&
في أعقاب تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) الماضي، تهافت الكثيرون في فرنسا علي مطالعة الكتب الدينية وكتب النبوءات، لعلهم يجدون فيها تفسيراً لما اعتبروا أنه جنون أصاب العالم.
وبعيداً من ردة الفعل العفوية لهؤلاء المواطنين العاديين، أقدم عدد من المفكرين علي خطوة مماثلة الي حد ما، لكنهم بدلاً من العودة الي الدين فضّلوا استحضار فكر... كارل ماركس.
فما حل بالولايات المتحدة ليس من قبيل الكوارث الطبيعية، أو الظواهر الماورائية، التي يصعب تفسيرها، بل هو محطة في سياق النهج الذي يحكم العالم، وينبغي بالتالي التوقف عند جذوره ومسبباته.
ومثل هذه الوقفة تستدعي تجاوز الأقوال المبسّطة التي ترددت في اعقاب التفجيرات: مواجهة بين الخير والشر و صدام بين الحضارات و تدمير لطريقة الحياة الاميركية .
فالتفجيرات، في رأي الكاتب الياباني كنزا بورو اويه، لم تنجم عن شحنة من العواصف السلبية والمدمرة وانما عن خلل بنيوي اصاب العالم. ولتوضيح هذا الخلل لا بد من العودة الي مفصل رئيسي هو انهيار جدار برلين سنة 1989، والقاء نظرة شاملة علي ما ترتب علي هذا الانهيار الذي كرس انتصار الرأسمالية وهزيمة الاشتراكية الماركسية. فاليوم، وبعد مضي أكثر من عشر سنوات علي هيمنة الرأسمالية كيف يبدو العالم؟
بالاجابة عن هذا السؤال يتفق خمسة من المفكرين الفرنسيين، من مختلف الاتجاهات، علي القول إن أفول الحرب الباردة وغياب الصراع الايديولوجي العالمي الذي انجرّ عنها لم يدفعا الفكر الرأسمالي نحو النضج. فهذا الفكر لا يزال علي حاله، وحصيلة هيمنته علي العالم تبدو اليوم علي الشكل التالي: زيادةً في الثروة التي تمت مراكمتها، وزيادةً في الفقر والبؤس، وتعميقاً للتناقضات التي ينتجها والتي تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة، منها ما حصل في 11 أيلول.
وفي اطار نقدهم للفكر الرأسمالي ورصدهم لثغراته، توصل المفكرون الخمسة الي استنتاج موحد مفاده انه لا مفر من الاستعانة مجدداً بماركس.
جان ماري فنسان أحد هؤلاء الذين خصصت صحيفة ليبراسيون الباريسية الجزء الأكبر من ملحقها الأدبي الاسبوعي لهم. وقد حمل كتابه عنوان: ماركس الآخر حيث يعتبر ان المجتمعات الغربية تواجه منذ 11 أيلول نمطاً جديداً من النزاعات التي تحمل علي الأخذ مجدداً بما أكده ماركس تكراراً حول المعطيات المدمّرة التي تواكب تطور الرأسمالية .
فالتقدم التقني والمنافع التي يفترض أن تترتب عليه، تترافق مع تفاوت متصاعد بين الشمال والجنوب. اما العولمة، في رأي فنسان، فإنها تزعزع استقرار العديد من دول العالم وتفتّت البعض بقدر ما توحّد البعض الآخر .
ولمنع الجنوب من اعادة النظر في النظام الدولي الجديد، يقول فنسان ان الولايات المتحدة الأميركية استعانت بأكثر القوي رجعية في العالم الاسلامي ، مثل باكستان وطالبان، و لم تنتبه الي انها بذلك تلعب بالنار .
والنزاع الذي يعيشه العالم حالياً تحت شعار مكافحة الارهاب الدولي لا يهدف، في رأيه، سوي الي حماية الهيمنة الاميركية علي العالم ، فيما التصريحات التي اطلقها اسامة بن لادن حول البؤس في العالم الاسلامي لا تهدف الا الي إحلال اشكال جديدة من الأساليب الظلامية .
اما المخرج المتاح من هذه الحلقة المفرغة فيكمن، بحسب فنسان، في افساح المجال أمام أنماط جديدة من صراع الطبقات .
وبدوره يتوقف المفكر دانيال بنسعيد الذي يحمل كتابه عنوان غرام ماركس ، امام مساوئ النظام الدولي الجديد، فيؤكد ان زوال الاتحاد السوفياتي لم يجعل العالم لا أفضل ولا أكثر عدلاً ولا أقل عنفاً .
ويؤكد ان ماركس كان أول من كشف عن سر الهرم الحديث الممثّل في رأس المال ، وان ما فككه من رموز في هذا المجال يستعيد جدواه كلما بهتت صورة الليبرالية المنتصرة .
فتغييب صراع الطبقات الذي لم تتمكن العولمة من حله، مثلما لم تتمكن عقلية الأسواق القصيرة النظر من تخفيف وطأته عبر العدالة الاجتماعية، أدي بالتالي الي بروز الحروب المقدسة .
فقد نجح ماركس، تبعاً لبنسعيد، ومنذ سنة 1848، في تعريف عقلية العصر حين قال في بيان الحزب الشيوعي (المانيفستو) ان كل ما بدا مستقراً ومتيناً تبدد كالدخان . وهكذا فالركام الذي حل محل برجي مركز التجارة العالمية يدعو الي التفكير ملياً بهذا القول . اما جاك بيديه الذي يحمل كتابه عنوان ماركس الآخر بعد الماركسية ، فيري ان كل ما أسفر عنه النظام الدولي الجديد هو تأمين شرعية مطلقة لرأس المال وقوانين السوق ، برعاية هيئات قادرة علي ضرب وارغام كل من يبتعد عن قوانين التجارة الحرة. ومن هذه الهيئات طبعاً صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية.
ومن باب تسمية الأشياء بأسمائها يقول بيديه ان الامبريالية ، بدلاً من ان تكتسب المزيد من المرونة، اكتسبت المزيد من العدائية، وأصبحت أشبه بـ دولة وحشية تحظي بشرعية عالمية لكنها غير مستمَدة من ارادة سكان العالم، ولا بد من مقاومتها.
والخلاصة أن فهم العالم المعاصر باضطرابه وعنفه وابهامه يتطلب، عنده، قراءة جديدة لـ رأس مال كارل ماركس، الذي لم يفقد دقته وصحة تحليله، علي رغم ما لحق بأفكاره من تشوّهات وممارسات شاذّة.
وكائناً ما كان الرأي، يبقي لنا أن نتوقّع احتدام السجال حول هذا الموضوع الكبير الذي ينظر اليه البعض كهرطقة، والبعض الآخر كتجلٍّ.(الحياة اللندنية)