تخطيء حكومة شارون خطأ فادحا لو أنها تصورت أن بإمكانها أن تنجز مهمة إخضاع وتركيع الشعب الفلسطيني ودفعه للقبول بشروطها المجحفة لإبرام تسوية غير عادلة وغير متكافئة تحت وهم الاعتقاد بأن أوضاع القوة التي تميل بشدة ناحية إسرائيل يمكن أن تجبر الفلسطينيين ـ في نهاية المطاف ـ لبلوغ مرحلة اليأس والاستسلام للمطالب والشروط الإسرائيلية‏..‏ ولعل دروس‏14‏ شهرا من الانتفاضة الفلسطينية تعكس إلي حد كبير مدي غباء سياسة شارون‏,‏ فكلما أفرط في استخدام القوة جاءه الرد عنيفا وقاسيا في شكل عمليات استشهادية‏..‏ وكلما أوغل في عنف الردود الانتقامية علي هذه العمليات كلما ازداد الإصرار الفلسطيني علي الرد والثأر‏!‏
‏***‏
أقول ذلك لأن أي قراءة صحيحة ومتأنية للغة الخطاب العام التي سادت إسرائيل عقب أحداث السبت والأحد الماضيين في القدس وحيفا تشير إلي أن الاتجاه السائد الآن يرقص علي نغمات أحاديث الحرب وأوهام القدرة المطلقة علي مواصلة طريق الانتقام والعقاب والثأر‏,‏ وكل ما في قاموس الصدام والكراهية من مفردات‏!‏
فهل يغيب عن شارون ومن يدفعون به نحو المجهول أنهم جربوا السير علي هذا الطريق سنوات وسنوات ولم يحصدوا شيئا سوي المزيد من الضحايا والمزيد من الدموع بمثل ما أنزلوه بالشعب الفلسطيني؟
باديء ذي بدء أقول إن حكومة شارون تؤكد بما قامت به وما تنتوي الإقدام عليه‏,‏ أنها مازالت بعيدة عن الفهم الصحيح لمتطلبات بناء سلام حقيقي يوفر لإسرائيل قبولا مشروعا وسط جيرانها بشكل عام وتعايشا آمنا مع الفلسطينيين في دولتهم المستقلة بشكل خاص‏.‏
إن إسرائيل تخطيء خطأ فادحا يضاف إلي مسلسل أخطائها التاريخية إذا تصورت أن منهج الإفراط في استخدام القوة ضد الشعب الفلسطيني يمكن أن يخيف أحد في شعب يشعر أنه لم يعد يملك شيئا يخشي ضياعه‏,‏ ومن ثم فإن السلوكيات الحمقاء لحكومة شارون لايمكن أن تفرز شيئا أكثر من زيادة الاعتقاد لدي العناصر المتشككة في عملية السلام بأن إسرائيل لم تتغير في نهجها أو معتقداتها أو استراتيجية عملها السياسية والعسكرية والإعلامية التي تخاصم روح السلام ومتطلبات التعايش وحسن الجوار‏!‏
لقد بات محتما علي إسرائيل أن تعيد حساباتها من جديد وأن تدرك أن أمنها وسلامها واستقرارها وشرعية وجودها لن تتحقق بقوة وحدات الأباتشي وطائرات إف‏16‏ التي توفر لها قدرة واسعة علي معاقبة الآخرين‏,‏ مثلما لن يتحقق لإسرائيل شيئ مما تحلم به تحت مظلة التصور الخاطيء بإمكان تحويل الأمر الواقع إلي مشروعية مقبولة توفر لها الحق في استلاب الأراضي وزرع المستوطنات واستقدام المهاجرين اليهود من شتي بقاع الأرض‏,‏ ثم تشريد السكان الفلسطينيين من ديارهم‏!‏
‏***‏
يخطيء شارون بالفعل إذا واصل الاعتقاد بأن أوضاع العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد هيأت لإسرائيل الفرصة التي تبحث عنها منذ سنوات لكي تعربد وتنفلت دون أن تجد من يكبح جماحها لأن هذا الانشغال الأمريكي والدولي بملاحقة الإرهاب لن يدون إلي الأبد‏,‏ فضلا عن أن محاولة إسرائيل خلط الأوراق وتصنيف فصائل المقاومة الفلسطينية علي لوائح الإرهاب الدولي لا تجد لها قبولا علي امتداد المجتمع الدولي باستثناء بعض العناصر المعروفة بتأييدها لإسرائيل في الكونجرس ووسائل الإعلام الأمريكية فقط‏!‏
والذي أقول به ليس نوعا من حماسة الخطاب ولا هو انعكاس لانحياز طبيعي تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني‏,‏ وإنما هو استشراف لاحتمالات مستقبلية مزعجة تبدو شواهدها ومعطياتها بوضوح علي امتداد الساحة الإسرائيلية في هذه اللحظات العصيبة‏.‏
ان من الواضح أن إسرائيل تعيش الآن أجواء من فوضي العجز والقصور عن رؤية الطريق الصحيح في ظل التصاعد العاصف بنبوءات الخوف وهواجس القلق من المستقبل المجهول والتي عبر عنها ـ بغباء ـ أرييل شارون بعد أحداث‏11‏ سبتمبر بالزعم بأن أمريكا تحاول استرضاء العرب والمسلمين علي حساب إسرائيل‏,‏ لضمان مشاركتهم في الحملة ضد الإرهاب‏,‏ وأن إسرائيل قد تتعرض لنفس الخطر الذي تعرضت له تشيكوسلوفاكيا عشية الحرب العالمية الثانية‏!‏
ثم إن هذه الأحاسيس المعبأة بالقلق قد تضاعفت في الشارع الإسرائيلي بعد أن بالغ اليمين الإسرائيلي المتطرف في تضخيم أبعاد وتداعيات العمليات الانتحارية لحركتي حماس والجهاد يومي السبت والأحد الماضيين في القدس وحيفا‏.‏
بوضوح شديد أقول إن ما يقال الآن في إسرائيل باسم حق الرد وحق الانتقام الذي وصل إلي حد المطالبة برأس عرفات ومن معه‏,‏ يمثل مؤشرا خطيرا يجدد المخاوف الفلسطينية والعربية حول مصداقية الفهم والالتزام الحقيقي بالسلام الحقيقي من جانب إسرائيل‏..‏ والرغبة في التعايش مع جيرانها العرب‏!‏
إن إسرائيل تخدع نفسها إذا هي تصورت أن أمنها واستقرارها يمكن أن يتحقق بسياسة ردع جديدة تعتمد فيها علي أدوات القوة وسياسات الإغلاق والإبعاد والحصار الجماعي‏,‏ لأن ذلك كله جربته إسرائيل لسنوات طويلة‏,‏ ولم يوفر لها حدودا آمنة مع الفلسطينيين الذين يتوارثون جيلا بعد جيل أحاسيس عميقة بالظلم واغتصاب الحقوق وتجاهل مقررات الشرعية الدولية‏.‏
‏***‏
إن الأزمة الحقيقية في إسرائيل ـ قبل وبعد العمليات الاستشهادية ـ أن تيارا واسعا عنده سدة الحكم يعيش حتي الآن وهم الاعتقاد بأن الأمن يمكن أن يتحقق لهم بينما هو غائب علي الجانب الآخر‏,‏ أو أن السلام يمكن أن يحل رغم الإصرار علي بقاء المستوطنات كنتوءات شوهاء في قلب الأرض الفلسطينية‏.‏
إن شارون ومن معه يخطئون خطأ بالغا في الحساب السياسي والاستراتيجي إذا تصوروا أن أحدا في العالم يمكن أن يقبل بمحاولتهم دفع الأمور إلي مسارات خطيرة لا تهدد مستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط فحسب‏,‏ وإنما تهدد حسابات ومعادلات دولية جديدة يجري الترتيب لها علي ضوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر‏.‏
وإذن ماذا؟
في اعتقادي أنه لا أمل ولا رجاء في حدوث أي تغيير جوهري في سياسة إسرائيل ما لم يشعر الإسرائيليون ـ كمجتمع ودولة ـ أن سياسة حكومة شارون يمكن أن تكلفهم الكثير وبما هو فوق طاقة الاحتمال‏!‏
ومعني ذلك أنه ينبغي لنا ألا نتوهم ـ للحظة ـ أن السياسة الإسرائيلية يمكن أن تتغير بين يوم وليلة‏,‏ إلا إذا شعرت إسرائيل بأنها تواجه خيارات صعبة وخطيرة لاترغمها فقط علي مراجعة نفسها‏,‏ وإنما علي ضرورة إعادة النظر في فلسفة وجودها وطبيعة علاقاتها الإقليمية والعالمية‏.‏
ولكن كيف تجيء هذه الخيارات الصعبة‏...‏ وهل هناك أي مؤشرات توحي بإمكان وجودها لدفع إسرائيل لإعادة مراجعة حساباتها؟
في الحقيقة أن هذه الخيارات ليست مستبعدة ـ وإن كانت ماتزال غائبة حتي الآن ـ وهو ما يستدعي أن تكون ضمن أجندة أي تحرك سياسي عربي في المرحلة المقبلة‏,‏ التي تبدو مرشحة لمتغيرات دولية عميقة ربما تفوق في حجمها ومردوداتها متغيرات مطلع التسعينيات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي‏!‏
وربما لهذا السبب يجيء اعتقادي حول ما ينبغي علينا ـ كعرب ـ أن نفعله من أجل أن نحول ثورة الغضب الأمريكية والعالمية الراهنة ضد الإرهاب إلي قوة دفع إيجابية تنتصر لسلام الشرق الأوسط كمدخل ضروري لمكافحة الإرهاب والتصدي بكل القوة والموضوعية لدعوات التحريض ـ التي تقف خلفها إسرائيل ـ والتي تستهدف إغراء أمريكا بتوسيع حملتها ضد الإرهاب لتشمل دولا عربية‏,‏ وأنه في حالة تعذر قيام أمريكا بذلك‏,‏ فإن عليها أن تعطي إسرائيل الضوء الأخضر لممارسة حقها في العقاب والانتقام باسم ضرورات تصفية بؤر الإرهاب وتأديب الأنظمة التي ترعاه بالتمويل أو الإيواء‏!‏
‏***‏
ثم أصل إلي قرب الختام في حديث قد يبدو عابرا بشأن أحداث عابرة‏,‏ لكنه في جوهره يمس صميم وجوهر مأزق عملية السلام‏.‏
أريد أن أقول بوضوح إن من الخطر الجسيم علي أمتنا وعلي مصالحها الحيوية وعلي خيار السلام الذي ارتضته لنفسها أن يبقي المسرح الدولي في هذه اللحظات الحرجة مقصورا علي إسرائيل التي تريد استثمار العمليات الاستشهادية في القدس وحيفا لمصلحة مخططها الرامي لوضع منظمات المقاومة الفلسطينية علي لائحة المنظمات الإرهابية التي ينبغي أن تكون هدفا للحملة الدولية الراهنة‏.‏
إن من الخطأ والخطر الجسيم أن يستسلم العرب لواقع مزمن استمر لعدة سنوات ليسمح لإسرائيل وحدها باحتكار مطلق لدور الملقن الذي يوجه دفة الأحداث وسيناريوهاتها فوق المسرح الدولي‏,‏ بشكل عام‏,‏ والمسرح الأمريكي بوجه خاص‏.‏
بل لعلي أكون أكثر وضوحا وأقول إنه مهما كان رأينا في اندفاع وخطأ وحماقة من أقدموا علي هذه العمليات الاستشهادية دون قراءة صحيحة للأجواء الدولية‏,‏ إلا أن ذلك لا يعفي إسرائيل من كامل المسئولية عن توفير الأسباب التي تبرر مثل هذه العمليات‏,‏ ثم لابد أن يجييء تعاملنا مع هذه الأحداث وتداعياتها المنتظرة في ظل إدراك لأننا نواجه نوعا جديدا من الحمي الإسرائيلية التي تسعي لافتراس الجسد الأمريكي ورفع درجة حرارته إلي قرب درجة الغليان الذي يشجع ويغري علي الحماقة مهما كان ثمنها باسم ضرورات مكافحة الإرهاب‏.‏
وهذا هو لب وجوهر التحدي أمام العرب والفلسطينيين في الأيام المقبلة‏!!‏(الأهرام المصرية)