&
تستحق المقالة التي كتبها الباحث الالماني فولكر برتس مع ثلاثة نواب المان كل منهم عضو في حزب الماني& اساسي وارسلها الى "قضايا النهار" التي نشرتها امس الاول وامس على حلقتين... تستحق ان تُقرأ على ضوء مدى ما تعكسه من"نضوج" في عدد من المسلمات الدولية في النظر الى اوضاع المنطقة واتجاهات "الحلول" المطروحة، وبالتالي في مدى ما تعكسه من تبلور اولويات تتقاطع (بمعنى انها تتفق) مع الاولويات الاميركية. فالمقالة التي هي عبارة عن ورقة عمل للسياسة الالمانية الخارجية في الشرق الاوسط والخليج يقترحها خبير معروف وثلاثة سياسيين من اتجاهات مختلفة، تحاول ان تدفع السياسة الالمانية نحو دور ديناميكي في سياسة المنطقة، لم يكن لها على غرار الديناميكيتين البريطانية والفرنسية بمعزل عن حدود تأثير الدورين الاخيرين ومدى رئيسيتهما او ثانويتهما وموقعهما، الاول البريطاني المتفاهم كليا مع السياسة الاميركية والثاني الفرنسي المتفاهم استراتيجيا معها ولكن المتباين في عدد من الدوائر، ان لم يكن بالاهداف فبالوسائل. والورقة وان كانت ليست رسمية الا انها تخرج من "معهد" مهم هو "المعهد الالماني للسياسة الخارجية والامن" وتنزع عبر تعدد انتماءات موقعيها الى ان تعبر عما يمكن تسميته "اقتراحات اجماع" على سياسة خارجية.
لسان حال معدي الورقة يبدو وكأنه يقول لماذا نظل سياسيا - (اي المانيا) دولة ظل في السياسة مكتفين بالدولة - التاجر فقط لنحاول ان نعطي لوجودنا في المنطقة تحت مظلة ما يسميه كتاب الورقة "السلطة الوسيطة الرئيسة" اي الولايات المتحدة الاميركية. بهذا المعنى يكشف انعقاد مؤتمر القوى الافغانية بضيافة المانيا عن ان الورقة تعبر عن نزوع عملي الماني للمرحلة المقبلة ولو ان الاقتراحات تنحصر بالشرق الاوسط ومنطقة الخليج ولا تطال افغانستان.
الورقة "تشكو" بشكل ديبلوماسي فرنسا وبريطانيا اللتين تحملهما مسؤولية تعطيل قيام سياسة اوروبية موحدة تجاه العراق. فتقول في جزئها الاول:
"اما في ما يتعلق بالعراق فالوضع مختلف. اذ ان المملكة المتحدة وفرنسا بصفتهما عضوين دائمين في مجلس الامن لم تظهرا حتى الان استعدادا لوضع المسائل المتعلقة بالسياسة الواجب اعتمادها بازاء العراق على جدول الاعمال، ضمن اطار سياسة الاتحاد الاوروبي الخارجية والامنية المشتركة. ويمكن السياسة الالمانية ان تكون مفيدة على هذا المستوى، في المساعدة على تطوير وجهة نظر اوروبية".
طبعا لا تترك الورقة اي مجال للالتباس بموقفها من "رئيسية" الدور الاميركي. انها تعلن، وباسم كل اوروبا (!):
"في المستقبل القريب سوف تكمن مساهمة اوروبا الاساسية في مجال السياسة الامنية "اللينة"... اما في مسائل التعاون الامني العسكري ذات "الوزن الثقيل" او بالضمانات الامنية فسوف يستمر جميع شركاء منطقة الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية في اللجوء في شكل رئيسي الى الولايات المتحدة".
وفي المقطع المعنون: "المانيا وعملية السلام في الشرق الاوسط" تقول الورقة عن العلاقة الاوروبية - الاميركية:
"واقع ان السياسات الاوروبية والاميركية في المنطقة تتكامل في ما& بينها ليس موضع جدل... وسوف تظل الولايات المتحدة السلطة الوسيطة الرئيسة، في حين سوف تركز الاطراف الاوروبية في شكل اساسي على مساهمات، اقل اثارة، لكنها ليست اقل اهمية على المستوى السياسي في عملية السلام وفي استتباب نظام مستقر وسلمي في المنطقة".
في ما تعرض الشخصيات الالمانية الاربع في ورقتها نظرتها او الاهم، النظرة المفترض ان تعمل من خلالها المانيا في الشرق الاوسط والخليج، يلاحظ المراقب ثلاثة امور ملفتة:
الاول - ان الورقة تكشف بعض "الخصوصيات" السياسية الالمانية. "الخصوصيات" غير السرية طبعا ولكن غير المنتبه اليها دائما. فالورقة تقول ان "الدول الاعضاء في الجامعة العربية وايران واسرائيل لا تشكل اكثر من 3 بالمئة من مجموع التجارة الخارجية الالمانية"، اما "الاستثمارات الالمانية فهي حتى يومنا هذا ضئيلة". رقم 3 بالماية ليس بالرقم القليل... فهو بعشرات مليارات الدولارات لبلد هو الشريك التجاري الاول او الثاني لايران (دون ذكر تركيا التي لا تدخلها الورقة في عداد منطقة الشرق الاوسط) كما انه شريك حاضر بحيوية في معظم ان لم يكن كل دول المنطقة. ومع ذلك فكل هذا لا يساوي - بلسان مطلعين المان هم كتاب الورقة - اكثر من 3 بالماية؟
فهل تنفع هذه الاشارة في تنبيهنا مرة اخرى الى المقاييس الفعلية للدولة الغنية او الكبيرة في هذا العصر... قياسا بصورتنا عن "ثروات" دولنا الفقيرة حتى تلك التي نظنها "ثرية"؟!
وبين "الخصوصيات" الالمانية العابرة في الورقة انها في معرض دعوتها الى "ان يتم بشكل مدروس استخدام الروابط والعلاقات الخاصة بين بلدان الاتحاد الاوروبي منفردة ودول الشرق الاوسط وفاعلياتها بهدف دعم... سلام اقليمي شامل"... في هذا السياق "تكشف" الورقة عن "الصدقية التي تتمتع بها السياسة الالمانية في ايران". اما في مكان آخر فتتحدث الورقة عن "... العلاقة الخاصة بين المانيا واسرائيل، التي تصوغها، من جهة، عملية اضطهاد الاوروبيين اليهود وقتلهم، ومن جهة اخرى، وعلى نحو متزايد، قوة العلاقات وعمقها بين المجتمعين الالماني والاسرائيلي".
الثاني - الملاحظة الاساسية حول الورقة ان كل "السياسات" التي تدعو اليها، بشكل رئيسي في مجال الصراع العربي - الاسرائيلي او في الخليج، هي ليست حصيلة تبلور قناعات محض المانية، بل اقرب الى ان تكون تعبيراً عن تبلور قناعات على المستوى الدولي، هي اذن حصيلة لمسار اسفرت عنه التجربة التاريخية نفسها في المنطقة وبات يجد صداه لدى الولايات المتحدة الاميركية واوروبا... فالميل نحو تفهم اكبر لوجهة النظر الفلسطينية، هو عنوان هذا الانعطاف التاريخي ولو البطيء الذي تنضم اليه المانيا فعلاً، وليست هي التي تبادر اليه كما يمكن ان توحي الورقة. مع كل التقدير للصياغات الدقيقة الواردة فيها.
افكار "ناضجة" دولياً مثل:
"المصلحة الالمانية في حصول تسوية سلمية للنزاع العربي - الاسرائيلي تتغذى مما يتجاوز الاهتمامات الانسانية المحضة...".
"دولة فلسطينية قابلة للاستمرار تمثل افضل ضمانة امنية لاسرائيل".
"يمكن الاوروبيين، مثلاً، ان يوضحوا ان سلاماً دائماً يجب ان يسمح للفلسطينيين بجعل الحي العربي من القدس (اي القدس الشرقية) عاصمة لهم".
"ويمكنهم ان يوضحوا ان الدولتين الاسرائيلية والفلسطينية سوف تكونان شريكين متساويين وفق القانون الدولي، اذ لا يمكن ان يعني السلام ان تؤدي احدى الدولتين دور الحارس على الاخرى".
"ويجب عليهم كذلك ان يوضحوا على نحو لا يقبل الشك انه لا يمكن ترسيخ سلام شامل بين اسرائيل وجيرانها من دون تسوية مسألة اللاجئين. ويعني ذلك الاعتراف، كمبدأ، بحق اللاجئين والمرحّلين الفلسطينيين في العودة. وفي الوقت نفسه، ان التطبيق الملموس لهذا الحق... يجب ان يكون مقبولاً كذلك من اسرائيل".
"سوف يظل امن اسرائيل في مركز الاولوية بالنسبة الى سياسة المانيا الخارجية... لكن هذا لا يعني ان تتبنى المانيا التحديدات والمفاهيم الامنية الاسرائيلية وان تقبل بها بلا اي انتقاد طالما ان بعض الاوساط السياسية في اسرائيل تسعى الى ضمان امن الدولة على حساب امن جيرانها، أو حقهم في تقرير مصيرهم".
الثالث - اشك ان تكون الخطوط الرئيسية للبعد الامني في السياسة الخارجية التي تقترحها الورقة قد وضعت بعد 11 ايلول. اذ ان عدداً من الصياغات كانت، على الارجح، ستأتي مختلفة لو صيغ هذا الجزء بعد 11 ايلول. فالورقة تحبذ ما تسميه "افكاراً ومشاريع لسياسة تأشيرات ليبرالية بإزاء البلدان الشريكة"... سيوافق القارئ بسهولة انه من الصعب، على الاقل، صدور تعبير كهذا "سياسة تأشيرات ليبرالية" بعد 11 ايلول عن المانيا او اي بلد اوروبي. وتعود الورقة الى مواقف ناضجة دولياً من نوع القول بأنه "ليس ثمة سبب يبرر قبول الاتحاد الاوروبي موقف الانظمة التسلطية التي ترفض احتمال اي مناقشة لسياساتها وممارساتها الحكومية في مجال حقوق الانسان..." الا انها تورد "اقتراحاً" في اطار "سياسة التأشيرات الليبرالية" من الصعب ان يكون مقدمو الورقة، او الحكومة الالمانية متمسكين به الآن "حرفياً" على الاقل! حين تقول "ليس ثمة ما يبرر تخلي اوروبا بسبب علاقاتها مع دول المتوسط الجنوبية الشريكة، عن منح اللجوء السياسي الذي يؤمن كذلك الحماية للمنشقين الاسلاميين المضطهدين"؟!
لا يحضر لبنان في الورقة الا ضمن "الدول العربية" او في اشارة عابرة بين الدول التي يمكن "ان يخدم جنود المان" في وحدات حفظ السلام على الحدود مع اسرائيل. اما سوريا فتحضر حيناً في سياق النزاع مع اسرائيل، وآخر حين تقول الورقة فجأة "تحتاج سوريا ودول عربية اخرى الى مساعدات بهدف الاستعداد لمواجهة التحديات الناتجة من توزيع جديد لليد العاملة في المنطقة".
***
ان هذه الورقة تستمد دلالتها الاساسية، لا من "خصوصياتها" الالمانية القليلة، ولكن من ما يمكن تسميته اعادة ترتيب المانية لاجماعات قائمة او محتملة او ناضجة في السياسة الغربية، الاميركية، الاوروبية.
انها الورقة التي تجد متسعاً من الاسطر لقول "جوهري" ولو كان يحتاج الى توضيح عملي:
"يجب ان توضح المانيا انها تعترف بالطابع العربي الغالب على منطقة الشرق الاوسط، وان علاقاتها مع العالم العربي ليست متوقفة على نجاح عملية السلام". (النهار اللبنانية)