سيعود ارييل شارون من واشنطن لينتقم... وهو جاء الي منصبه لينتقم، وانتقم مراراً، ثم ماذا بعد؟ والأرجح ان عمليتي القدس وحيفا لم تسمحا للرئيس جورج بوش بأن يقول لشارون الكلام الصعب الذي كان ينويه، بل لعلهما احيتا التضامن بين الحليفين، وقلصتا الانتقادات الاميركية لرئيس الوزراء الاسرائيلي من دون ان تلغياها. فالموسم موسم حرب علي الارهاب، وموسم تنافس علي الاسبقية في تطبيق المنطق الشاروني. وليس بين الحليفين، الاميركي والاسرائيلي، أي خلاف علي تعريف الارهاب .
مع ذلك، لا مخرج من المأزق الاسرائيلي - الفلسطيني إلا بوقف شارون عند حد. أما اعطاؤه الضوء الأخضر ليتابع مغامراته الدموية فكفيل بإفشال أي مسعي اميركي لبدء التعامل مع المأزق لتحديد المخارج السياسية والأمنية منه. ولا بد للإدارة الاميركية ان تعترف بأنها بالغت في إهمال هذا النزاع وتركته يعتمل الي حد الانفجار. ولو قالت كلمتها وتحركت في الوقت المناسب لما انفلتت الأمور علي الجانبين الي هذه الدرجة.
أن يحدث ما حدث من الجانب الفلسطيني، في وجود المبعوث الاميركي انتوني زيني، فليس في الأمر عجب. اذ حدث مثله من الجانب الاسرائيلي قبيل وصوله مع وليام بيرنز، وبعد وصولهما. فالطرفان يريدان ان يؤثرا في مهمة الاميركيين، أو علي الأقل لا يريد أحدهما ان يستغل الآخر ظروف التحرك الاميركي لتسجيل نقاط. كان للتغاضي الاميركي عن جرائم اسرائيل اسوأ مساهمة في تعقيد الأزمة ومعطياتها. اذ ترك الفلسطينيون في مواجهة حصار شامل واغتيالات مبرمجة وتوغلات في مناطقهم وتدمير لمنازلهم وجرف لأراضيهم وقصف لمقرات السلطة واستهداف يومي لرموز هذه السلطة علي رغم أنها مطالبة في نهاية المطاف بفرض الأمن والنظام.
كل هذه الجرائم حظيت بتغطية اميركية وكان معروفاً دائماً أنها موظفة لإنشاء حلقة انتقامات لا نهاية لها. حتي ان التخطيط الاسرائيلي رمي، عبر شروط وقف النار، الي اشعال حرب اهلية ينشغل بها الفلسطينيون كبديل عنفي من انتفاضتهم ضد الاحتلال. ها هي السلطة الفلسطينية وصلت الي اللحظة الصعبة التي لم تكن ترغب في بلوغها. لم يستطع أحد ان يساعدها، وعليها الآن ان تستشرس للحفاظ علي نفسها، كأن انتفاضة لم تكن، وكأن تنسيقاً مع سائر الفصائل لم يكن.
في أي حال، لا وجود لسلطة في أي مكان في العالم تكتفي بالتفرج علي سلطة احتلال وهي تعربد وتتجبر علي شعبها من دون ان يكون لها موقف؟ وفي حال السلطة الفلسطينية، تحديداً، كان أقصي ما يتوقع منها ان تترك شعبها يدافع عن نفسه بالوسائل المتوافرة لديه، بمعزل عن التعددية السياسية في صفوفه. وحتي عندما حاولت هذه السلطة مراراً ان تساهم في انطلاقة جديدة تستعيد فيها زمام الأمور، كانت عصابة شارون تخرّب الوضع ليبقي علي توتره وقابليته لاشعال العنف. لذلك لم يكن هناك اي حسن نية في ان تصر الإدارة الاميركية، كما رغب شارون، علي وقف العنف الفلسطيني وحده، وانما كان عليها ان تصر علي وقف العنف والارهاب والعدوان من الجانب الاسرائيلي أولاً. وحتي الآن، علي رغم التطورات الأخيرة، لا يزال مطلوباً وقف العنف الاسرائيلي، أقله لاختبار ما يمكن السلطة الفلسطينية ان تفعله لتهدئة الوضع من جانبها.
هذا ايضاً امتحان للادارة الاميركية ومدي جديتها في اعتبار اسرائيل سلطة احتلال. اذ لا يمكن معاملة أي سلطة احتلال بأنها فوق اللوم والإدانة، وخارجة علي القانون الدولي فلا يمكن ردعها ومحاسبتها. في حين ان السلطة الفلسطينية، المنطلقة اساساً من كونها خاسرة طالما ان هناك احتلالاً، تواجه أقصي الضغوط لتلبية الشروط والاملاءات التي وضعتها سلطة الاحتلال. من هنا ان انتقام شارون لن يجدي شيئاً، وبالتالي فإن الاجتهاد الاميركي لايجاد تغطية شرعية لهذا الانتقام سيبدد جهود السلطة الفلسطينية ويزيد من صعوبات تعاملها مع شعبها.(الحياة اللندنية)