&
خلف كل باب ، في العاصمة النروجية اوسلو، هناك شاب يعيش بمفرده، علي وجه التقريب. هذه الخلاصة توصلت إليها جهود بذلها اختصاصيون في الشأن الاجتماعي والمحيط الأسري في المدن النروجية، خصوصاً أوسلو، فالمدن تجذب الشبان الذين يعطون اهمية كبيرة لحريتهم الشخصية. وتوفر الأجواء السائدة في النروج مثل هذا الخيار. فالحال ان الشاب يكون اكثر قدرة علي تسيير اموره وتوفير مقومات عيشه حين يكون بمفرده. إن العيش مع آخرين، سواء أكان هؤلاء آباء أم أمهات أم زوجات، يشكل عبئاً لا يريد الشاب النروجي تحمله. فوق هذا فإن الأهل أنفسهم سرعان ما يضيقون ذرعاً بمقام الشاب في البيت ويفضّلون ان يرحل ليتدبر احواله بنفسه. لقد صار العيش علي انفراد بمثابة سلوك عام، موضة. ويقول جون بلوغر، وهو واحد من الباحثين في ميدان الحياة الاجتماعية، ان العيش مفرداً مثل مرحلة من مراحل العيش لا بد ان يجتازها المرء. وهو بات يمثل خياراً حراً لغالبية الشباب النروجي. ويتألف هؤلاء، في اكثريتهم من الذين تجاوزوا بالكاد فترة المراهقة وكذلك الطلاب ولا سيما اولئك الذين يأتون من خارج المدينة ليقيموا فيها. وغالباً ما يبدأ هؤلاء الاستقرار علي شكل ثنائي متفاهم لتقاسم واجبات العيش. إذ يسكن الشاب غالباً مع صديقته (أو صديقه) علي أساس علاقة العيش المشترك . ولكن سرعان ما يبدأ الشرخ يصيب العلاقة. وينشأ هذا من تبعات العمل وضرورات تقاسم الأعباء والحقوق، المالية وغيرها. فلا يمكن والحق يقال، ان تستمر العلاقة ما لم يعمد الشريكان الي العمل وتدبّر المتطلبات اليومية علي قدم المساواة. ويفضل الشاب ان يكون وحيداً، يحقق اهواءه وأحلامه بمفرده بدل ان ينخرط في حياة جماعية ترهق كاهله. لقد غدت نوازع العيش المنفرد بمثابة ثقافة سائدة يقول بلوغر. وتمثل العاصمة اوسلو نقطة جذب للراغبين في العيش علي انفراد. فهي مثل مدينة ألعاب واسعة يمارس كل شاب فيها لعبته المفضلة من دون مشاطرة آخرين. ويقول ترنت غولبراندسن، وهو شاب يعيش وحيداً، إنه يشعر براحة كبيرة في حياته. لكن ما يزعجه هو السؤال الذي يطرحه آخرون عليه، بين الحين والآخر لماذا تعيش وحيداً؟ . إنهم يفترضون ان من الطبيعي ان يعيش المرء مع آخر. ولا يخفي غولبراندسن دهشته وفرحته من النتيجة التي أظهرها الاستقصاء وتبيّن فيه انه ليس حالاً نادرة.
وإذا كان هذا النمط من العيش يفرض علي الشاب ان يعتمد علي ذاته ويطوّر قابلياته وينمّي شخصيته ويصون استقلاليته، فإنه يدفع بالكثيرين الي السقوط في حمأة اليأس والضياع. وينتج عن ذلك الميل الي اتباع سلوك خاطئ والانغماس في ميول عدوانية تظهر الآخر بمثابة فريسة يتحتم عليه ان ينقضّ عليها. وغالباً ما يظهر من وسط هؤلاء مجرمون لا يردعهم شيء عن اقتراف الرذائل من سرقة واغتصاب وجرائم اخري.
ويلعب الأهل دوراً في تعميق هذا المناخ. إنهم يبدأون في النظر الي الشاب، كما لو كان آتياً من كوكب آخر، حين يتخطي السن التي تسمح له بالبقاء في كنف الأسرة. ويخفق الشاب، في حال كهذا، في العثور علي توازن نفسي يؤهله للخوض في حياة مستقرة. إنه يفضل الذهاب بعيداً في مسعاه لتدبير امور عيشه بنفسه وكثيراً ما تنتهي حال الزواج، التي يختارها الشاب، بالفشل ويمضي كل شخص، من الزوجين، في اتجاه. وبعد ذلك يفضل الطرفان عيش الانفراد أطول فترة ممكنة كما لو كان ذلك تطهّراً من ذنب اقتُرف. ويجذب هذا النمط من العيش الشباب المهاجر. ولن يصعب علي أي مراقب ان يلاحظ ان اعداداً هائلة، تتزايد باستمرار، من المهاجرين واللاجئين، تمثل شباباً يميلون الي العيش بانفراد. وتكتظ شوارع اوسلو بأرهاط من هؤلاء تتسكع في الشوارع أو تجتمع في اماكن اللهو والتسلية والميسر. ولن يكون مبالغاً القول إن العصابات التي تمارس العنف إنما تنبثق من هذا المحيط، في وقت تبذل فيه الكنيسة والمؤسسات الاجتماعية الجهود الحثيثة لإظهار منافع العيش الجماعي وتكوين الأسرة وتعزيز رابطة الزواج.
إن اوسلو هي مدينة المنعزلين ، ومن بين المئة والخمسين ألف شاب، الذين يعيشون وحيدين فإن 63 في المئة منهم تقل اعمارهم عن الثلاثين سنة.
ولكن هل ينحو هذا التقليد ليصير نمطاً ثابتاً للعيش ام ان الأمر يتعلق بظاهرة وقتية لن تلبث ان تزول. هذا ما يسعي الباحثون الي تحرّي جواب له.(الحياة اللندنية)