"كلنا مسؤولون!"
هذه الصرخة التي اطلقها الرئيس العماد اميل لحود، نحب أن نصدّق انه يدرك مداها الذي يتجاوز فضيحة الكهرباء... يتجاوزها الى ابعاد دستورية لا تزال (حتّام؟... يا ترى، حتام؟) تميّز لبنان عن محيطه العربي التعيس!
-1-
بعض تعاسة العالم العربي - ولا نستثني أحداً - تعود الى "شخصنة" الحكم في دوله... فكل حاكم بطل، الى حد "الصنمية"... والبطل لا يخطئ، فكيف يكون اذاً "مسؤولاً"؟... ومَن يا ترى يمكن ان يكون في منزلة سياسية و"شرعية" تخوّله المساءلة؟... والمساءلة معناها المحاسبة، والمحاسبة معناها على الاقل القدرة على تغيير حكم فاشل او تنحية حاكم مخطئ بصورة سلمية طبيعية، دونما حاجة الى ثورة ولا انقلاب، ولا... قضاء من الله، يستعجل غياب المسؤول، فيصحّ التداول اذذاك - بعد طلب الرحمة والغفران - باخطائه والخطايا حلالاً!...
هذا، قلنا، "بعض" تعاسة العالم العربي، ونحن منه وفيه، ولو كنا لا نزال نتميّز. الا اننا لن نظل نتميّز طويلاً لأن الوجه الآخر للتعاسة الذي تصيبنا& عدواه هو تطبيل الحاشية للحاكم، والتعظيم والتكبير، على وقع الزمر والانشاد، كأن كل حاكم يجب ان يكون "كيم إيل - سونغ" يعظم امره مثلاً، بتعاظم صوره على الجدران... فيصير اذذاك كل شيء يصنعه عظيماً، فيُنسب كل نجاح اليه حتى لو كان عنه غريباً، ولا يُنسب اليه فشل ولا تقصير، بل التقصير والفشل (حتى في تنفيذ وعود "خطاب قسمٍ" ما) سببه الآخرون... والآخرون هؤلاء هم كل الناس، من الشركاء في الحكم، والادوات والاشباح، وصولاً الى الشعب بكامله، نعم، بكامله... فكيف اذاً بمن ارتكب خطيئة المعارضة والنقد، او الدعوة الى النقد العقلاني... كلهم، اذذاك، في نظر الحاشية (نيابة عن الحاكم) متآمرون!!!
* * *
نعود، ولو لحظة، الى الكهرباء قبل ان نبحث في الأهم.
"كلنا مسؤولون"، يا فخامة الرئيس؟
نعم كلنا، وبدرجات متفاوتة طبعاً... إلاّك أنت!
فمقامك الدستوري فوق المسؤولية، اذا ما تقيّدنا كلنا، وتقيّدت أنت بالدستور... ويجب ان يظل مقامك فوق الشبهات، ولا حاجة بك الى مطبّل ولا الى مزمِّر. وحذار، حذار شخصنة الحكم. اذذاك تتراكم المسؤوليات ولو زوراً، وراء جدران الصمت المكبوت... الصمت المكبوت، الى ان ينفجر.
مسؤوليتك، على العكس، هي في السهر على المحاسبة. وما أروع ان تكون قد ذهبت لزيارة مقام قديس، حتى تخلد الى نفسك حيث لا بطانة ولا اشباح بل صوت الضمير الحي... فلماذا الحقوا بك الاعلام بطبله وزمره، وانت منه تشكو؟
ثم ماذا تنتظر لتحريك اجهزة المحاسبة ورفع حمايتك الدستورية عن المسؤولين عن الفضيحة المتمادية كالجرم المتمادي؟
واجهزة المحاسبة قمتها مجلس النواب. فلا يوحيَّن لك أحد من متعهدي شخصنة الحكم ان انطلاق معارضة في وجه وزير، بل وزراء ورؤساء وزراء (ورؤساء نوابٍ خصوصاً يصرّون على المشاركة في أبّهة الحكم ومغانمه، ثم يتحصّنون بلا-مسؤولية سلطتهم...) تصيبك انت شظاياها !... لا كلا.
الشعب، يا فخامة الرئيس، يريد ان يعرف الحقيقة، والحقيقة مسرحها الدستوري هو مجلس النواب. فلا يقولنَّ أحد لسائل او مسائل، ولو عارَض، انه "ضد النظام" ومتآمر على الشرعية، لمجرد انه طالب بالمساءلة!
* * *
ثم ان اجهزة المحاسبة هي تلك التي تتحدث عنها - اوهكذا تصرّح "المصادر" باسمك - ولم نسمع انها دانت مرة موظفاً، لا صغيراً، ولا كبيراً:
فأين "ديوان المحاسبة"؟
وأين التفتيش "المركزي"؟
ومجلس الخدمة المدنية الذي تُحال عليه الملفات ويوضع الموظفون في تصرفه، فتتكلس قبور البيرقراطية أوراقاً فوق اوراق، وكلها لا تبرّئ أحداً ولا تدين ... ولا "تستخدم" خصوصاً انساناً في مكان بدل مكان !
والمحاكم؟ لماذا طوي ملف النفط - كسائر الملفات - ولم يسجن سوى مدير عامٍ واحد كأنه اختصر في شخصه كل الفساد الذي نتحدث عنه من سنوات؟... واذا بفضائح محروقات الكهرباء تغرق في المرافئ والبحار... في حين كنت قد جئت الى الحكم يا فخامة الرئيس رافعاً سيف النقمة على الفساد اياه، فاذا كان السيف قد التوى، فهل كانت ثمة فوق الايدي يد وحدها قادرة على "لويه"؟؟؟
لا نريد الاسترسال في الحديث وكأننا نستعديك على زيدٍ من الناس او عمرو... كلهم أبرياء - في نظر القانون - الى ان تثبت مسؤوليتهم. ولكن، لا بد انه كان ثمة من كان مسؤولاً حيث تراكمت الفضائح، فمن تراه يكون؟
وعن الجرائم كذلك، ترتكب ولا من يحققون ولا من يلاحقون... من اغتيال القضاة الى "متفجرات" الكنائس والجوامع... فمن المسؤول، كلّنا؟ مَن "كلّنا"؟
-2-
معليش؟... "أوكي"! فلنتحدث اذاً عن وضعنا العربي التعيس، وقد ادت تصرفاتنا العربيات غير المسؤولة ولا الخاضعة لمساءلةٍ الى جعلنا كلنا، امراء ورؤساء، دولاً ومجتمعات، تحت رحمة دولٍ أجنبية نصّب بعضها نفسه ديّاناً علينا ورقيباً لأننا نحن أسلسنا له القياد.
ولنأخذ المثل الأبسط: العراق.
لماذا نتقبّل بصمت التهويل اليومي من خارج بضرورة معاقبة العراق وازالة رئيسه، في حين لم يحاسب احد منا صدّاما، وهو لا يزال في نظر ما يسمحون بنشره ويروّجون البطل المنتصر، ولو انهزم وجرّ على عراقه وعراقنا جميعاً الدمار والويلات؟
اذا كان هو بطلاً، وكان اجتياحه للكويت حلالاً، فلماذا انضمت الدول العربية الى المنظومة الاميركية التي دمّرت، ثم جوّعت العراق، ولا تزال؟
صدّام يستمر، وجورج بوش يخسر الانتخابات ولو انتصر في حربه التي عصفت في الصحراء؟
أوَلَم يكن احرى بنا، نحن العرب، ان نحاسب نحن مسؤولاً، بالوسائل الديمقراطية، بدل ان نبيح للغريب محاسبته بالعنف؟ واذا نحن أبحنا ذلك للغريب مرة، فكيف ننكر على الغريب الحق الذي أوليناه اياه، في محاسبة احدنا، وها نحن بالكاد نعترض؟
* * *
جورج بوش خسر الانتخابات، ولم يتهم معارضيه بالتآمر عليه وخيانة اميركا...
تماماً كما خسر انتخاباته ونستون تشرشل من قبله بزمان... رئيس حكومة بريطانيا التي انتصرت في الحرب العظمى على المانيا النازية... لم يعاند ويستمر في الحكم، كما عاند واستمر هتلر بعد هزيمته، الى ان اضطر الى الانتحار تحت القنابل... وهو ما يحدث اليوم في افغانستان!!!
ولم يعاند تشرشل ولا بوش، عندما شعرا برغبة الشعب في ان يكون الحكم في زمن السلام غير الحكم في زمن الحرب... انما عارض ستالين مثلاً، فاستمر الى ان مات، وقيل مقتولاً... ومضوا يقتلونه بعد الوفاة مرات، ويفرح بزواله الذين كان يقال عنهم انهم كانوا الأشدّ فرحاً بوجوده.
* * *
رئيس عربي واحد، وكان اعظم الرؤساء، جمال عبد الناصر، عندما انهزمت مصر في حرب حزيران ...1967 لم يصدّق هو انها كانت "نكسة"، كما شُبِّه لنا... فاستقال قائلاً انه يتحمل مسؤولية ما حدث... وانطلقت الناس ترفض استقالته وتدعوه الى دفن رأسه في رمال الجاهلية، الى ان قتلته هموم العرب الذين اسرفوا في تحميله اعباء خلافاتهم، ولا حق له حتى في محاسبة الذات!
وما ان جفت الدموع بعد وفاته، حتى بدأت ستائر النسيان تسدل حتى على منجزاته. وجاء من يستعيد لمصر ارض الهزيمة، فبدل ان تحاسبه المؤسسات الدستورية على ثمن استعادة الارض، وهل كان ذلك هو الحرام الذي يستأهل تخوينه، ام الحلال الذي يستأهل شكره،&& تقبّلت الجماهير العربية اغتياله، وبعضها مَن كبّر وهلّل... ولكن هذه الجماهير اياها، والدول العربية بدون استثناء تقبلت الأرث، من غير جدل، فزال السادات وبقيت معاهداته.
* * *
أوَهذه هي "المساءلة" العربية التي تشهد لعقولنا والمنطق؟
تُرى، متى نُعطى رجلاً كشارل ديغول، آخر الحكام التاريخيين الابطال؟... لم يكن يقدر ان يصدّق انه ليس هو فرنسا، فلما قام من تحداه، لجأ الى استفتاء لم تكن نتيجته بنسبة ما كان ينتظر، فاستقال وانكفأ.
اذا كان صدَّام حسين او سائر "الصدّامين" العرب - وهم كثر، وليس في الدول العربية من يمتاز منهم على الآخر...
اذا كان الصدّامون يظنون انهم كانوا على حق ولو انهزموا، فلماذا لا يستفتون الشعب، حتى اذا افتى بغير ما يظنون، انكفأوا بسلام قبل ان تغتالهم "جماعة"، كما انور السادات، او يستطيب موتهم "الطبيعي" خلفاؤهم من اقرب المقربين، كما استطاب خروشوف ومالنكوف وبولغانين وغورباتشيوف ويلتسين، وصولاً الى بوتين "موت" ستالين، فهلّلوا للبيريسترويكا (ومعناها بالضبط "الشفافية")، اي للمساءلة وامكان المحاسبة؟!
- 3 -
اغرقناك في التاريخ، ايها القارئ؟... وانت قلق على المستقبل... لست قلقاً من الماضي ولا عليه؟
معليش. عبرة واحدة لمن يعتبر.
لا يزال من الممكن ان نحول دون تحوّل العالم العربي كله الى افغانستان متفجرة بالفظائع، اذا نحن بدأنا نتوقف عن التستير على البطولات التي تستهوينا، فقط لأن شعاراتها والابطال ليسوا في متناول مساءلتنا والمحاسبة الذاتية.
حتى اذا جاء قوي من الخارج يدّعي حق المحاسبة بسببٍ مما لم نمنع نحن عنه ممارسته، اسلسنا له القياد، مقهوري النفس، نتظاهر بالعنترة والتعنتر على أمل ان تمر العاصفة، ويمتص التاريخ "النكسة" تلو "النكسة" ونحن نصفق لأبطال هزائمنا، ببلاهة كما يصفق الاطفال للدمى!!!
وفي مثل سذاجة الاطفال، نعزّي النفس بأن العالم يتآمر علينا خدمة لمصالحه ومطامعه... كأننا لم نعرف، ولم نتعلم، ان "نعم، للدول الكبرى مصالح ومطامع تحرِّكها"... لأن ليس في السياسة الدولية جمعيات خيرية، ولا شيء بين الدول من دون مقابل...
* * *
المطلوب ان ندرك نحن اين هي مصالحنا كشعوب، لا كمجرد حكام واصنام حكام... وأين هي طموحاتنا القومية نستهديها بحرية.
ثم نحاسب بحرية، دونما وصاية وصي او وسيط، كل من يفرّط بها مدّعياً ان ثمة إلهاً أرفع من "صوت الشعب" الذي هو "صوت الله" وأقدر، نصّب علينا حكاماً صاروا، بمجرد ما تولوا الاحكام، ابطالاً ولو طغوا وبغوا وتغطرسوا وعاثوا في الارض فساداً وجهلاً!
... وكانوا في ذلك "طالبان" عون المستعمر، ونحن عن ذلك في غفلة ونصفّق. وفي احسن الحالات "لا نسأل"، فكيف نسائل وكيف نحاسب؟
- 4-
نعم، يا فخامة الرئيس: "كلنا مسؤولون".
فاطلق انت، ولا تخف، عقال المحاسبة الديمقراطية حتى تظل للحرية في العالم العربي ولو جزيرة صغيرة هي لبنان، لا تخنقها شخصانية البطولات الزائفة وجاهلية الشعارات الأكثر زيفاً...
بطولات تغطي سماوات العظمة بقبوات الفضائح والفساد!
والشعوب، بدءاً باللبنانيين، مشلولة بالارهاب الفكري والنفسي، تستمر تدفع ثمن الحروب السوريالية... ولكن، هل الى الابد؟
لا، كلا، فهي اذا لم تفرز او يسمح لها باعتماد انظمة المحاسبة الديمقراطية، فقد يولّد يأسها الحساب العنيف العظيم...
فحذار ان يحين زمن اليأس ونحن عن المساءلة غفل، نيام... اذذاك يجرف الحساب من لم يكن مسؤولاً "شرعاً" بجريرة المسؤول حقاً وحلالاً... (النهار اللبنانية)
&