توضع صحف الصباح على باب المنزل قبيل الثامنة. ونحن نقرأها هذه الايام في اطارها الملائم: سماء مكفهرة في الخارج ومطر ينقر الزجاج، رتيبا، ملحّا، ناقلاً قتامة الاشياء الى بؤس النفس. وقبل الصحف هذا الصباح (امس) سلمنا البريد كتاباً احمر الغلاف، يحمل نتائج مسابقات الفن التشكيلي في فلسطين التي تقدمها سنوياً "مؤسسة عبد المحسن القطان".
تزايد وقع المطر على الزجاج. وفي الخارج غيم شديد. وفي الداخل، في النفس، غيوم الخارج، الذي لا يضاء هذه الايام الا بالحرائق والصواريخ. وقبل ان ابدأ بقراءة الصحف، ادمان الحياة وعادة السنين، ابدأ في الاطلاع على هذا الكتاب الاحمر الغلاف، الحاوي من اللوحات اربعة انواع (النحت فن خامس) هي الصورة الفوتوغرافية، الرسم الحديث، "الكولاج" او اللصق، و"البورتريه"، او رسم الوجوه والاشخاص.
احبها الى نفسي، الصورة الفوتوغرافية، اذا توافر لها التميز الابداعي، و"البورتريه" (واعتذر عن المصطلح الاجنبي المتفق عليه في دنيا الرسم). وقد بدأت اولاً في استعراض اللوحات. ثم عدت مرة اخرى الى التفاصيل عن الفنانين انفسهم: جميعهم، الا واحداً (1969) من مواليد 1970 وما بعده، وصولاً الى 1976. وكل اللوحات، صورة ورسماً وتلصيقاً وتشكيلاً، لوحات حزن وبؤس وفقر.
ليس هناك قطعة واحدة عليها ابتسامة سوى ابتسامة تلك الصبية الجميلة التي ترتدي الزي الفلسطيني في المخيم. كل الصور الفوتوغرافية من المخيمات. كل لوحات "الكولاج"، كلها، كلها، لخريطة فلسطين، ممزقة هنا وملتصقة هناك. كل المجسمات لخريطة فلسطين، مقطعة، وعلىها اسماء المدن والبلدات والقرى. اما قطع النحت الوحيدة في الكتاب فهي لفنان من غزة، محمد الحواجرة، من مخيم جباليا. وهل هي منحوتات من الحجر او من الصلب؟ لا، انها من العظام.
محمد مسلم ايضاً من غزة، ريشة ماهرة في رسم البورتريه وفي مزج الالوان واختيارها: صورة لوجه رجل، قاسي الملامح. وصورة لرجل ينطوي على نفسه. وصورة لسيدة كئيبة الملامح، صامدة التعابير، شديدة النظرة. وعنوان اللوحات واحد: سجن! انه عالم غزة اليومي. الصور التي تطالعنا كل يوم ولم نعد ننتبه الى تعابيرها او نقرأ في ملامحها تلك الملحمة الصامتة التي لا نهاية لها.
جيل آخر لا يرى سوى البؤس. مواليد 1970 مثل مواليد 1948، لم يعرفوا سوى المخيمات والامهات الحزانى. واذ يعبر الفنان عن طاقته ومكنونه الابداعي لا يجد امامه صورة تطغى على تفجره سوى صورة البؤس: مخيم فوق الحجارة وخريطة يلصق ورقها الممزق من هنا وهناك. حتى السينمائيون الفلسطينيون لم يجدوا افقاً امامهم سوى صورة المخيم، تتكرر في حزنها كل يوم، كل عام، كل غروب، وقد قدم ميشال خليفي وعمر القطان للشاشة الملونة ارقى انواع النتاج السينمائي، ولكن من خلال موضوع واحد هو فلسطين، وصورة واحدة هي صورة ذلك البؤس المحزن، المقيم، الممتد على طول المخيمات، من صور الى غزة. مروراً ببيروت وطرابلس وعمان. وطن من الاكواخ والمخيمات. وشعب، عندما يخرج الى "رسم الطبيعة" لا يجد امامه سوى مخيمات ووجوه حزينة وام ملّت من الانتظار. وصبية جميلة (صورة لأحلام شبلي) تبتسم لعالمها: كوخ من التنك واوعية من البلاستيك وبساط صغير واطفال في اسمال.(الشرق الأوسط اللندنية)
&