&
&
دعا الرئيس يوري موسيفيني في الجمعية العامة للامم المتحدة الى تقسيم السودان الى دولتين، دولة مسلمة في الشمال، ودولة مسيحية في الجنوب، وكانت دعوته مفاجئة للجميع لأنها المرة الأولى التي يطالب فيها رئيس افريقي بتقسيم السودان ضاربا عرض الحائط بميثاق منظمة الوحدة الافريقية، فضلا عن كونه احد اربعة رؤساء افارقة يتوسطون في المشكل السوداني في اطار ما يسمى مبادرة دول "الايقاد" والادهى ان هذه المطالبة تجيء من على منبر الامم المتحدة، ومن رئيس وقع اخيرا اتفاقه السادس مع الحكومة السودانية في نيروبي لتطبيع علاقات البلدين بعد ان التزمت الحكومة السودانية بوقف دعمها لجيش "الرب" الذي كان يقاتل حكومة موسيفيني، وفوق هذا وذاك فإن الرئيس الأوغندي يحتضن الحركة الشعبية التي هي بقيادة رفيق دراسته الدكتور جون قرنق والتي تجهر بأنها ضد تقسيم السودان الى شمال مسلم وجنوب مسيحي وتدعو حسب مواثيقها الخاصة والعامة مع التجمع الوطني الديمقراطي المعارض الى سودان جديد، ولا تبدي اهتماما يذكر بحق تقرير المصير الذي تواصت عليه كل الاطراف السودانية، بل تؤكد انه حتى اذا ما اقتضت الضرورة اليه فإنها ستمضي في الطريق المفضي الى الوحدة.
ولعل مما يعزز هذه الفرضية ان الحركة الشعبية بقيادة قرنق كانت اول المعترضين على عقد المؤتمر الذي دعا الى عقده منتصف الشهر الحالي الرئيس النيجيري اوليسيحون اوباسانجو والذي كان من المفترض ان تحضره كل الفصائل الجنوبية لتحديد رؤية جنوبية مشتركة تقدم لاهل الشمال، بحجة ان عقد مؤتمر بتلك الكيفية يمكن ان يصب في اتجاه الانفصال لأنه يحصر القضية بين الشمال والجنوب بينما المطلوب هو بحث قضية أزمة الحكم في السودان وصولا الى بلورة سودان جديد موحد، ولا شك ان الحركة لعبت دورا مقدرا في عدم عقد المؤتمر، فضلا عن ان الرئيس النيجيري نفسه يعتبر من اكثر الرؤساء الافارقة حرصا على وحدة السودان بالنظر الى ما يجمع بين البلدين من تشابه وتشابك في الاوضاع المشتركة.
في ضوء كل ما تقدم ذكره تبدو دعوة الرئيس الأوغندي المفاجئة امرا مثيرا للاهتمام والتساؤلات، حيث لا يوجد اي مبرر منطقي او عملي لاطلاق مثل تلك الدعوة، فلا هو ولا حكومته يمكن تصنيفهما ضمن التيار الكنسي، بل العكس ان جيش "الرب" الذي يقاتل حكومته والذي كانت تدعمه الحكومة الاسلامية في الخرطوم يقوده "القس كوني" وتلك مفارقة تدعو الى السخرية فهل اراد بدعوته هذه ان يكرر نفس المفارقة مع حكومة الخرطوم؟!
اذا كان الامر كذلك كان الاولى به ان يتصالح اولا مع جيش "الرب" ويستجيب لمطالب القساوسة! ثم بعد ذلك يصبح داعية لتقسيم السودان على اساس ديني، واذا كان الامر ليس كذلك، فهل رأى موسيفيني ان يحدث مجرد فرقعة لينقض آخر اتفاق له مع الخرطوم لتطبيع العلاقات، ربما، ولكنه بما له من خبرة كبيرة في نقض الاتفاقات مع الحكومة بدأت مع وساطات ايرانية، مرورا بأخرى ليبية الى غير ذلك كان من الممكن ان يتبع اسلوبا غير هذا الاسلوب، خاصة ان استخدام دعوات مثل ضرورة اطاحة نظام الخرطوم الارهابي ووجوب تغيير الحكم، فلماذا قفز هذه المرة من "الحكم والحاكمين" الى الدعوة الى تقسيم السودان ذاته، قد يتعجب المرء ويتساءل: هل جاءت تلك الدعوة عفو الخاطر ام وراءها ما لم يتكشف بعد؟ وهل جاءت بايعاز من الولايات المتحدة كنوع من الضغط باتجاه تسوية قضية الحرب والسلام في الخرطوم، علما بأن المبعوث الرئاسي الامريكي الخاص الذي زار السودان اخيرا حرص على عقد اجتماع مع علماء الدين الاسلامي ورجال الدين المسيحي، واشار بوضوح الى ان دورهم في حل القضية اهم من دور الحكومة؟! .. وهل الادارة الامريكية الجديدة تخلت عن نهج الادارة السابقة التي كانت لا تخفي احيانا رغبتها في اطاحة حكومة الجبهة واستبدلت امكانية اتباع نهج يقسم السودان في نهاية الامر الى دولتين في الشمال والجنوب بذلك، خصوصا ان المبعوث لمح الى ان امريكا سترفع يدها اذا لم تستجب الاطراف المعنية الى ما اشارت اليه قبل ايام، ورفع يدها قد يعني في ما يعني تقسيم السودان!
ليس بوسعنا ان نرجح هذه الفرضية او تلك ويمكننا الاسترسال في ذكر مزيد من الفرضيات، لكن الاهم هو كيف واجهت الاطراف المعنية هذه الدعوة التي اطلقها موسيفيني؟
لم نسمع شيئا من المعارضة وبالطبع حركة قرنق، لكن الحكومة اعلنت على لسان القائم بأعمالها في العاصمة الأوغندية كامبالا استنكارها واحتجاجها على ذلك، مؤكدة انه لا احد يستطيع تقسيم السودان، وان هذا امر غير وارد اطلاقا، وبالطبع ما قاله القائم بالاعمال لا يكفي ويلزم الحكومة ان تولي الامر عناية اكبر وان تسعى بأسرع الطرق لسد كل المنافذ التي يمكن ان تفضي لأن تكون دعوة موسيفيني خيارا مطروحا و قابلا للتنفيذ.
ويحمد للحكومة انها استجابت على نحو ما للشروط التي عرضها المبعوث الامريكي، ومنها تمديد مهلة السكون في منطقة جبال النوبة بغرب السودان لمدى اربعة اسابيع او اكثر لاسقاط المعونات على المحتاجين في المناطق الواقعة تحت سيطرة قرنق، بل ان المبعوث زار شخصيا المنطقة وشهد اسقاط المعونات وابدى ارتياحه ومطالبته باستمرار الهدنة الى اجل غير محدد، لكن هذه الاستجابة ينبغي ان تكون مقرونة بخطوات اكثر تسارعا نحو تحقيق الوفاق من منطلق حقيقي وليس عبر اطلاق شعارات براقة او احاديث في غاية الخطورة كما ورد على لسان الرئيس عمر حسن البشير اخيرا حيث قال: "ان الوفاق بات وشيكا ودعا المعارضين في الخارج الى العودة وممارسة نشاطهم من الداخل والاتفاق على حكومة برنامج، وان من شأن ذلك ان يضع حركة التمرد في حجمها الطبيعي".
من الواضح ان مثل هذه الدعوة اذا تحققت، فإنها بلا شك تصب في مصلحة الدعوة التي اطلقها الرئيس الاوغندي لأن المصالحة تكون مصالحة شمالية ـ شمالية ويبقى الامر وكأن اهل الشمال تكاتفوا ضد اهل الجنوب او على احسن حال نكون قد عدنا الى الفرز الذي يناسب دعاة الانفصال بجعل القضية مختصرة في الجنوب مع الشمال ونكون بذلك قد خذلنا الحركة الشعبية التي تمثل اغلبية اهل الجنوب في دعوتها للوحدة ومنحنا تيار دعاة الانفصال حتى داخل الحركة فرصة لتحويل مسار الحركة الى فكرة الدعوة التي جاهر بها الرئيس الاوغندي!
لقد قدمت الحركة الشعبية مجموعة من الافكار الى المبعوث الامريكي، تمهيدا للوصول الى السلام، وهي في مجملها تستحق الاعتبار والاخذ بالكثير منها لتهيئة المناخ، ومنها على سبيل المثال ترك مسألة "الجهاد" في حرب الحكومة مع الحركة لأن استمرار الحرب باسم الجهاد يعتبر ارهابا ويفرز كراهية دينية بين المتحاربين ويساهم في انتهاك الحريات الدينية، كذلك طالبت الحركة بان يمتنع النظام عن تأجيج النزاعات القبلية والاثنية عبر استخدام الميليشيات القبلية، الامر الذي يمزق النسيج الاجتماعي ويمنع التعايش المشترك بين القبائل، وكذلك وقف الاعتقالات وانتهاك حقوق الانسان الى آخره. كما طالبت بضرورة ربط وقف اطلاق النار الشامل بتصور واضح للحل الشامل والعادل، وهذه مطالب بوسع الحكومة ان تقبل بها وهي كفيلة بأن تسحب البساط من تحت اقدام كل من يريد السعي لتفتيت وحدة السودان.
ان على الحكومة في الخرطوم ان تعيد النظر في سلوكاتها مع الحركة الشعبية وان تتعامل معها على نحو افضل في اطار التجمع الوطني الديمقراطي المعارض عوضا عن بحث تفتيت التجمع واستقطاب كل القوى الشمالية تاركة الحركة وحدها، فمثل هذا التفكير والتدبير يضر حتما بوحدة السودان ولا يحقق السلام ولا الاستقرار وانما يحقق فقط تقسيم السودان وفي كل الاحوال ما زلنا نأمل في تحرك من مصر وليبيا لانفاذ مبادرتهما التي تضاءل امل اهل السودان فيها لما اصابها من ركود وسكون وعدم اكتراث!(الشرق الأوسط اللندنية)
&