لم يعد خافيا علي أحد‏,‏ أن مؤشرات وتصريحات عديدة‏,‏ خرجت وتخرج من واشنطن‏,‏ وعلي ألسنة كبار المسئولين الأمريكيين‏,‏ تقول إن الدور الآن علي العراق‏,‏ وأن الضربة الأمريكية المقبلة‏,‏ بل الوشيكة ستوجه لهذه الدولة العربية بالتحديد‏.‏
صحيح أن قائمة الدول العربية المحتمل ضربها ـ وفق المعلومات الأمريكية ـ كثيرة‏,‏ تضم السودان والصومال واليمن‏,‏ باعتبارها متهمة بايواء الإرهابيين ـ الآن أو في الماضي ـ لكن يبقي موقف العراق أكثر احتمالات وتحديدا‏,‏ في هذه الأيام‏,‏ بعد تصعيد سياسي إعلامي شرس ضده وبتهم عديدة‏,‏ من ايواء وتشجيع الإرهابيين‏,‏ إلي تطوير أسلحة الدمار الشامل التي تهدد أمن العالم‏!‏
وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت وحدها المسئولة عن حفظ أمن العالم واستقراره‏,‏ مثلما أصبحت مسئولة وحدها أيضا عن مطاردة الإرهاب وتصفية أوكاره علي اتساع خريطة العالم‏,‏ فهي بنفس المسئولية العظمي‏,‏ هي المسئولة عن كشف وتدمير ترسانات أسلحة الدمار الشامل‏,‏ ولكن هذه المرة بانتقائية معهودة‏,‏ بحيث تضرب مثل هذه الأسلحة في الدول المارقة أو المعادية لها‏,‏ وتترك مثيلاتها بل وأخطر في الدول الحليفة والصديقة‏,‏ وهذا هو الفارق بين العراق مثلا وإسرائيل‏!‏
ومن الواضح أن الانتصارات الساحقة السريعة‏,‏ التي حققتها القوات الأمريكية في أفغانستان‏,‏ وخصوصا نجاحها في تدمير قوة حركة طالبان‏,‏ الأمر الذي أدي إلي انهيارها السريع المتوقع ـ بسبب الخلل في موازين القوي ـ قد أدي إلي زيادة ـ وليس نقصان ـ صرخات الثأر وصيحات الانتقام العصبية داخل دوائر أمريكية مؤثرة كثيرة‏,‏ تحت تصور أن النجاح يغري بالنجاح‏,‏ وأفغانستان كانت فاتحة شهية لوجبة رئيسية تتلوها‏,‏ ربما كانت بغداد الطبق الرئيسي فيها‏!‏
وفي حين كان الرئيس الأمريكي بوش يزهو بانتصارات قواته في أفغانستان‏,‏ أغرته اللعبة السهلة هذه‏,‏ فوجه تحذيرا شديدا إلي العراق علي الهواء مباشرة‏,‏ إما أن يفتح حدوده فورا لدخول قوة التفتيش الدولية ـ التي سبق أن طردها وقاطعها ـ لكي تفتش علي أسلحة الدمار الشامل لديه‏,‏ وإما سيواجه أوخم العواقب‏!‏
وفي حين حاول وزير خارجيته كولين باول‏,‏ في اليوم التالي‏,‏ تخفيف أو تهذيب تصريح رئيسه‏,‏ قائلا إنه مجرد جرس إنذار‏,‏ لكن ليس هناك خطط محددة الآن للحرب علي العراق‏,‏ فإن الصقور في الادارة والكونجرس والإعلام الأمريكي‏,‏ أخذوا تصريحات بوش علي أنها اشارة العد التنازلي لتوجيه ضربة عسكرية للعراق‏,‏ باعتبارها المرحلة الثانية في الحرب ضد الإرهاب‏,‏ بعد نجاح ضربة أفغانستان‏.‏
ونحسب أن صوت تيار الصقور هو الأقوي سواء في الادارة‏,‏ ممثلا بوزير الدفاع رامسفيلد‏,‏ أو مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس أو بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع‏,‏ أو حاخامات وزارة الخارجية‏,‏ سواء في الكونجرس ووسائل الإعلام‏,‏ وكلها تمثل المزاج اليميني المتطرف الذي وجد في الهجوم الانتحاري علي نيويورك وواشنطن في سبتمبر الماضي‏,‏ فرصة ذهبية للانتعاش وركوب عجلة القيادة‏,‏ ومن ثم تنشيط العضلات العسكرية الأمريكية علي اتساع خريطة العالم‏,‏ باسم مكافحة الإرهاب الدولي‏,‏ وتصفية أسلحة الدمار الشامل في أيدي المارقين والشياطين‏,‏ من أمثال صدام حسين‏,‏ الذي وصفه الرئيس بوش بأنه شيطان يملك أسلحة دمار شامل‏!‏
في هذا المناخ التحريضي المحموم‏,‏ علي العرب والمسلمين عموما‏,‏ علي الدول المتهمة المارقة خصوصا‏,‏ أصبحت الاشارات والتصريحات الرسمية الأمريكية‏,‏ الموجهة إلي العراق خلال الاسبوع الأخير‏,‏ ترقي إلي درجة التهديد المباشر‏,‏ وتثير الشعور بأن الضربة صارت قريبة‏,‏ حالا وحلالا‏,‏ لأن أحدا في العالم لم يعد في مقدوره‏,‏ وقف آلة الحرب الأمريكية المنطلقة بعربتها الطائشة‏!‏
‏***‏
الحجة الأمريكية في التجهيز لضرب العراق هي أنه كما قال كولين باول قبل أيام علي محطة سي‏.‏إن‏.‏إن‏,‏ لايزال يشكل خطرا علي الجميع‏,‏ لأنه مستمر في تطوير أسلحة الدمار الشامل ولذلك سنبقي الضغط عليه‏,‏ ولكن ولفوفيتز نائب وزير الدفاع زاد القول تشددا‏,‏ حين ذكر تحديدا‏:‏ إن لدينا أدلة كثيرة علي أن العراق يسعي بقوة لتطوير أسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية‏,‏ سواء بامكاناته الذاتية‏,‏ أو بالاستعانة بمساعدة من الأسواق الدولية‏!!‏
هكذا تقول كل المقدمات الأمريكية‏,‏ التي تريد تمهيد الأرض والجو‏,‏ لبدء المرحلة الثانية من الحرب الأمريكية ضد الإرهاب‏,‏ حيث الهدف الثاني قد تحدد بوضوح شديد وهو العراق‏,‏ والمبررات جاهزة وهي نشاطه في امتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل ـ دون دليل محدد ومعلن حتي الآن ـ رغم أنه ليس وحده‏,‏ الذي يملك أو يطور مثل هذه الأسلحة في هذه المنطقة الحساسة من العالم‏,‏ بافتراض أن الاتهام الأمريكي صحيح‏.‏
ولكن لأن الغرض مرض‏,‏ لأنه يري القشة في عين العدو ولايري الخشبة في عين الصديق‏,‏ فقد تعامت تيارات التشدد الأمريكية عن مد النظر إلي الخريطة النووية المحيطة بهذه المنطقة‏,‏ حيث تتجمع فيها وحولها ست قوي نووية دولية متأهبة ومكتملة‏,‏ هي باكستان والهند‏,‏ وفي ظهرهما مباشرة الصين‏,‏ ثم إسرائيل وفي خط مستقيم معها القوة الأمريكية في الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي المجهزة نوويا‏,‏ وعلي الحدود القريبة تقف روسيا متأهبة رغم حالة الضعف والوهن البادي عليها‏.‏
وباستثناء حالة الصين‏,‏ فإن باقي القوي النووية هذه إما حليفة وصديقة لأمريكا‏,‏ وإنما مستأنسة‏,‏ وتبقي دولتان في المنطقة توجه إليهما الاتهامات بتطوير أسلحة الدمار الشامل خصوصا النووية‏,‏ وهما العراق وإيران‏,‏ ولكن العراق هي الواقعة الآن تحت سنابك الخيل الهائجة‏,‏ فهي التي تحتل مقدمة احتمالات الضربة الوشيكة‏,‏ رغم الضغط الإسرائيلي العنيف علي واشنطن‏,‏ لتكون الضربة مزدوجة تدمر قدرات العراق وإيران معا‏!‏
ولمزيد من ايضاح المواقف نقول‏:‏ إن قرارا بضرب العراق‏,‏ أو باضافة إيران له‏,‏ في هذه الظروف لن يكون سهلا اتخاذه في عاصمة العالم واشنطن‏,‏ التي تبذل الجهد الجهيد لإبقاء التحالف الدولي الذي أقامته في الحرب ضد الإرهاب متماسكا‏,‏ وللاحتفاظ بغطاء المحلل الشرعي العربي والإسلامي‏,‏ علي رأسه‏.‏
صحيح هناك فريق التحريض الناشط بقوة لضرب العراق الآن‏,‏ الآن‏,‏ وليس غدا‏,‏ وفي مقدمته أولا صقور الادارة الجمهورية الحاكمة وغلاة اليمينيين في الكونجرس وهم كثر‏,‏ وثانيا إسرائيل واللوبي الصهيوني الأمريكي الذي يعيش الآن أزهي عصور قوته وتأثيره‏,‏ وثالثا حدة المزاج الشعبي المتأثر بوسائل الإعلام‏,‏ والمصدوم من هول أحداث سبتمبر الرهيبة‏,‏ والمبهور بالانتصارات العسكرية السريعة في أفغانستان دون خسائر بشرية تذكر حتي الآن‏..‏ حيث سقط أقل من عشرة قتلي أمريكيين علي مدي شهرين من حرب أفغانستان‏!!‏
وهو أمر أغري بمغامرة انتقامية جديدة ضد هدف مكروه رسميا وشعبيا هو النظام العراقي‏,‏ الذي لم ينجح بوش الأب في إسقاطه خلال حرب الخليج الثانية عام‏1991,‏ فجاء دور بوش الإبن لإكمال المهمة الآن وفورا‏,‏ مسنودا في ذلك بتأييد شعبي كاسح وصل إلي‏90%‏ بصفة عامة‏,‏ وإلي‏87%‏ يؤيدون توسيع حرب أفغانستان لتشمل ضرب العراق والاطاحة بنظامه الحاكم كما حدث مع نظام طالبان‏,‏ وفقا لاستطلاع حديث للرأي أجرته محطة تليفزيون إيه‏.‏بي‏.‏سي مع جريدة واشنطن بوست واسعتي الانتشار والتأثير‏!‏
وفي مقابل قوي التحريض هذه‏,‏ هناك قوي أخري تعارض ضرب العراق تحديدا في هذه الظروف المتشابكة‏,‏ في مقدمتها تيار الحمائم المعتدل داخل الادارة الأمريكية وإن كان منخفض الصوت‏,‏ ثم موقف روسيا المعارض لضربة عسكرية حماية لمصالحها الاقتصادية مع العراق‏,‏ وموقف الدول الأوروبية الرئيسية خصوصا فرنسا وألمانيا‏,‏ الذي يري في توسيع الضربات العسكرية الآن لتشمل العراق قنبلة خطيرة‏,‏ وذلك كما قال المستشار الألماني جيرهارد شرودر أمام البوند ستاج البرلمان في الاسبوع الماضي‏.,‏ علينا أن نكون حريصين جدا في ضرب أهداف أخري في الشرق الأوسط‏,‏ لأن ذلك قد ينفجر في وجوهنا بأكثر مما نتصور‏....‏
وخلاصة الحذر الأوروبي ـ المبني علي حسابات سياسية واقتصادية متشابكة مع العراق والعالم العربي‏,‏ مختلفة عن الحسابات الأمريكية المندفعة تحت شهوة الانتقام ـ أن ضرب العراق سيفك التحالف الدولي القائم الآن ضد الإرهاب أولا‏,‏ وسيثير العرب والمسلمين بأقوي مماحدث مع ضرب أفغانستان‏,‏ ثانيا وأخيرا تأتي المعارضة العربية الواسعة ضد ضرب العراق‏,‏ سواء علي المستوي الشعبي أو علي المستوي الرسمي وخصوصا من حكومات مهمة مثل مصر وسوريا‏,‏ الأمر الذي عبر عنه عمرو موسي الأمين العام للجامعة العربية‏,‏ حين أكد أن رفض ضرب العراق ليس موقف الأمانة العامة للجامعة أو دول عربية بعينها‏,‏ بل هو موقف كل الدول العربية وشعوبها‏.‏
‏***‏
جميل‏..‏ ولكن‏.‏
رغم اختلافنا مع النظام العراقي‏,‏ سياسيا وفكريا ونظريا وعمليا‏,‏ إلا أننا نعتقد أن ترك العراق ـ الدولة والوطن والشعب ـ يضرب بقوة الآلة العسكرية الأمريكية الغاشمة‏,‏ في هذه الظروف‏,‏ أمر بالغ الخطورة‏,‏ لأن مثل هذه الضربة ستتجاوز ضرب حرب عاصفة الصحراء وحصارها الطويل المفروض حتي الآن‏,‏ وستنعكس بآثار وخيمة علي كل الدول العربية بلا استثناء‏,‏ من ناحية‏....‏ ومن ناحية أخري‏,‏ فإنه مع تقديرنا لحجم التفوق المطلق في القوة الأمريكية‏,‏ إلا أن العراق ليس أفغانستان‏,‏ وضربه لن يكون نزهة أفغانية‏,‏ لأنه يمتلك قدرات ذاتية علي المقاومة والصمود‏,‏ وعلي إيقاع خسائر جسيمة في المهاجمين ربما تفوق تصور الصقور الأمريكيين‏.‏
ومن ناحية ثالثة‏,‏ فإنه بمايملكه من امكانات وأسلحة عراقية‏,‏ قادر علي توجيه ضربات انتقامية أخري وغير متوقعة تجاه جيرانه الأقرب علي الأقل‏,‏ في خط متصل من إسرائيل إلي الخليج‏,‏ بما يعنيه ذلك من تفجير شامل للمنطقة العربية الملتهبة‏,‏ يصيب أصدقاء أمريكا قبل خصومها‏,‏ ويدمر مصالحها الحيوية مثلما تدمر هي قدرات العراق‏!‏
هذه هو مكمن الخطر الذي يجب أن يقدره جيدا عقلاء أمريكا‏,‏ لكن الخطر الأكبر يأتي حقا من جانب غير العقلاء المهووسين بجنون العظمة وحماقة القوة‏,‏ التي شجعتهم علي الاستمرار في ممارستها‏,‏ ضربة أفغانستان وخروجهم منها بلا ضحايا‏,‏ فإذا بها النموذج الباهر الذي يتغني به الجميع الآن‏..‏
وحين يغري النجاح ـ حتي لو كان كاذبا ـ بالنجاح‏,‏ فإن جنون العظمة وحماقة القوة تدفع التيار المتشدد في واشنطن‏,‏ بقوة مسنودة إسرائيليا وصهيونيا ـ نحو ضرب العراق‏,‏ وربما بعده الصومال‏,‏ واليمن‏,‏ والسودان‏,‏ وسوريا‏...‏الخ‏,‏ علي أمل أن يتحول العراق ـ بعد التدمير الجديد ـ إلي نموذج أفغاني في المنطقة العربية‏,‏ شاهدا علي قوة التأديب الأمريكي وشراسته‏.‏
وكما أحدثت الضربة العسكرية لأفغانستان‏,‏ اضطرابا وفراغا سياسيا وصل إلي حد الفوضي المهددة بتقسيم البلاد وفق أسس عرقية‏,‏ فإن السيناريو الجاهز للعراق يكاد يكون في ذهن الصقور مماثلا‏,‏ حيث يعقب الضربة العسكرية الأمريكية لتدمير القدرات العراقية‏,‏ لايجاد فراغ سياسي هائل‏,‏ يؤدي إلي تقسيم العراق إلي ثلاثة كيانات عرقية وطائفية‏,‏ كيان كردي في الشمال‏,‏ وكيان شيعي في الجنوب‏,‏ وكيان سني في الوسط‏,‏ وتتولي المعارضة العراقية في الخارج ـ وكم هي مشتتة متعددة ـ ركوب الدبابات للهيمنة علي هذه الكيانات‏,‏ التي يفترض أن تنهي قوة الدولة العراقية ومركزيتها ودورها الاقليمي أولا وأخيرا‏!!‏
وهذا سيناريو إن كان يغري الصقور الأمريكيين بتنفيذه‏,‏ فهو لن يرضي كل العرب خصوصا‏,‏ وحتي جيران العراق مثل تركيا وإيران وباكستان فضلا عن روسيا في العموم‏,‏ لأنه ينعكس سلبا واضطرابا علي الجميع‏.‏
وإن كان الصقور الأمريكيون والإسرائيليون‏,‏ يتصورون أنه عن طريق مثل هذا السيناريو‏,‏ يحكمون القبضة الحديدية علي المنطقة‏,‏ ويفرضون عليها هيمنة مطلقة‏,‏ تسكت كل الأصوات ـ حتي المترددة ـ فإنهم لايدرون أن ذلك سيؤدي إلي النقيض‏,‏ حيث ستنفجر المنطقة كلها في وجوه الجميع‏,‏ دما ودمارا وإرهابا من نوع جديد ومفزع يعوم فوق موجات تيارات العنف والتطرف التي لابد ستحكم هي القبضة علي المنطقة التي تغلي بالتناقضات والصراعات المعلنة والخفية‏.‏(الأهرام المصرية)