لا يستطيع أي متابع للشأن الأفغاني أن يتفاءل بنتائج مؤتمر بون الذي يناقش حالياً مستقبل أفغانستان، وبناء على خبرة متواضعة بالموضوع أستطيع أن أقول أن المؤتمر لن يحقق المراد منه في نهاية المطاف، وأن الفشل سيلاحقه، سواء في بون أو كابول، أعني أنه معرض للانهيار في أية لحظة في العاصمة الألمانية، لكنني لا أستبعد أن يكثف الأمريكيون من ضغوطهم لكي يحقق نجاحاً مؤقتاً يحفظ ماء الوجه، بالاتفاق على تشكيل الحكومة والمجلس الانتقالي، أحدهما أو كلاهما، لكن هذا الاتفاق لن يدوم، وسيكون الانهيار مصيره بمجرد العودة إلى كابول.
بسبب من ذلك فلعل مصطلح "الفوضى" يكون أكثر العناوين المرشحة للمستقبل المنظور في أفغانستان، الأمر الذي يدعوني إلى القول بأن ذلك البلد البائس مرشح بامتياز "للصوملة" ، سواء بالمعنى الاصطلاحي أو اللغوي. فالصوملة اصطلاحاً تطلق على البلد حين تغيب السلطة المركزية فيه، ويصبح مصيره موزعاً بين امراء الحرب، كما هو الحاصل في جمهورية الصومال الراهنة، التي هي دولة بلا حكومة. أما الصوملة لغة فهي تطلق على حالة المجاعة، وفي قاموس "المنجد" يقال صومل الرجل بمعنى جف جلده جوعاً. ومختلف الدلائل تشير إلى أن ذلك البلد الذي ضربه الجفاف منذ سنين، وانهكه الاقتتال منذ عقدين بصدد مواجهة مأساة انسانية في الشتاء المقبل.
ومن أسف أن المأساة السياسية التي ينتظر أن تشهدها البلاد، وحدها التي يمكن أن تنافس المأساة الانسانية في عمق تأثيرها على الواقع الأفغاني. وقد برزت دلائل تلك المأساة في الظهور أثناء انعقاد مؤتمر بون، الذي لم يذهب إليه الثلاثة الكبار، الملك ظاهر شاه، والرئيس برهان الدين رباني، والجنرال عبد الرشيد دوستم القائد الأوزبكي المعروف.
فقد أعلن يوم الجمعة الماضي أن المؤتمر ووجه بأول نكسة علنية، حين انسحب الحاج عبد القادر ممثل البشتون في وفد التحالف، وهو الحاكم السابق لولاية ننجرهار، وشقيق القائد الشهير عبد الحق، الذي أعدمته حكومة طالبان قبل أسابيع معدودة، وتم ذلك الانسحاب المفاجئ حين دخل المؤتمر في مناقشة تفعيلات تركيبة الحكومة المؤقتة، التي يفترض أن تضم ما بين 15 و25 شخصاً، وأعضاء المجلس الانتقالي الذي سيضم ما بين 120 و200 شخص. وبانسحاب الحاج عبد القادر فقد وفد التحالف الشمالي أحد أهم أركانه، ومن ثم فقد الوفد جزءاً من شرعيته، إذ صار ممثلاً للأقليات الثلاث: الطاجيك والأوزبك والشيعة الهزارة، وغابت عنه الأغلبية البشتونية، الأمر الذي يضعف من موقفه أمام الآخرين. علماً بأن الجنرال عبد الرشيد دوستم لم يكن سعيداً بدوره بطريقة تشكيل وفد التحالف، حيث اعتبر أن الأوزبك لم يمثلوا بشكل جيد فيه.
وقبل أن نستطرد في ذكر الأسباب التي ترجح كفة التشاؤم نذكر بأن مؤتمر بون، الذي استبعدت منه حركة طالبان مثلت فيه بشكل أساسي خمس مجموعات أفغانية هي، التحالف الشمالي بقيادة الرئيس برهان الدين رباني، وقد أصبح يضم الجماعة الاسلامية التي يرأسها رباني، وهي خليط من الطاجيك والأوزبك، ثم حزب الوحدة الشيعي في هيرات، ومجموعة "شورى نظر" وهي التنظيم الذي أسسه القائد السابق أحمد شاه مسعود.
المجموعة الثانية تضم الملكيين المؤيدين للملك السابق محمد ظاهر شاه وأبرزهم صهر الملك وحفيده وعدد من أعوانه . المجموعة الثالثة تعرف بمجموعة قبرص، وهي مدعومة من ايران ومنافسة للملكيين، وتضم شخصيات في المنفى من شيعة الهزارة والحزب الاسلامي الذي يقوده قلب الدين حكمتيار.
المجموعة الرابعة هي مجموعة بيشاور، التي تضم ثلة من القادة القبليين البشتون الذين يعيشون في المنفى والمؤيدين للملك ظاهر شاه ، وعلى رأسهم القائد البشتوني بير سيد أحمد جيلاني.
المجموعة الخامسة والأخيرة يطلق عليها "بدشي خان زجران"، وتضم فريقاً آخر من البشتون استولى على ولاية بكتيا، ومن ثم ثبت نفسه على الأرض وطالب بحصة في حكم البلاد، مع التهديد باقامة وضع شبه مستقل في الولاية.
إلى جانب هذه المجموعات الأفغانية، فالمؤتمر ضم عدداً كبيراً من المراقبين، الذين مثلوا 18 دولة معنية بالموضوع الأفغاني، بطريق مباشر أو غير مباشر ، والمشكلة الأساسية التي تواجهه هي غيبة التوافق في الأهداف والمصالح بين المشاركين فيه، أفغاناً كانوا أم غير أفغان.
فالثقة مفقودة بين الأطراف الأفغانية. وفي المقدمة منها التحالف الشمالي، الذي ضم عدداً من الخصوم الألداء، الذين لم يتفقوا على شيء سوى معارضتهم لنظام طالبان، الذي طرد الجميع من كابول عام 96. فالمعركة الأساسية بعد خروج السوفييت من أفغانستان كانت بين حكمتيار (بشتوني) ورباني وأحمد شاه مسعود (من الطاجيك) والاثنان لا يثقان في الجنرال عبد الرشيد دوستم الأوزبكي والشيوعي السابق، وهو المدعوم من حكومة أوزبكستان. ثم هذا الأخير خصومته مع الجنرال اسماعيل خان المهيمن على هيرات، وكان دوستم قد خانه في السابق وسلمه إلى طالبان ، لكنه هرب من سجنهم. وهؤلاء جميعاً من أهل السنة (أحناف متعصبون) وليسوا على وفاق مع حزب الوحدة الشيعي، الذي طالب بوجود قوات دولية في كابول تحمي الشيعة الذين يعيشون فيها ويهيمنون على التجارة، لأنهم ليسوا مطمئنين إلى قوات التحالف الشمالي الموجودة في العاصمة.
لقد سبق التحالف الشمالي إلى دخول كابل حتى يثبت حقه فيها قبل أن تأتي قوة أخرى مثل الأوزبك وزيادة في الاحتياط فان حزب الوحدة سارع إلى وضع الحواجز عند مدخل الحي الذي يسكنه الشيعة، لكي يحولوا بين الآخرين وبين الدخول إليه.
وبسبب الاختلاف بين الطاجيك والأوزبك تأخر اقتحام مدينة قندوز. ونتيجة للحساسية ازاء الاثنين فان البشتون طلبوا من قادة التحالف الشمالي عدم دخول "قندهار"، وقالوا أن قبائلهم ستتكفل بالتعامل مع الملا عمر، وليست بحاجة إلى مساعدة آخرين.
قيادة التحالف ليست مطمئنة إلى دور للملك محمد ظاهر شاه. والاتفاق منعقد بين رباني وحكمتيار حول موقفهم من الملك، حيث يعتبر الاثنان انهما لم يناضلا كل تلك السنوات، لكي يسلموا السلطة في النهاية إلى الملك الذي تقدم به العمر، ولن يباشر شيئاً في السلطة، وانما أعوانه وأحفاده هم الذين سيباشرون كل شيء باسمه. وقد أعلن رباني ذلك الرفض صراحة.
من ناحية أخرى فان الملك الذي لا يملك قوة على الأرض، مؤيد لفكرة وجود قوات دولية تؤمن العاصمة وتؤمنه. ويعارض رباني وجود تلك القوة، إلا في الحدود التي يفترض أن توفر الحماية للملك (200 شخص فقط).
وبينما تؤيد روسيا والهند وايران التحالف الشمالي فان باكستان ليست على ثقة كبيرة فيه، وواشنطون تؤيدها في ذلك، بينما حماسها أكبر للملك ظاهر شاه.
ثمة تفعيلات كثيرة أخرى تعكس التباينات بين الفصائل الأفغانية المختلفة، وكلها تشير إلى تضاؤل مساحة المشترك بينها في رؤية المستقبل، ناهيك عن المشترك بينها في التركيبة العرقية والمصالح والتطلعات.
ان الذين تابعوا العلاقة بين فصائل الجهاد الأفغاني بعد خروج السوفييت وتشكيل المجلس الجهادي الاسلامي عام 1992م ، يلاحظ أن هذه العلاقة لم يكتب لها الاستقرار، إلا بعدما استولت قوات طالبان على كابول في عام 1996م، وذلك أن توازن القوى وانعدام التجانس بين قادة تلك الفصائل جعل من المتعذر على أي فصيل أن يحسم الأمر لصالحه وأن يحقق الاجماع من حوله.
وحين تقدمت قوات طالبان فان التجانس كان قائماً بينها، سواء بحكم الخلفية الثقافية الواحدة لعناصرها، أو بحكم أن أغلبية تلك العناصر تنتمي إلى عرق البشتون، ثم ان قواتها حين خرجت من قندهار استقبلت بترحيب من الناس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً باقتتال فصائل المجاهدين، وفي الوقت ذاته فان الدعم العسكري الباكستاني لها وفر لها قدرة مكنتها من دحر القوات المناوئة لها.
بضرب طالبان وتدمير قدرتها القتالية عادت أفغانستان إلى الحالة التي كانت عليها قبل عامي 94 و96 . وبالتالي برزت لدى كل فصيل التطلعات التي ظلت كامنة منذ ذلك الحين، وبعد الخروج من العاصمة في 96 . وازاء التدخلات الخارجية من جانب الدول المجاورة لدعم هذا الفصيل أو ذاك، فان احتمالات الفوضى في البلاد تغدو قوية إلى حد كبير، ورغم أن الولايات المتحدة وبريطانيا مهتمتان بالوضع هناك الآن، إلا أن ذلك الاهتمام سوف يتراجع إلى حد كبير إذا تمكنت الدولتان من قتل الملا محمد عمر واسامة بن لادن، والقضاء على أتباعهما، حيث لن تجدا آنذاك مبرراً للانخراط في الصراعات الأفغانية الداخلية.
وفي أحسن الفروض ، فاذا نجح مؤتمر بون في تشكيل حكومة أفغانية تحت الضغط الأمريكي والدولي فان هذه الحكومة ستظل معصومة بكونها مفروضة من الخارج، وسيكون ذلك عنصراً اضافياً يسهم في الاسراع بانهيارها، والعودة إلى حالة الانفراط مرة ثانية ، بما تستصحبه من اقتتال وتوخ، واقتراب حثيث من النموذج الصومالي.
هذا عن الغد، أما بعد الغد، فمن الصعب أن يتنبأ به المرء الآن، لأن مساحة الرؤية لا تسمح بأكثر من ذلك، والله أعلم.(الشرق الأوسط اللندنية)
&