"لقد أثبتت تجارب التاريخ ان صنع السلام أصعب بكثير من صنع الحرب". بهذه العبارة علّق الممثل الخاص للامم المتحدة الاخضر الابرهيمي على المناقشات الحادة التي كشفت في مؤتمر الحوار الافغاني عن عمق الخلافات القائمة بين ممثلي المجموعات الاربع. وحاول من خلال رسالة التكليف التي وجهها اليه الامين العام كوفي أنان تنبيه الحاضرين الى اهمية دوره في صوغ مبادرة التفاهم والتقارب. الا ان اصوات المندوبين طغت على صوته الرقيق الهادئ. واضطر الابرهيمي لأن يذكّرهم اكثر من مرة بأن الامين العام منحه صلاحيات كاملة للاضطلاع بالمهمات السياسية والانسانية، وانه مضطر للتسلّح بالصبر الطويل في سبيل ايجاد تسوية لأزمة استمرت اكثر من 23 سنة.
وكان من الطبيعي ان يطرح اثناء عرض تصوره لانقاذ الوضع المتردي، قرار الامم المتحدة المستند الى مبدأ تأليف حكومة انتقالية ذات قاعدة عريضة تمثل كل فئات الشعب وتكسب ثقة الدول المجاورة. ولكن جلسات اليومين الاولين اقتصرت على اظهار حجم تباين المواقف بين ممثلي تحالف الشمال ومجموعة روما القريبة من الملك السابق ظاهر شاه وفريق قبرص الممثل لقبائل الهزارة ومجموعة بيشاور التي تمثل قبائل البشتون المقيمة في افغانستان. وانحصر النقاش في طرح وجهات النظر بحيث تحول مؤتمر الحوار في قصر بيترسبيرغ ندوة يتبارى فيها الخطباء على تحديد مواصفات الحكومة المطلوبة.
المؤكد ان جماعة تحالف الشمال اقترحت عقد المؤتمر في كابول لكي تضمن التأثير في الحلول السياسية باعتبار ان العاصمة تخضع لسيطرتها العسكرية. ويظهر ان هذا العرض قوبل بالرفض التام من جانب المجموعات الاخرى التي شعرت بأن موقع المؤتمر قد يؤثر على صلابة المواقف. وارتأى الابرهيمي ان تتولى دولة الامارات استضافة المندوبين بسبب اطمئنان الجميع بمن فيهم برهان الدين رباني وزعماء البشتون الى السياسة المحايدة التي وقفتها هذه الدولة الخليجية. وربما اراد المبعوث العربي وضع المؤتمرين ضمن اجواء اقليمية تساعده على تخطي العقبات بواسطة اطراف محلية نافذة. ولقد سقط هذا الاقتراح بعد تحفّظ ايران واعتراض زعماء المقاتلين الذين يحمّلون اسامة بن لادن والافغان - العرب مسؤولية الدمار والمجازر التي حلّت ببلادهم.
عندئذ تلقت الامم المتحدة دعوات عدة من قازاخستان والنمسا وسويسرا وفي نهاية المطاف اتفقت الاطراف المحلية والدولية على عقد المؤتمر في المانيا. ومع ان ادارة الرئيس جورج بوش وصفت المانيا في مرحلة سابقة، بأنها وكر للارهابيين بزعامة الطالب محمد عطا، الا انها تراجعت عن انتقاداتها وطلبت من المستشار غيرهارد شرودر الانخراط في التحالف الدولي.
ووجدت الحكومة الاشتراكية صعوبة بالغة في اقناع مجلس النواب بضرورة الموافقة على القيام بمهمة عسكرية هي الاولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واعلان المانيا الغربية دولة مجردة من السلاح. وربما استفاد شرودر من الفرصة التاريخية لكي يلغي الحظر المفروض على بلاده منذ اكثر من نصف قرن. كذلك استفادت الادارة الاميركية من مشاركة المانيا التي ستتولى تقديم مساعدات مالية واقتصادية تتعلق بمشاريع اعادة اعمار افغانستان. ومثل هذه المهمة اعطاها جورج بوش الى اليابان التي شاركت في عمليات لوجيستية، علماً بأنها تخضع هي الاخرى لحظر شبيه بالحظر المفروض على المانيا.
يقول المراقبون ان اشتراك المانيا في التحالف الدولي خضع لدوافع سياسية واقتصادية بعيدة المدى تتعلق باحياء مشروع قديم طرحته برلين مطلع القرن الماضي. اي عندما كانت الدول الاوروبية تتزاحم على تقاسم إرث الامبراطورية العثمانية، "رجل اوروبا المريض".
ففي عام 1902 اعطى السلطان عبد الحميد موافقته على تنفيذ مشروع خط بغداد للسكة الحديد الذي تقدم به "دوتش بنك". وكانت تلك الخطوة مصدر ازعاج للبريطانيين الذين وقّعوا معاهدة مع الكويت عام 1899 بهدف تدعيم مركزهم في الخليج. وادركت لندن ان الاندفاع الالماني يحاول انتزاع امتيازات نفطية متستراً وراء مشروع سكة حديد بغداد. وفي 1904 كلّف السلطان الشركة الاناضولية لخطوط الحديد (يملكها دوتش بنك) بالتنقيب عن النفط في ولاية الموصل.
وكان من نتيجة ذلك ان مارست لندن ضغوطاً سياسية واقتصادية أجبرت الاستانة على التراجع بسبب ديونها المتراكمة لبريطانيا. ويعترف المؤرخون بأن سياسة لندن تميزت في حينه بالقلق حيال المانيا طوال الاربع عشرة سنة الاولى من القرن العشرين. وفي ربيع 1914 اعلنت موافقتها على بناء المشروع الالماني الذي تم تنفيذه حتى الموصل. وحدث في ذلك الوقت ان اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى بين بريطانيا والمانيا. ومع انهيار الامبراطورية العثمانية وخسارة المانيا الحرب وانكماش روسيا بعد الثورة البلشفية، خلا الجو لبريطانيا فاستأثرت بمنطقة الشرق الاوسط، واعطت فرنسا حصة زهيدة من نفط العراق.
المحاولة الثانية التي قامت بها المانيا للوصول الى ايران وافغانستان والعراق والخليج العربي، كانت في الثلاثينات. ولقد حرص الملك الافغاني الشاب محمد ظاهر شاه على القيام بزيارات رسمية لبرلين فور توليه الحكم عام .1933 واعتُبرت تلك الزيارة المؤشر السياسي الذي اراد العاهل الجديد من خلاله اظهار توجهاته لتحييد بلاده عن معارك صراع النفوذ. اي المعارك التي ارهقت افغانستان طوال القرن التاسع عشر بسبب تنافس بريطانيا وروسيا على كسب العازل الجغرافي الحيوي القائم في الوسط بين شبه القارة الهندية وآسيا الوسطى. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية حاول ظاهر شاه الاقتداء بسياسة ايران في عهد الشاه رضا بهلوي. ولكن اجتياح الجيوش النازية الحدود الروسية بدّل مسار الحرب ووضع الشاه رضا بهلوي في مواجهة مع الروس والحلفاء.
وحدث في تموز 1941 ان طلبت موسكو ولندن من ايران طرد جميع الالمان باعتبار انهم جواسيس لهتلر. خصوصاً ان الجاسوس النازي الخطير ماير نجح في اثارة قبائل ايران ضد الحلفاء في وقت اوشكت الجيوش الالمانية على الوصول الى القوقاز. وعندما رفض الانصياع لهذا الامر، اجتاحت قوات الحلفاء ايران وارغمت الشاه على التنازل عن العرش لمصلحة ولده محمد رضا بهلوي.
ومع تبدّل النظام في ايران وافغانستان لم تخف الدولتان رغبتهما في اقامة علاقات وطيدة مع المانيا، نظراً الى الاختبارات القاسية التي لقيتاها من جانب بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة. في المقابل فان الحكومة الالمانية التي تعرف جيداً غاية اميركا من زجّها في صفوف دول التحالف، لا تمانع في تقديم مساعدات سخية اذا كان هذا الطريق سيوصلها الى افغانستان والعراق وايران ودول آسيا الوسطى. ولقد دشّن وزير الخارجية يوشكا فيشر هذه الطموحات الاقتصادية بالسير على خطى نظيره كولن باول، عندما قام بجولة سياسية واسعة شملت باكستان وطاجيسكتان وايران والسعودية والضفة الغربية واسرائيل. ثم تبعه في جولة مكملة المستشار غيرهارد شرودر الذي زار الصين والهند وباكستان ليقدم موقف بلاده، ويؤكد ان العمل العسكري للرد على اعتداءات 11 ايلول ليس كافياً اذا لم يدعمه الرد السياسي السليم. وفي ضوء هذا التصور افتتح الوزير فيشر مؤتمر الحوار في قصر بيترسبيرغ، مشدداً على ضرورة تحقيق خطوات ايجابية تؤدي الى تحقيق سلام مستقر في افغانستان. ودعا في كلمته ممثلي المجموعات الاربع الى الافادة من الفرصة التاريخية، مؤكداً استعداد المجتمع الدولي للمساهمة في اقامة حكومة انتقالية نابعة من عملية الوفاق ومبدأ الحفاظ على حقوق الانسان، وخصوصاً حق المرأة وكرامتها.
وزير الداخلية في حكومة التحالف يونس قانوني كان نجم الاجتماعات، ولولب اللقاءات الجانبية التي ساعدت على تخطي العوائق وتدارك العثرات. ولكنه ظل محتفظاً بموقفه الرافض لوجود قوات اجنبية لان القتال في رأيه قد انتهى، ولان الشعب الافغاني ذاق الامرّين من تدخل الاغراب في شؤونه الداخلية. وكان من الطبيعي ان يؤيده الابرهيمي في هذا الطرح بسبب خبرته السابقة في طبائع الافغان، والطريقة السلبية التي يتعاملون بها مع القوى الخارجية. علماً بأنه سبق وان قدم الى مجلس الامن سلسلة اقتراحات ابرزها انشاء قوة امنية دولية قادرة على ضمان الامن في المدن الرئيسية والحفاظ على الساحة السياسية التي تؤمن استمرار المفاوضات.
وتذكر وساطته في لبنان عندما قال بأنه من الخطأ ارسال قوة تابعة للامم المتحدة الى افغانستان قبل الاتفاق على وقف النار او على التسوية السياسية. ويبدو ان هذه العقبة قد ذُلّلت بدليل ان الممثلين ابدوا بعض المرونة للقبول بها في حال استدعت الظروف الطارئة اتخاذ مثل هذه الخطوة الامنية. ويقول المراسلون في مزار الشريف ان مجزرة قلعة "جانغي" ربما ساعدت على تغيير مناخ المفاوضات لانها كشفت عن عمق الاحقاد وروح العداء، الامر الذي يفرض ضبط الامن بعناصر خارجية. وتدّعي صحف عديدة ان الاستخبارات الاميركية افتعلت هذه المجزرة لكي تتخلص من الاسرى العرب، وتخلق الاجواء الملائمة لارسال قوة متعددة الجنسية قادرة على توفير الامن ومراقبة عملية اعادة الاعمار المقدّرة بعشرة مليارات دولار.
ومن هنا يرى المحللون ان مؤتمر بون ليس اكثر من مقدمة ضرورية للاتفاق على بعض الخطوط الرئيسية في عملية الحلول المعقّدة. وربما كان الاتجاه لقبول مشاركة الملك السابق ظاهر شاه، هو الانجاز الاهم، اضافة الى صيغة انشاء مجلس موقت تشريعي يتولى ملء الفراغ السياسي كبديل من "طالبان". ويُستفاد من المعلومات الصادرة عن تحالف الشمال ان برهان الدين رباني - رئيس دولة افغانستان الاسلامية - ابدى بعض المرونة في قبول اشتراك الملك السابق في الحكومة، وانما ليس كملك او كرئيس للحكومة. ومثل هذا الطرح يقرّبه (وهو الطاجيكي) من موقف الهزاري كريم خليلي ممثل الاتجاه الايراني وسط امراء الحرب. وكل ما تخشاه ايران من عودة الملك ظاهر شاه هو الاعداد لمرحلة انتقالية تمهد لعودة الملكية ولو من طريق نجله الامير مرواس ظاهر (44 سنة).
ويبدو ان بريطانيا تؤيد هذه الفكرة لان الامير مرواس درس في مدرسة "هارو"، وامضى فترة طويلة في لندن. وهو بالتأكيد سيعمل على احياء انجازات والده في الدعوة لانشاء ملكية دستورية برلمانية، في حين يسعى رباني الى المحافظة على نظام الجمهورية البرلمانية الاسلامية.
&
***
يبقى السؤال المتعلق بنتائج مؤتمر الحوار، وما اذا كان النجاح سيؤسس لمؤتمر ثانٍ وثالث، كما حدث مع امراء الحرب في لبنان الذين انتقلوا من جنيف... الى لوزان... الى الطائف؟
الحكومة البريطانية متشائمة من عقد المؤتمر في القاعة نفسها التي شهدت اللقاء الفاشل بين نيفيل تشمبرلن وادولف هتلر. وهي تتوقع مزيداً من الخلافات بسبب تباعد وجهات النظر. ولكن الحكومة الالمانية لا تشاطرها هذه النظرة التشاؤمية، لان المستشار كونراد اديناور ابرم اتفاق السلام مع القوى المحتلة، ونجح في احلال الاستقرار محل الفوضى والخراب والدمار. وهذا ما يأمله المستشار شرودر الذي قال إن المشاركة في الحرب هي اعتراف بأن الالمان قد تخلصوا من عقدة الذنب. (النهار اللبنانية)
&