة رئاسة الجامعة اليسوعية، ليس طبعا بل ليس حتما لأن رئيس الاميركية جون واتربوري غير حساس لحرمة الجامعة، بل لأن "السياسي" في حساب قراره - اي الشأن الداخلي اللبناني - اقوى من "الاكاديمي" تبعا لقوة الخلفية السياسية للحدث نفسه. فالجامعة اليسوعية "حزب" مهم في "الخيارات" اللبنانية الكبرى، او بكلام آخر حزب أساسي في الصراع على الهوية السياسية للبلد، بينما شقيقتها (وحتى منافستها العلمية) الاميركية تنظر الى نفسها بدور آخر، أكثر اجتماعيةً - اقتصاديةً في بعده الداخلي، فضلا عن ان تاريخها في لبنان هو تاريخ اقليمي، نشأة ونموا. ثم أنها بعد ان انحسرت وظيفتها التعليمية الاقليمية هي في طور البحث عن معنى جديد لهذا الدور الاقليمي في ظل التحديات الاقليمية (لا اللبنانية) وبعدما أعادت ترميم "دورها" الداخلي اللبناني، (على أي حال حصل اضراب "جزئي" في الاميركية بدعوة من بعض القاعدة الطلابية).
الجامعة اليسوعية "حزب" مؤسس في الكيان اللبناني. اما الجامعة الاميركية، ولو ولدت قبل اليسوعية، فهي خارج هذه الدائرة من الادوار.
"يسوعية" سليم عبو (وهي ليست يسوعيته وحده طبعا) جزء من ظواهر الاستنفار في زمن الانكفاء الدفاعي. فهي في هذا السياق تستكمل ظاهرةَ تنكُّب الكنيسة المارونية لدور قيادي، واستنفارها حين انفصلت - في لبنان - فكرة الدولة عن فكرة "الأمة" ذلك "الزواج" الذي ولدت منه - في نظر المؤسسين المحليين عام 1920 - معادلة الكيان اللبناني. تغيرت الدولة، ولم يولد مشروع "الأمة" التي حلم بها الكيانيون الاوائل، مع تحول الازمنة، وتطور فكرة "الأمة" نفسها بالاتجاهات التي صنعتها او صدعتها حقائق التاريخ والجغرافيا في لبنان. ولا شك، ككل الافكار "القومية" في نهايات القرن التاسع عشر، ان تغير مفهوم "الأمة" يجعل من بعض الاذكياء المواكبين الذين يعتبرون انفسهم في قرنة شهوان ورثة سلف العشرينات - وليس الاربعينات فقط - يجعل من هؤلاء ينظرون الى أحلام السلف المؤسس الآن على انها أحلام "ساذجة" بمنظور القرن الحادي والعشرين، رغم ان هذه "السذاجة" انتجت بين الثلاثينات والستينات احدى أجمل وأهم بلدان الشرق الاوسط... في ما تبين لاحقا ايضا، انه - بكلفة مأساوية - احدى أضعف دول الشرق الاوسط وأكثرها ديمومة في الهشاشة. (كيف يكون احد المجتمعات الاكثر حداثة في المنطقة احد المجتمعات الاكثر هشاشة؟ من يدرس هذا السؤال: علماء الانتروبولوجيا او السياسة او الاجتماع او الاقتصاد أو التاريخ؟).
عام 1977 ذهب "الهجوم الانكفائي" الى ان تتلقف الجامعة اللبنانية كرة الانقسام العام في الكيان، فحدث "التفريع". فيما كان "التفريع" السياسي الواقعي يطال الجغرافيا ايضا، بين "فرع المنطقة الغربية" و"فرع المنطقة الشرقية" ... حتى بلغ في خريف عام 1988 حد ولادة حكومتين (ميشال عون وسليم الحص) لكل "فرع". الى ان انتصر "فرع" على آخر في معادلة اقليمية دولية منتصرة... وحّدت الدولة.
في السنة الماضية تجدد اسقاط "التوحيد - التفريع" حول موضوع "الجامعة". تلك كانت جامعة الدولة (البائسة اكاديميا سواء توحدت او تفرعت... وهذا - أي البؤس - ... ملف مختلف تماما).
وأمس... تجدد اسقاط "السيادة - الانتهاك" حول موضوع "الجامعة". تلك كانت جامعة "جميع القديسين" على الاقل جامعة "المزاج" السياسي لـ"جميع القديسين".
& & &
هل لنا ان نتفاءل لننشل المعالجة، ولو في خاتمتها، من ضيق الاوكسيجين السياسي اللبناني الحالي، فنردد مع المثل الاسلامي الشائع عن انه من الافضل ان ترى "الزعماء على أبواب العلماء لا العلماء على ابواب الزعماء"... بهذا المعنى ان نرى "رؤساء الاحزاب" على ابواب رؤساء الجامعات من ان نرى رؤساء الجامعات على أبواب "رؤساء الاحزاب"؟ (النهار اللبنانية)
التعليقات