الدوحة- من أحمد قريشي: الاتصالات المتنامية في الأيام الثلاثة الفائتة بين مسؤولين خليجيين وباكستانيين وبين تحالف الشمال المسيطر على معظم أفغانستان، باتت تمثل الفرصة الأخيرة لإنقاذ من بقي حياً من مقاتلي "طالبان" من العرب والشيشان والباكستانيين بعد "المجزرة" في سجن مزار الشريف التي سقط فيها نحو 600 من المقاتلين غير الأفغان على يد قوات التحالف.
وعبر مسؤولون خليجيون، يخشون أن عدداً كبيراً من رعاياهم هم من بين أولئك المقاتلين الأجانب، عن "الأسف" لأن تحالف الشمال فشل في توفير الحماية للمقاتلين الاسرى، رغم التعهدات العلنية من برهان الدين رباني، رئيس التحالف، بأن أولئك المقاتلين سيلقون المعاملة التي يفرضها القانون الدولي في شأن أسرى الحرب.
وقال مسؤول قطري أمس في الدوحة لـ "الرأي العام" إن اتصالات "مستمرة منذ أيام عدة" بين مسؤولين خليجيين، لم يسمهم، وبين مسؤولي تحالف الشمال "باتت تمثل الفرصة الأخيرة لإنقاذ الأحياء من المقاتلين غير الأفغان", وأضاف أن المسؤولين في قطر يشعرون بـ "الأسف" لأن تحالف الشمال تجاهل دعوة الدوحة، التي ترأس الدورة الحالية لمنظمة المؤتمر الاسلامي، بحقن دماء المقاتلين الاسرى وبمعاملتهم كأسرى حرب, وحض مسؤولون من السعودية والامارات وباكستان أيضاً واشنطن على ضمان "عدم تصفية" المقاتلين من العرب وغيرهم، حسب المسؤول القطري, وتقوم ليبيا أيضاً باتصالات في هذا الصدد مع كل من إيران وروسيا اللتين تقيمان علاقات ودية معها.
وتنظر غالبية قادة تحالف الشمال، الى الدول الخليجية، خصوصاً الامارات والسعودية، اضافة الى باكستان، نظرة عداء بسبب تعاطفها سابقاً مع حركة "طالبان", لكن، في المقابل، تستمر أبوظبي والرياض واسلام أباد في الارتياب في كون تحالف الشمال "حصان طروادة" لنفوذ روسيا وايران والهند,
لكن اتصالات خجولة بدأت بين دول خليجية واسلام أباد ومسؤولي تحالف الشمال, وأتى هذا التطور في ذيل الاتصالات التي قام بها مسؤولون خليجيون, ويحتاج تحالف الشمال، الذي يسيطر عملياً على العاصمة كابول ومعظم أراضي أفغانستان، الى دعم اقتصادي وسياسي من الدول الخليجية اذا ما قرر الاستمرار بالاستفراد بالسلطة.
وحسب مصدر في العاصمة الباكستانية تحدث لـ "الرأي العام" أمس، وصل إلى اسلام أباد يوم الأحد الفائت حاجي عبدالقدير، أحد القادة النافذين داخل التحالف قادماً من كابول والحاكم القوي لمقاطعة ننغاهار (عاصمتها مدينة جلال آباد)، واجتمع مع مسؤولين باكستانيين قبل التوجه الى بون في المانيا حيث ينعقد المؤتمر الذي ترعاه الأمم المتحدة بهدف تشكيل حكومة أفغانية موسعة.
وفي اليوم ذاته، كان زعيم التحالف رباني يتوجه الى دبي في زيارة غير معلن عنها مسبقاً, ودبي هي المدينة التي ارتبطت قبل 11 سبتمبر مع قندهار، المقر الروحي لحركة "طالبان"، برباط "جسر جوي" كان تنتقل عبره البضائع والمعدات من الأسواق العالمية, كما أن الخطوط الجوية الأفغانية "آريانا"، تحت ادارة "طالبان"، احتفظت بمكتب رئيسي في دبي.
وكنتيجة للاتصالات المكثفة مع واشنطن ولندن قامت بها شخصيات خليجية كبيرة، الى جانب قيام باكستان بارسال وفد الى كابول من قبائل الباشتون الباكستانية للوساطة من أجل حقن دماء مقاتلي "طالبان" العرب والشيشان والباكستانيين، بدل رباني موقفه السابق الداعي الى قتلهم أو سجنهم، ووافق على تسليم الاسرى الى الأمم المتحدة, كما أن ماري روبنسون، مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الانسان، شجبت "أحكام الاعدام من دون محاكمة لأشخاص ألقوا السلاح" في 11 نوفمبر الجاري، وهددت بمحاكمات مستقبلاً للمتورطين في أعمال الإبادة، في تحذير مبطن الى زعماء تحالف الشمال.
لكن موقف رباني الجديد لم يحز اجماعاً كما يبدو داخل صفوف التحالف, إذ إن الجنرال بسم الله خان، أحد قادة التحالف العسكريين في كابول، انتقد مبادرات لدول عربية لحقن دماء المقاتلين العرب والأجانب، وأشار الى "صمت" هذه الدول عندما كان أولئك المقاتلون يحاربون قوات تحالف الشمال.
وكتائب المقاتلين العرب والشيشان والباكستانيين، وهم أشد مقاتلي "طالبان" بأساً، أذاقوا تحالف الشمال أسوأ هزائمه على مدى السنوات الخمس الفائتة، وصلت ذروتها الى التمكن من اغتيال القائد الكاريزمي الوحيد في التحالف، أحمد شاه مسعود، في سبتمبر الفائت, وحرصت "طالبان" منذ بدء الحملة الأميركية ضدها في 7 أكتوبر على أن تكون خطوطها الأمامية، التي تجابه كلا من القصف الأميركي وتقدم قوات تحالف الشمال، من كتائب العرب والشيشان والباكستانيين المتطوعين، على أن تكون خطوطها الخلفية من القوات النظامية من الأفغان.
ورغم أن معظم الدول العربية لم تعرب عن قلق ذي أهمية حول مصير المئات من مواطنيها من مقاتلي "طالبان" المحاصرين، الا أن مسؤولي التحالف الشمالي تمهلوا قليلا في اندفاعهم للثأر تحسباً لاحتمال اساءة العلاقات مستقبلا مع الدول العربية وإثارة غضب الرأي العام في العواصم العربية وأيضاً في باكستان، الجار ذي الحدود الأطول مع أفغانستان,
وبعد سقوط "قندوز" في بدء الأسبوع الحالي، كان ثمة 750 مقاتلاً أجنبياً من بين نحو ستة آلاف مقاتل من حركة "طالبان" استسلموا لقوات تحالف الشمال, ونُقل المقاتلون الأجانب الى السجون والأقبية في "قلعت جانجي" (قلعة الحرب) التاريخية الضخمة على مشارف مدينة "مزار شريف", واعتبر القائد الأوزبكي عبد الرشيد دوستم القلعة دوماً مقراً خاصاُ له.
لكن التمرد الذي أعلن تحالف الشمال اندلاعه داخل سجون القلعة مساء الأحد، انتهى تقريباً بقتل نحو 600 من المقاتلين الأجانب، وغالبيتهم من الباكستانيين والعرب, وألمحت "واشنطن بوست" الى احتمال أن تكون مسألة التمرد "مؤامرة" داخلية من جانب قوات تحالف الشمال من أجل تصفية أولئك المقاتلين الذين ترى واشنطن أنهم "متعصبون عقائدياً" وسيستمرون في القتال ضد أميركا إذا ما سرحوا.
وكان تحالف الشمال أكد أن الاسرى تمكنوا من "تهريب" أسلحة ثقيلة مثل راجمات الصواريخ وقذائف هاون ورشاشات كلاشنيكوف الى داخل سجونهم قبيل اندلاع التمرد، ما أثار تساؤلات حول كيف سمح حراس السجن من قوات التحالف بحصول تهاون في مراقبة الأسرى من أعتى أعدائهم.
ورغم تطمينات رباني، أكد مراقبون وقتها أن قادة في التحالف سيمضون قدما في الثأر من أسرى "طالبان" من غير الأفغان، خصوصاً أن رباني لا يتمتع بسلطة واسعة على سائر الفصائل المكونة لتحالف الشمال، وتقتصر سلطته على فصيل "الجمعية الاسلامية" والمقاتلين الطاجيك في شمال شرقي أفغانستان الذين يسيطرون الآن على كابول.
كما أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد أعطى عملياً الضوء الأخضر لقادة تحالف الشمال بتصفية الأسرى العرب والباكستانيين والشيشان في وقت كان وزير الخارجية كولن باول يؤكد لنظيره القطري الشيخ حمد بن جاسم أن واشنطن ستضغط على تحالف الشمال ليعامل الأسرى حسب القانون الدولي.
وحسب معاهدات جنيف حول أسرى الحرب، يجب معاملة كل مقاتل يلقي سلاحه كأسير حرب وتهيأ له الحقوق المترتبة على مثل ذلك التصنيف، مثل الحق في المعاملة الحسنة والعناية الطبية وعدم معاملته معاملة العدو في ساحة الحرب.
لكن رامسفيلد أعلن قبيل سقوط "قندوز" أن المقاتلين الأجانب في "طالبان" المحاصرين في المدينة أمامهم مصير وحيد: فإما الاستسلام أو القتل، وهو ما فسره المقاتلون المحاصرون بأن مصيرهم القتل في سائر الأحوال.
وقال سياسي باكستاني تعليقاً على الدور الصامت لواشنطن في مجازر أسرى الحرب: "العرب والباكستانيون هم هدف للمضايقات والاعتقالات في أميركا، وهم ذاتهم هدف للقتل والإعدامات الجماعية في أفغانستان دون غيرهم, فمن وراء ما يحدث؟".
وكتب جون بيرنز، مراسل "واشنطن بوست" في اسلام أباد، أن مسؤولاً باكستانياً رفيع المستوى قال له بعد ورود تقارير عن إعدام مقاتلي "طالبان" من غير الأفغان بعد إلقائهم السلاح: "يؤسفني أن استخدم مثل هذه الكلمات، لكن اسمح لي أن أقول أن رامسفيلد كان عديم الاحساس".
وعملية مقتل نحو 600 أسير حرب في سجن مزار الشريف، والتي شاركت فيها طائرات أميركية وقوات كوماندوس اميركيون وبريطانيون، هي الواقعة الثانية لقتل اسرى حرب بعد مذبحة مزار الشريف قبل ثلاثة أسابيع عندما أعدمت قوات دوستم الداخلة الى المدينة عقب انسحاب "طالبان" المئات من مقاتلي الحركة، معظمهم من الأجانب, وكان الصليب الأحمر أعلن من جنيف أن موظفيه أحصوا أكثر من 400 جثة لمقاتلين، ذكرت اللجنة أنهم ربما قتلوا بعد سيطرة تحالف الشمال على المدينة, الا أن اللجنة الدولية رفضت الكشف عن هوية القتلى, وكتبت الصحف في باكستان أن معظمهم كانوا عرباً وباكستانيين.
ورغم ورود تقارير عن قتل متطوعين عرب وشيشان وباكستانيين في كابول وقندوز ومزار الشريف، إلا أن من المعتقد على نطاق واسع أن عدد الأحياء منهم أكبر بكثير من أعداد القتلى منهم حتى الآن, وحسب تقارير في إسلام أباد تستند الى مصادر في الجماعات والتنظيمات الدينية، فإن عديد الكتيبتين العربية والباكستانية فحسب التابعة لـ "طالبان" قبل بدء الحرب ناهز العشرة آلاف مقاتل, وتتضارب التقديرات في شأن قوة كل منهما, وهذه الأرقام لا تشمل مئات المتطوعين من الأوزبك والشيشان والتركستانيين (المعروفين بالـ "ويغور" في الصين) والفيليبينيين (المسلمين) والبوسنيين والأتراك.
ولا يزال الاحتمال وارداً بقوة أن عدداً كبيراً من أولئك المقاتلين الأجانب لا يزال محصوراً في جيوب في مدينة "قندوز" وفي مناطق أخرى من الشمال الأفغاني الخاضعة في شكل مطلق لقوات التحالف, أما البقية منهم فحتماً يتحصنون مع مقاتلي "طالبان" الأفغان في مدينة قندهار، التي تحاصرها هي الأخرى الآن القوات الخاصة الأميركية خلف خطوط مقاتلي قبائل الباشتون, ونجح أخيراً عملاء الوحدات الاستخبارية الأميركية في تحريض بعض هذه القبائل على التمرد على "طالبان" بعد أسابيع من العمل الصامت,
وتمثل خطوط الاتصال التي تمهدت حديثاً بين كل من الدول الخليجية وباكستان وبين تحالف الشمال (خصوصاً مع موافقة رباني على زيارة دبي، ومع توجه وفد إليها من إسلام أباد يضم مسؤولين سياسيين وعسكريين كبارا لإجراء محادثات معه) الفرصة الأخيرة - وربما فرصة أخرى - للضغط على قادة التحالف من أجل حقن دماء باقي المقاتلين الأجانب.
ويعلم رباني الآن مدى تفاعل الرأي العام الشعبي في باكستان ودول عربية مع مسألة الرعايا الاسرى أو المحاصرين من مقاتلي "طالبان", لذا، ربما حاول تحالف الشمال الاستفادة من هذا المدخل لعقد صفقة مع دول خليجية تتضمن مساعدات اقتصادية ودعماً سياسياً, يذكر أن الامارات والسعودية لا تعترفان بحكومة رباني التي لا تمثيل ديبلوماسي لها في الدولتين.
ودعت صحيفة "الراية" القطرية، في مقال افتتاحي منشور على صدر الصفحة الأولى لعددها أمس، المواطنين القطريين الذين لهم أقارب تطوعوا في صفوف "طالبان" إلى الاتصال بوزارة الخارجية القطرية وتزويدها ببياناتهم كاملة كي تتحرك الأخيرة نيابة عنهم لضمان سلامتهم.
وكتبت: "هذه دعوة لذويهم وأسرهم بالمسارعة في السعي الى الافراج عن أبنائهم قبل أن يزداد الأمر سوءاً".
وفي باكستان، بدأت سائر الأجهزة والوكالات الأمنية التابعة للحكومات المحلية في أقاليم السند والبنجاب وبلوشستان وإقليم الحدود الشمالية الغربية و"كشمير الحرة" بإعداد اللوائح بأسماء المواطنين الذين توجهوا الى أفغانستان، في مسعى يبدو وكأنه مؤشر الى أن الحكومة الاتحادية برئاسة الجنرال برويز مشرف تعتقد بأن ثمة بصيصاً من الأمل في استعادة المقاتلين الباكستانيين أحياء من أسر التحالف الشمالي,
كما أن السعودية أرسلت بعثة من المسؤولين الى إسلام أباد التي ستبقى هناك لأيام عدة مقبلة، وربما لأسابيع، للتنسيق مع الباكستانيين في شأن انقاذ المواطنين السعوديين المحتجزين في أفغانستان، حسب مصدر مطلعة.
ويعبر الديبلوماسيون من الدول المعنية بأزمة مقاتلي "طالبان" غير العرب في أحاديثهم الخاصة عن ثقة محدودة في التطمينات التي قدمها رباني, فالأمم المتحدة، التي قال رباني أنه مستعد لتسليم الأسرى من مقاتلي "طالبان" غير الأفغان إليها، لا تملك أي حضور موسع داخل أفغانستان لتولي مهمة استلام الأسرى، ناهيك عن أنها لم تعبر أي رغبة بتولي ذلك الدور, كما أن رباني لا يستطيع أخذ أي إجراء في حال أصر قادة تحالف الشمال من فصائل أخرى على تصفية أسرى الحرب, والأهم، أن ثمة ضوءاً أخضر أميركياً أمام أولئك القادة للفتك بمقاتلي "طالبان" من غير الأفغان، وهم المقاتلون الأكثر حماساً عقائدياً وقد يساهمون في إعادة إحياء حركة "طالبان" مستقبلاً في حال ما تركوا لسبيلهم، حسب التفكير الأميركي.
وتزيد من هذه المخاوف الأميركية، التقارير التي تحدثت عن لجوء نحو ثلاثة آلاف من أعضاء "طالبان" من الأفغان والعرب وغيرهم - كأفراد - الى باكستان في الأسبوعين المنصرمين في عملية غير منظمة تحت هوية لاجئين (الرأي العام الكويتية)