لم يخطر ببال جاك بيرك وهو يعلن نبأ موت الاستشراق بمعناه الكولونيالي العريق ان نظاما كونيا جديدا قيد التشكيل سيعلن قيامة الاستشراق، لكن بطبعات مؤمركة.
وان كان لها تنقيح، فهو اضافة فصل دراسي مما يمكن تسميته الاستشراق العسكري، ولم تكن احداث ايلول (سبتمبر) الماضي السّبب المباشر في احياء الاستشراق، لقد كانت اشبه بالقابلة التي استولدته بعد عقد من الحمل، وان كان تجريب الاسلحة في العراق هو الوحام، فان ما جري في افغانستان هو العّينة النموذجية والكاملة لضحية هذا النظام الجديد، وذلك لسببين علي الاقل، اولهما هشاشة الكعكة الافغانية، وثانيهما الشرعية الدولية التي استطاعت الولايات المتحدة الظفر بها عبر ثنائية الترهيب والترغيب، او ما يسمي العصا والجزرة.
والولايات المتحدة تقود الغرب برمته مجددا لمعاودة فحص الشرق، وخصوصا الاسلام ببعديه الايديولوجي والسّياسي، مما دفع محللين استراتيجيين في امريكا واوروبا الي تحفيز الدول والمؤسسات ومراكز الابحاث علي مضاعفة انشطتها في عواصم آسيوية، هذا بالرغم من ان الثقافة الامريكية قد وصلت عبر فقاعات الكولا كما يقول الباكستاني حسين حقاني الي ابعد قرية وآخر زقاق في آسيا المحتلة.
ان عودة الاستشراق الان هي المرادف النّظري والمعرفي لعودة الاستعمار، بالرغم من ان كليهما كانا علي وشك الغروب، فالحرب العالمية الثانية قبل نصف قرن أعلنت قبل ان تجف دماء قتلاها، وتهدأ دواليبها ان الاستعمار القديم قد مات، وان المرحلة المقبلة هي مرحلة ما بعد الاستعمار، ولم تمّر هذه الشعارات مرور الكرام علي مثقفي اوروبا في الخمسينات من القرن الماضي فقد الف سارتر كتابا مكرسا للاستعمار الجديد، واضاف اليه ملاحق في هجاء الامبراطورية الجديدة التي ورثت بريطانيا العجوز.
كان الاستشراق الكلاسيكي هو التوأم البكر لحقبة كولونيالية، فقد مهّد لها وعبّد لها طرقات كانت وعرة وشبه مجهولة ولم يكن شرق نيرفال او لين او حتي رينوار سوي ظلال داكنة في مخيلة يشحذها شبق غامض نحو شرق آسر، منقع بالتوابل والبخور والجنس الاسود.
وكان لا بد للمستشرق ان يتماهي في البداية مع المستشرق بفتح الرّاء فقلده بالزي واللغة، واحيانا يتبني العقيدة كما فعل بونابرت انها مهارة الصّياد البدائي الذي كان يتقمص شكل الطريدة، كي يضللّها، ومن ثم يضبُعها فتلحقه الي المغارة، كي تنتهي الي هيكل عظمي، واذا كانت حكاية المضبوع في تراثنا تشترط علي من يصحو من الغيبوبة ان يرتطم رأسه بالسّقف حتي يسيل الدّم علي عينيه، فان من ارتطمت رؤوسهم بسقوف المغارات وسالت دماؤهـــم علي اعينهم، كانوا قليلي العدد، وحتي هذا القليـل حجب الدم عنه الـرؤي وكان ما كان من التماهي الاخر المعكوس حين تــورط المغلوب بمحاكاة الغالب، واحتذاه حتي أوشك علي فقدان جوهره وهــــــويته، وحين راجت اطروحته فرانز فانون حول التماهي القاتل، كان الاوان قد فات، لأن جيلا من الرّواد النهضــــــويين والاحيائــــــيين كانوا قد بدأوا من آخر السّر، اما السّر كله فقد تحول الي مهمل ومسـكوت عنه، والكتب التي راجت في مرحلة التأسيس والرّيادة وخصوصا المكرّس منها لمديح التماهي والمحاكاة العمياء، توزعت بين مفتون بفرنسا ومفتون بالانكليز، ومن بعدهم الامريكيون.
وتولي باشوات الكومبرادو في النصف الاول من القرن العشرين مهمة الوكلاء، فبشروا بنماذج افرزتها سياقات حضارية وصناعية وثقافية مغايرة ان لكم تكن مضادة.
وهكذا فقدوا سؤالهم الاصيل لصالح سؤال مستعار!
يقول ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق، ان الولايات المتحدة تضم مئات المعاهد ومراكز الابحاث المتخصصة في شؤون وشجون الشرق الأوسط وعموم آسيا التي لم يتوقف لعاب الغرب عن السّيلان باتجاهها، خصوصا سرّتها الي لا تقع افغانستان بعيدا عنها!
ومقابل هذه المعرفة الامريكية بالشّرق، ثمة جهل وتجهيل يغرقان الشرق في بحر من المفاهيم والافكار المصنوعة.
واذا كان الشّرق هو بدعة الغرب، فان الغرب هو صبوة الشرق العمياء، حيث بدا النموذج الجاذب مخلوعا من جذوره وسياقاته، ومجمل الظروف التي يحياها.
والان، بدلا من شحذ الوعي بالغرب لدي ضحاياه من شعوب هذه المنطقة يحدث العكس، فالغرب يحيي استشراقه ويؤسس في العواصم الشرق ـ اوسطية واحات خاصة تعد الصحاري بالرّبيع !!
اما السّجال الذي تناسل اطروحات مُعنعنة حول صراع الحضارات، فقد انتهي الي عقم شبه تام، ليس لأن صاحب هذه الاطروحة لم يقُرأ ولم يقرأ ما بين سطوره فقط، بل لأن تسعين بالمئة ممن تنطعوا لمحاورته تشكلت معرفتهم له من الاشاعة وما يرد علي اغلفة الكتب من اعلانات الناشرين.
فقد كان هنتنغتون سباقا الي نقد ذاته وكتب في عدد الربيع من مجلة الشؤون الخارجية الامريكية قبل عامين، محاولا استدراك ما سماه سوء الفهم، كما ادان الادارة الامريكية قائلا، انها بالتردي في الحمق، والعمي الاستراتيجي أطالت من اعمار اعدائها، وكان يقصد العراق بالتحديد.
ان مجمل ما حدث منذ شهرين يختزل ما كان قابلا للحدوث خلال عقدين من الصراع البطيء، وأوشكت الولايات المتحدة عبر تصريحات ساستها وجنرالاتها ان تبعث مقولة رديارد كبلنغ من رمادها عن الفجوة الابدية بين شرق كله شرق وغرب كله غرب!
لعب ارتهان الميديا الكونية للولايات المتحدة دورا كبيرا في حجب التفاصيل، والجمل المعترضة التي اعادت تكذيب كبلنغ واحفاده الضاّلين.
فمن كتبوا قبيل نهاية القرن العشرين عن هذه الالفية بعضهم طوّب العقود الثلاثة الاولي من هذا القرن للنفوذ الامريكي، هذا ما قاله صراحة بريجنسكي مستشار الامن القومي الامريكي الاسبق.
لكن الحدث الزلزالي خلخل ذلك اليقين، مما دفع كاتبا مثل بول كندي الي الجزم بأن امريكا التي تعاني من كعب آخيل، هي التي اطلقت السّهم المسموم علي عقبها.
وما يكرره عبر كل المناسبات نعوم تشومسكي قد ترشح منه الشّماتة بذهنية لم تقم وزنا لأي نقد، واودعت المعصومية حتي فقدت حاسة النقد الذاتي.

هل يمكن تفسير الهيجان ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وبعض دول اوروبا بمعزل عن تراث الاستشراق؟
وكم تبقي في اللاوعي الجمعي للغربيين من الصورة القبيحة للعربي والمسلم؟
لقد كانت تلك المحنة محكا جاء متأخرا عن اوانه لكشف المستور، خصوصا عندما توهم العرب والمسلمون ان الحوار المتقطع والدفء الدبلوماسي الموسمي، بعد الحرب الباردة قد اسدلا الستّارة علي سوء التفاهم القديم، فالكوكب لم يكن طوال نصف القرن الماضي يوتوبيا تنعم بالسلم الاهلي والايديولوجي والثقافي والعكس هو الصحيح، فالتفجر الاثني الذي ساهمت الولايات المتحدة بالاسراع في تفجيره والحروب البينية، والتوتر الذي شمل العديد من البؤر جعل من هذا الكوكب شبه المحتل ديستوبيا او مدينة راذلة تعج بالشّرور.
فلم يحدث من قبل ان كان ضحايا هذه الحروب كلها من المدنيين، والحرب المؤتمتة كانت بمثابة بوليصة تأمين علي حياة العسكر والجنرالات.
لقد كان هذا البعير بانتظار القشة التي تقصم ظهـــــــره، فالحمولة باهظة، والتوتر مبثوث كالوباء في النسيج الكوني كله والولايـــــات المتحدة، تمســــــك بخيوط مئتين واربعـين اثنية علي امتداد العالم، جميعها تحولت الي الغام موقوتة بانتظار التفجير عندما تتطلب الاجندات الاستراتيجية ذلك.

الاعلام الذي تحول من العولمة الي الامركة خلال اسابيع فقط، حاول ان يحجب الشمس الاسيوية السّليطة بعدة غرابيل.
فهو تواطأ ضد ابادة المدنيين والابرياء والاطلال من مشهد الانتصار.
لكن ما انتهي اليه عالمنا، من عدمية، وفراغ ايديولوجي بفضل فائض العسف والظلم، وتفاقم الهوة بين شماله وجنوبه، وبين معسريه وموسريه، حوله الي كتلة ٍصلبة عصية علي التطويع.
فالغرب لم يعد كله غربا، وكذلك الشرق، ولعل آخر الامثلة، يأتي من غرب البحر المتوسط فما من زعيم اوروبي نسب للاسلام ما يسيء اليه، ويقلل من شأنه مثلما فعل رئيس وزراء ايطاليا، لكن سفيره في العربية السعودية اعلن اسلامه بعد شهر واحد من ذلك الهجاء!
وغرب بلير ليس هو غرب هارولد نبتر، كما ان غرب بوش وباول ليس هو غرب تشومسكي وبول كندي.
ان عودة الاستشراق علي متن طائرة بي 52 ستبدو كوميدية خصوصا اذا حاولت تكرار الماضي، فالعالم تغّير ولم يعد محشواً في خوذة عملاقة كما يحلو لجنرالات البنتاغون ان يتصوروه.
ولا بد من حوار آخر، غير الذي يجري بلا اي تكافؤ بين الطائرات المغيرة والمضادات، لان التاريخ في بداياته وليس في خاتمته.
والنظام الكوني الجديد، سواء بدأ عام 1492 في غسق غرناطة او في عام 1991 في شفق بغداد، فهو صنيعة جنرال لا فيلسوف، وجعبته مليئة بالبارود لا بالمخطوطات !(القدس العربي اللندنية)