&
كان شاعرا عظيما. كتب قصيدة عظيمة. قصيدة بسيطة كان يقول بأنها لا تنطوي على صعوبة عظمى "شريطة أن نقرأها"
&
من مواليد 1885 في مدينة هايلي بولاية ايداهو. لفت الأنظار اليه كطالب موهوب. في 1901 قرر ان يكون شاعرا. في سنة 1905 التقى الجميلة هيلدا دوليتل فأحبها وكتب خمسا وعشرين قصيدة شغفا بتلك التي سماها "خطيبته". شاعر كبير ضمن استمرارية جاؤوا بعده تقريبا. شاعر خالد، حافظ على فطريته البدوية تجاه الموجودات والافعال، وظل يعيش ويكتب ويتواصل كما لو بقناع يحجب عنه كثيرا من حقائق
باوند في واشنطن في كانون الاول 1945 (AP)
وخلفيات الاشياء. ومن ثم ارتكب خطأ حياته الكبير: تعلقه بموسوليني والفاشية. وعندما سقطت الفاشية، عاد به الجنود الاميركيون على ظهر باخرة، وفي قفص حديدي ضيق (بطول 3 أمتار وعرض مترين ونصف).
كان رياضيا جيدا. مهر في كرة المضرب، وظل مسايفا رديئا عندما جرب نفسه في لعبة المسايفة. لكن ذلك نفعه - ربما- عندما كان في قفص الحديد، حيث يقوم بحركات تسخينية يومية لكي لا يصاب بشلل الأطراف. وذلك في مشهد مؤسف لشاعر منكسر يثير ضحك جنود منتصرين.

في نيويورك في العام 1939 (AP)
بدأ عزرا باوند كتابة الشعر في وسط عائلي مصاب بالشعر، شغفا وكتابة. اتقن كيف يدخن خفية في الاكاديمية العسكرية، واستضاف أول شابة في مرقده بداخلها... ولليلة واحدة فقط، فانفجرت فضيحة من جراء ذلك لم تنته الا باختياره المنفى الى اوروبا، حيث كانت مدينة (فينيسا) بايطاليا محطته الاولى. المدينة التي شدته اليها لفترة هامة من حياته قبل ان يصيبه يأس شعري ويبدأ برمي كومة قصائده الى الماء.
&لكنه هناك تمكن من ان ينشر مجموعة من قصائده في ديوان سمّاه "الى لهيب متلاش".
محطته الثانية كانت لندن التي ظل فيها الى سنة 1920. وهناك نشر مجموعة من دواوينه: شخصيات -أفراح (1909)، بروفنسا (1910)، أغان (1911)، غارات (1912)، لوسترا (1913)، كاثاي (1915).. و"هيلوسلوين موبرلي" الاكثر التصاقا بتفاصيل حياته اللندنية.
في "غارات" دشن باوند مرحلة جديدة في شعره: المرحلة التصويرية Imagisme. ثمة تخلت الكتابة الشعرية لديه عن طابعها "المسرحي". تخففت القصيدة من أعباءئ التقديم والختم. كما تحررت من ثقل عبارات التعجب والاغراض والحض. غدت قصيدته أكثر ميلا الى البرود، واصبحت مهيأة لاستيعاب " المادة المعاصرة".
لقد كان لقاء باوند مع& ت.إ. هالم (Halme)، فيلسوف وناقد فني، في نيسان (ابريل) 1909 حدثا هاما ومؤثرا بالنسبة للحركة التصويرية، فبوصفه مطلعا عميقا وجديا على الحركات الفنية في مجال التصوير والنحت، أعلن هالم عن ميلاد فن "هندسي" قوي، متقشف، عار من الزخرفة ومتأهب لتغيير جذري في التعبير الشعري.
هكذا بدأ باوند يشتغل نظريا لتشييد معرفة شعرية أساسها الصورة بما هي "تمثلٌ لمحتوى يكون في نفس الآن ذهنيا ووجدانيا وفي شكل ومضة". وفي نفس السياق، ظهرت المقالة الشهيرة (بمجلة "شعر" اذار /مارس 1913) التي أبرز فيها المبادئ الثلاثة للتصويرية التي ينبغي معرفتها:
1- التقديم المباشر للموضوع، سواء كان شيئا ذاتيا أو موضوعيا.
2- في كل الاحوال، ينبغي عدم استعمال الكلمات التي ليست لها اية مساهمة في هذا التقديم.
3- فيما يخص الايقاع. ينبغي ان نركب النص تبعا للبعد الميلودي للجملة وليس للضبط العروضي الجاهز.
وبالرغم من الجهد التثويري الذي بذلته الحركة التصويرية في الجسد الشعري النغلوساكسوني، فان باوند لم يكن يقفز على مكتسبات التراث. ونذكر هنا معادلته الشهيرة: "ان التراث هو الجمال الذي نصونه وليس السلاسل التي تكبلنا".& من ثم التفت باوند الى المنجز الشعري لشعراء كبار: أوفيد، كاتيل، أرنو دانييل، دانتي، فيون.. معتبرا ان التراث لا يمكنه ان يظل حيا بدون قدرته الذاتية على التفاعل مع مجمل التبدلات والتحولات اللاحقة التي يطرحها الشاعر- الوسيط الذي له مهمة مزدوجة: أن يحفظ الارث التي تلقاه وان يدمج فيه جهده الابداعي الخلاق. ولن يتأتى ذلك، في نظره، بدون معرفة واعادة اكتشاف معرفي.
ان عزرا باوند لم يخف تقديره لشيخه والت ويتمان:"لكي أكون صريحا، ان ويتمان بالنسبة لوطني هو ما يشكله دانتي بالنسبة لايطاليا". وبموازاة هذا التعلق بصاحب "أوراق العشب" أحب باوند الشاعر الكبير وليم بتلر ييتس الذي تعلق به وسعى الى معرفته قبل ان يصبح سكرتيره الخاص سنة 1913. وقد بدأ يقترح على ييتس جملة مقترحات بما فيها تعديلات لبعض قصائده، غالبا ما كانت تؤخذ بعين الاعتبار في ظل تميز الشعراء الكبار، عادة، بفضيلة التواضع.
استفاد باوند ايضا من أوفيد على مستوى معمارية الأناشيد، وبالخصوص ما يتعلق بتحديد الصورة الشعرية دون حاجة الى الكليشيهات الجاهزة للترسانة البلاغية القديمة (الرمز، المجاز، التسعارة..) وانما بالاعتماد على "حركة الصورة وحيويتها وكثافتها وسيرورتها". وهو ما يذكر بفضاء الكتابة الشعرية الصينية - اليابانية القديمة، حيث "التمثل المباشر" الذي يبدو"كما لو كان يختزل عمليات الطبيعة. وذلك بالمعنى الذي لا نشعر معه "باننا نتلاعب مع نظرات ذهنية، بتعبير فينو لوزا، بل نشعر على العكس باننا مشاهدون واننا ننظر الى الاشياء وهي تميز مصيرها الخاص بها".
لقد بنى باوند نصا شعريا لا يفسر الاشياء، بل يقدم "شاشة& ذهنية" حيث لا حاجة لأية ثرثرة زائدة، ولا حتى لأية ثقافة جاهزة" معرفة النص هي ما يتبلور ويتطور ويتقدم عبر تقدم الكتابة، وفي نفس الوقت هو ما يدهش ويستشير تلقائيا. بمعنى آخر، ان باوند نبذ كل الخدع والمهارات المتحذلقة لاثارة الدهشة، وبنى على العكس استراتيجيته الشعرية- كما تؤكد لوريت فيزا في كتابها عنه على "قانون مقدس واحد يتلخص في عبارة Make it New (اصنع الجديد)".
وهنا، ينبغي ألا يمر ذكر والت ويتمان عابرا. فوحده كان ويتمان سيد المرحلة الشعرية بالنسغ الحي الذي لقح به التعبير الشعري الاميركي، اذ شكل أوراق العشب" (ديوانه الشعري العظيم المنشور سنة 1855) انعطافة حية وحاسمة على صعيد الظاهرة الشعرية. ومن ثم لعب ويتمان كشاعر مجدد دورا حيويا في تشكيل روحية الكتابة لدى عزرا باوند. ما دفع هذا الاخير ليؤكد "أنا في الواقع والت ويتمان تعلم ان يرتدي طوقا ولباسا. وربما كنت سعيدا جدا، من جهتي شخصيا، بأن أخفي الروابط التي تشدني الى والدي الروحي فيما امتدح نفسي على أجداد أكثر ملاءمة لذوقي: دانتي، شكسبير، تيوقريط، فيون. إلا ان النسب سيكون من الصعب اثباته..".
كان باوند يرفض ان يقود شعره في أية أفخاخ استعارية أو في أي خط مرسوم، نقدي او بلاغي. فالنص بالنسبة اليه مغامرة، محاولة مفتوحة، متاهة بحث لا نهائي، فضول حر يشيد نفسه في عفوية ضاحكة. ومن ثم آمن بأن "تاريخ كائن ما لا يعبر عن المكان المقفل الخاص بحياته الخطية، بل عن ارادة تشرده". وقد حاول ان يكبت هذا التشرد كما هو، كما عاشه، كما اختاره وكما فرض عليه. ومن ثم انزعاجه من كل بلاغة زائفة، والحال ان الواقع منتج والطبيعة في حد ذاتها خلاقة.
هكذا رفض باوند ان يخضع الشاعر في علاقته بالعالم والاشياء للمعايير والاندفاعات الرؤيوية، لتلك "التوافقات الغامضة" بين الفرد والكون، بل ولكل اشكال الحلولية و"الطاوية" والتأمل الصوفي والانخطاف والوحدة المطلقة. فلقد استشعر نوعا من فقر الدم الميتافيزيقي في كل هذا المنحى الصوفي - الرؤيوي. ذلك لأن استراتيجيته الشعرية لم تكن لتقتنع بمداعبة ما ليس مرئيا او بمحاذاة ما هو أبدي. وعلى العكس فقد كان متعلقا بما هو "خاص" وشخصي ومرئي وملموس. كان يثير سخريته كل شاعر يخضع رؤيته او شعره لنظرة غيبية شيدها دراويش فقراء، طفيليون، مهادنون للواقع الذي عاشوه.
باوند في رابالو- ايطاليا عام 1963

سيبدو من المثير ان شاعرا بكل هذه الرؤية الشعرية والجمالية العميقة يسقط في مسار اختياراته الفكرية والايديولوجية وينتمي الى الافق المسدود للفاشية الايطالية.
لقد كانت التجربة الاميركية، كما عاشها اقتصاديا واجتماعيا وفكريا خلال الثلاثينات، مثار سخط بالنسبة لعزرا باوند. وكانت الاستنتاجات الكثيرة التي استخلصها باوند حول هذه التجربة صحيحة ولها ما يؤكدها، لكن علاجاته ومقترحاته ازاءها كانت تتم كما لو "داحل وعاء مقفل". ومن ثم جاء امتداحه لايطاليا موسوليني، واشتغاله في اذاعة روما الفاشية. لكن ربما ظل السبب الكامن وراء هذا الاندفاع بعديا عن مجرد رد فعل.
علينا ألا ننسى ان الفاشية التي كانت تمجد "المصائر الروحية البطولية والغامضة لأمة والفرد، وقدمت نظاما وسلطة - كوسيلتين للوصول الى ذلك- في عالم فوضوي، قد اجتذبت الاشخاص مرهفي الخيال والمتوحدين والمعتزين بأنفسهم، المتمردين على ما كان يبدو لهم انه وراء فقدان فرديتهم (..). ولما كان هؤلاء الرجال يسعون وراء نظام لم يكونوا يجدونه في ذاتهم ولا في العالم.. فقد خلطوا بين الصورة والواقع وقبلوا نظاما يعبئ في الظاهر الانفعال والخيال دون ان يروا بوضوح أيى غاية مضرة يتجه هذا النظام" (كيمون فريار، 1952).
أولئك.. كان عزرا باوند أحدهم بأمتياز.

لكنه كان شاعرا عظيما رغم كل شيء. كتب قصيدة عظيمة. قصيدة بسيطة كان يقول بأنها لا تنطوي على صعوبة عظمى "شريطة أن نقرأها".
&
حسن نجمي، شاعر ورئيس اتحاد كتاب المغرب