لايشك أحد في أن القضية الفلسطينية منذ أصبحت في عداد قضايا المنطقة‏,‏ قد أصبحت من أهم شواغل العالم العربي‏,‏ وارتبط مصيره ونمط حياته بتطورات هذه القضية والأبعاد التي اكتسبتها‏,‏ بحيث يمكن القول إن تاريخ العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين هو نفسه تاريخ القضية الفلسطينية‏,‏ وإن الوجه الآخر لهذا التاريخ الأخير هو الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏.‏
اتسمت القضية الفلسطينية طوال تاريخها بالعديد من السمات‏,‏ أهمها أنها تشابكت بمختلف القضايا العربية تشابكا لا يقبل الفكاك‏,‏ كما أنها ارتبطت بشكل أو بآخر بمصائر ومقدرات دول معينة‏,‏ إنما الذي يهمنا من هذه السمات هو أن هذه القضية كانت موضوعا للمقايضة‏,‏ أو المساومة‏,‏ أو المتاجرة أحيانا‏,‏ وكان ذلك يعتمد دائما علي موضوع القضية‏.‏
فعندما كان موضوع القضية هو ضرورة وقف الهجرة اليهودية والثورة لتحقيق هذا الغرض كان سعي الغرب لتوسيط الحكام العرب لوقف الثورة مقابل وقف الهجرة التي كانت تزداد تدفقا مع كل التدخلات‏.‏
وعندما احتل العراق الكويت عام‏1990‏ دخلت القضية الفلسطينية في نفق جديد في سياق هذا التحليل‏,‏ وأصبحت موضوعا للمزايدة والمساومة‏.‏ ذلك أن العراق أوهم العالم العربي المتعطش إلي تقدم في حل القضية سلما أو حربا‏,‏ وإلي أي بطولة في مواجهة إسرائيل أن احتلال الكويت خطوة ضرورية لإعلان الزحف الأكبر لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني بعد أن خاض العراق موقعة القادسية ضد إيران‏.‏
وفي مرحلة تالية‏,‏ اشترط العراق ـ لكي ينسحب من الكويت ـ أن تنسحب إسرائيل من فلسطين‏,‏ ومن كل فلسطين إن أمكن‏.‏ وكان معني ذلك أنه مادامت إسرائيل لن تجلو عن الأراضي الفلسطينية المحتلة‏,‏ ناهيك عن الرحيل عن كل فلسطين‏,‏ فإن العراق سيبقي في الكويت ما بقيت إسرائيل في فلسطين‏,‏ مما يشير إلي نية العراق في البقاء الدائم‏,‏ وأن ربط الانسحاب من الكويت بانسحاب إسرائيل من فلسطين قصد به مداعبة الآمال العربية التي أحبطها أن تضاف الكويت إلي فلسطين في المأساة حتي لو كان المحتل عربيا يرفع شعار القومية والتقدم‏.‏
وفي حلقة ثالثة‏,‏ أدرك الرئيس جورج بوش الأب هذه اللعبة‏,‏ وان فلسطين هي كلمة السر وأن العرب يتلهفون علي أي تطور في هذه القضية المركزية‏.‏ ولذلك لعب الرئيس بوش لعبة بريطانيا في الحرب العالمية الأولي عندما طلبت بريطانيا من الشريف حسين أمير الحجاز أن يعلن الحرب علي تركيا وأن ينضم إلي صفوف الحلفاء إذا كان يطمح حقا في تحرير الجزيرة العربية‏,‏ وفي أن يكون أمير العرب‏.‏ وقد داعبه هذا الحلم طويلا طوال المحادثات الشهيرة بينه وبين ماك ماهون المعتمد السامي البريطاني في مصر في ذلك الوقت لأكثر من عامين كان الوعد البريطاني خلال هذه المحادثات أوضح وأقوي بكثير من وعد بلفور نفسه‏,‏ ولم يدر الأمير المخدوع أن بريطانيا ترتب لخلعه وإقصائه من منصبه‏.‏ وكانت النتيجة أن أعلن الشريف الحرب علي تركيا برغم كل المحاذير باعتبارها دولة إسلامية‏,‏ وأنه ينتمي بنسبه إلي آل البيت وأن الطابع الإسلامي في حكمه هو الأكثر ظهورا بوصفه حاكما للأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة‏.‏
وهكذا وعي بوش الأب الدرس ولم يقدر للعرب أن يعوا دلالاته‏,‏ عندما أعلن الرئيس بوش أن مكافأة الاشتراك في التحالف الدولي ضد العراق سوف تكون جاهزة بعد التحرير وهي جلب السلام إلي المنطقة دون أن يحدد نوع السلام المطلوب ودون أن يحدد أيضا الخطوط الأساسية التي تتحرك عليها المفاوضات‏.‏
وإذا كان البعض يري أن مؤتمر مدريد هو مكافأة بوش الأب علي اشتراك العرب جميعا تقريبا في التحالف ضد العراق‏,‏ فإننا نري أن هذا المؤتمر هو الحصاد المر للمعادلة المعقدة في عملية غزو وتحرير الكويت‏,‏ ولذلك فإن النتيجة المنطقية والتي تنسجم مع الكرامة العربية يجب أن تعاد صياغتها علي نحو يؤدي إلي القول بأن العالم العربي الذي استنكر الغزو وتمني علي العراق أن ينسحب سلما وجد من واجبه أن يكون في طليعة الحملة الدولية لتحرير العراق‏.‏ ومادام العالم العربي ليس الطرف الوحيد في التحالف‏,‏ فقد كان طبيعيا أن تضع الولايات المتحدة المزايا التي تراها مكافئة لقيادتها لهذا التحالف‏,‏ وهي مزايا تناقض بطبيعتها المصالح العربية‏.‏ ومؤدي ما تقدم أن العرب لم يشتركوا في التحالف الدولي ضد العراق فقط جريا وراء سراب السلام الذي لوحت به واشنطن في سماء الشرق الأوسط المظلمة حتي يمكن أن يشتركوا في التحالف مقابل السلام في فلسطين علي يد واشنطن‏,‏ وبحيث يكون هذا المقابل من واشنطن نفسها‏,‏ وإنما يجب أن يكون الإسهام العربي في التحالف مستهدفا تحرير الكويت ورد الطرف المعتدي‏.‏
أما الفصل الخامس من مأساة فلسطين‏,‏ فقد شاهدناه بمناسبة الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب وهو العنوان الذي أطلقته واشنطن علي التجريدة العسكرية الأمريكية ضد أفغانستان‏.‏ وفي هذا الفصل المأساوي بذاته تم الربط مرة أخري مع فلسطين‏.‏ فمن ناحية‏,‏ أقسم بن لادن أن الولايات المتحدة لن تنعم بالأمن مادام الأمن مفقودا في فلسطين‏.‏ ومن ناحية أخري‏,‏ ظهر اتجاه في الولايات المتحدة وبريطانيا بالتلويح بإمكانية إحلال السلام وإقامة دولة فلسطينية والعودة إلي مائدة المفاوضات‏.‏ وهذه المصطلحات الثلاثة في ظروف إبادة الشعب الفلسطيني تمثل طوق النجاة للفلسطينيين‏,‏ وللعالم العربي الذي يشعر بالحرج وهو يشهد أسوأ فصول الإبادة علي يد إسرائيل‏.‏ ولكن المشكلة أن الولايات المتحدة وبريطانيا‏,‏ وهم يدركان جيدا حاجة الفلسطينيين العرب إلي تحقيق هذه الآمال الثلاثة قد هدفت إلي أن يكون العرب صفا واحدا في الحملة الأمريكية علي أن يكون المقابل هو جلب السلام إلي فلسطين‏.‏ ولكن يبدو أن السلام علي النحو الذي يريده العرب لايزال بعيد المنال‏,‏ وأن علي العرب أن يقبلوا بأن اشتراكهم في الحملة الأمريكية التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل‏,‏ بل وتعرضهم إلي ضغوط شعوبهم لن تسفر عن قيام الدولة الفلسطينية أو عن استئناف عملية السلام علي النحو الذي يجعل شهداء الانتفاضة ورقة سياسية عندما تستأنف المفاوضات ويفوت علي إسرائيل فرصة استئناف المفاوضات عند نقطة تكون فيها قد أسكتت الصوت الفلسطيني وقضت علي جيل من رموزه وأطفأت جذوة الانتفاضة بأساليب عملية وليس بقرار من جانب السلطة الفلسطينية‏.‏ ومعني ذلك أن برنامج الإبادة الإسرائيلي سوف يمضي إلي غايته صوب الرهان الكبير الذي أطلقه شارون‏.‏
وعلي الجانب الآخر‏,‏ سوف تستمر التلميحات الأمريكية والبريطانية التي تتلاعب بآمال الفلسطينيين دون أن تتخذ شكل التدخل الحاسم لوقف الإبادة أولا ثم لبحث ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي لأن مفاوضات السلام في المرحلة المقبلة من الجانب الفلسطيني يجب أن يكون لها موضوع واحد هو توقيت هذه الترتيبات وليس الدخول في الجدل العقيم أو الأجندة الإسرائيلية التي سوف تفرضها بعد أن يكتمل برنامج الإبادة‏.‏
ويترتب علي ما تقدم أن البرنامج الإسرائيلي الذي يلقي تفهما من أمريكا وبريطانيا سوف يمضي في جانب‏,‏ بينما تمضي التصريحات الأمريكية والبريطانية المتقنة الصياغة في جانب آخر‏,‏ وهي تتضمن بطبيعة الحال مظاهر التفهم للإبادة الإسرائيلية والتجني علي الفلسطينيين‏.‏
صحيح أن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي في‏2001/11/20‏ تتضمن بعض العبارات التي تمني الفلسطينيون سماعها من واشنطن‏,‏ ولكن هذه العبارات جاءت في سياق رؤية وليس في سياق مبادرة متكاملة‏.‏
وأخيرا‏..‏ وحتي لا يظل العرب معلقين بآمال واهية تأتيهم من هنا وهناك‏,‏ فإن الحق أن السلام العادل الدائم لن يتحقق إلا إذا شعرت واشنطن ولندن أن برنامج شارون قد فشل‏,‏ وأن إرادة الشعب الفلسطيني أقوي من دباباته وطائراته‏,‏ وأن شهداء الانتفاضة هم وقود هذه الرسالة‏.‏
ويقتضي الإنصاف في الختام أن أقول إن إسرائيل قد تهيأت لها ظروف مثالية ولن تعتدل الكفة ما لم يكن العالم العربي جزءا من المعادلة‏,‏ وأن تقتنع إسرائيل بأن إبادة الشعب الفلسطيني ليست أمرا مستباحا بلا ثمن‏,‏ ولكن يبقي أن نقول إن تصميم الشعب الفلسطيني من خلال الانتفاضة برغم خسائره الفادحة والضائقة المحكمة التي فرضتها عليه إسرائيل سيظل تذكارا لإسرائيل بأنها دخيلة علي هذه المنطقة‏,‏ وأن أصحاب الحق هم الذين يدفنون في أرضهم لتنبت مكان أجسادهم أزهار الصبار رمزا لمحطة مهمة في تاريخ الصراع الممتد بين المغتصب وصاحب الحق‏.‏
ومع تقديرنا للتفسيرات المتباينة لـرؤية وزير الخارجية الأمريكي والتي تتجه عموما نحو تشجيع الولايات المتحدة علي مزيد من الاهتمام بالقضية ومحاولة تشجيعها علي التقدم ببرنامج شامل للتسوية دون التعرض لنقد هذه الرؤية‏,‏ بل إن هذه التفسيرات الرسمية قد افترضت أن عدم اكتراث إسرائيل بالموقف الأمريكي يعد رغبة منها في مناهضة السياسة الأمريكية مما يتعين علي العالم العربي أن يساند السياسة الأمريكية‏,‏ كما يساند الوقيعة بين واشنطن وتل أبيب‏.‏(الأهرام المصرية)