أدى الهجوم العسكري الاسرائيلي خلال الايام الاولى من الاسبوع المنصرم، وبعض الحوادث الدراماتيكية فيه، من نوع ضرب مقر اقامة الرئيس ياسر عرفات دون ان يكون القائد الفلسطيني موجودا داخله، الى قدر من التكهنات بلغت حد الخروج العام عن المسار الفعلي او ربما الادق القول "المسار الجوهري" لـ"ادارة" الولايات المتحدة الاميركية للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي.
فالضجيج الاعلامي الغربي والعالمي والعربي طبعا عن "اطلاق يد" اميركية لأرييل شارون بتصفية السلطة الوطنية الفلسطينية او تصفية رئيسها ياسر عرفات، كاد في لحظة "حبس الانفاس" التي تلت عمليات التفجير التي قتلت عشرات المدنيين الاسرائيليين اواخر الاسبوع المنصرم... كاد هذا الضجيج الاعلامي يتحول الى مشهد "خادع" في تبسيطيته ليس فقط لما آل اليه هذا الصراع المحوري في المنطقة، بل ايضا لمدى "تعقيد" ما آلت اليه الادارة الاميركية لهذا الصراع.
فبعد مجزرة نيويورك وواشنطن (وطائرة بنسلفانيا) في 11 ايلول تركز الجهد الديبلوماسي الاميركي الدقيق والمعلن على "احتواء" رئيس الوزراء أرييل شارون، وأحيانا على التصادم مع محاولته جر الولايات المتحدة الى موقف صدامي مع الفلسطينيين في ذروة الازمة الافغانية، اي في ذروة التحضير لشن الحرب.
مرارا بعث جورج بوش وكولن باول وديبلوماسيون في الخارجية بـ"رسائل" معلنة لأرييل شارون بعدم تبني واشنطن لـ"المقاربة" الشارونية لموضوع "الارهاب" اي اعتبار "الارهاب البن لادني" معادلا لـ"الارهاب الفلسطيني" وتحديدا العرفاتي. وحدها كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي أخذت في الاسابيع الاخيرة تتحدث بلهجة "تصعيدية" او تهديدية ضد الفلسطينيين (فضلا عن لبنان وسوريا) الا ان تصريحاتها بقيت في المستوى الفلسطيني أقل بكثير مما يريده اليمين الاسرائيلي.
لقد بدا ان "المناخ" السياسي الفلسطيني تلقف هذا "التفهم" الاميركي للموقع الفلسطيني في الوضع الدولي بعد 11 ايلول، بطريقة اعطى فيها لنفسه الضوء الاخضر بتصعيد العمليات التفجيرية داخل المدن الاسرائيلية وبعض مناطق الاستيطان. ولقد بدا ايضا رغم كثرة عدد القتلى الاسرائيليين بالمقارنة مع ما هو مألوف ان واشنطن كما العواصم الغربية ابقت ضغطها مركزا على أرييل شارون، وساعد على هذا "الاستيعاب" رغم احتجاجات "اللوبيات" اليهودية الاميركية والاوروبية ان هذه العمليات بدت في معظم الاحيان جزءا من مسلسل الرد والرد المضاد لعمليات قام بها الجيش الاسرائيلي، اغتيالا او تدميرا وقتلا في الوسط الفلسطيني.
العامل الذي غيّر اللهجة الغربية جديا، كما اتضح، كان عمليات نهاية الاسبوع المنصرم التي بدا الاميركيون والاوروبيون غير قادرين على "امتصاصها" دون ان تصبح مبررا شارونيا لـ"قلب الطاولة" في فلسطين الا باتخاذ موقف صارم في الضغط على ياسر عرفات مضت فترة طويلة لم يعهد مثله الزعيم الفلسطيني لدى اصدقائه الغربيين، وهم بالنتيجة الحلفاء الاستراتيجيون لـ"أمن" دولة اسرائيل مهما اختلفوا او تباينوا مع قادتها.
ولا شك ان الحساسية الاميركية ستظل عالية حيال أية ضربة تتلقاها اسرائيل مجتمعا او دولة. خصوصا في ظل ما يتيحه انتماء حركتي "حماس" و"الجهاد" الى "مناخ" التيارات الاصولية التي باتت عدوا "ايديولوجيا" وعسكريا للولايات المتحدة بعد 11 ايلول.
غير ان هذا الواقع ليس هو الوجه الوحيد لمسار معقد جدا، تتضافر فيه العوامل التاريخية والسياسية في نمط "الادارة" الاميركية الراهن للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي.
فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والحقيقة منذ أخذت الامبراطورية السوفياتية تبدو متهاوية على المسرح الدولي في نهاية الثمانينات، اي قبل سقوطها الرسمي في اوائل التسعينات، أخذت الولايات المتحدة تتصرف باعتبارها اصبحت المسؤولة الوحيدة فعليا عن الملف الفلسطيني.
لقد أدى اندلاع الانتفاضة الاولى الى اطلاق ديناميكية في الادارة الاميركية لهذا "الملف" الجديد الذي انتقلت من موقع محاربته الى موقع تبنيه. ووجدت هذه الديناميكية مجال التعبير عن نفسها في الفرصة التي وفرتها نتائج حرب الخليج الثانية حول الكويت. فاندفعت الادارة الاميركية في عملية سمّاها لاحقا جيمس بايكر، وزير خارجية تلك المرحلة "عملية خلق المفاوض الفلسطيني"... تطورت - ورغما عن الارادة الاسرائيلية الحاكمة آنذاك (اسحق شامير) - الى تمثيل سياسي فلسطيني مستقل اعتبارا من مؤتمر مدريد بعد عملية "تسلل" سياسي عبر "الوفد المشترك" الاردني الفلسطيني.
... وجاء اتفاق اوسلو، الذي تبين لاحقا ان اعتراضات اليمين الاسرائيلي عليه محقة بصفته يمثل اختراقا فلسطينيا لـ"الوضع" الاسرائيلي بعكس التحليلات السطحية - كما ثبت الآن - التي اعتبرته اختراقا اسرائيليا للوضع الفلسطيني. فلقد أدى هذا الاتفاق (اوسلو) الغامض والمليء بالتنازلات الفلسطينية الى انتقال كامل جسم حركة التحرير الوطني الفلسطينية الى أرض فلسطين، مفتتحا للمرة الاولى منذ عام 1948 خط الاياب الفلسطيني الى داخل الوطن بعد 45 عاما من خط... الخروج من الارض.
ها هم مقاتلو الفصائل الفلسطينية يخوضون معاركهم الآن قريبا من أسوار القدس التي يستطيع المقيم في رام الله ان يراها. وأرييل شارون هو من المدرسة الاسرائيلية التي تعتبر اتفاق اوسلو "كارثة" حلت باسرائيل نقلت الجسم القتالي الفلسطيني الى داخل فلسطين.
كان هذا مسارا... متدرجا نحو الدولة الفلسطينية، تعرف الولايات المتحدة انه الحقيقة السياسية التي اصبحت لا رجوع عنها منذ اعلان منطقة "الحكم الذاتي"... تتبنى هذا المسار الذي لم تكشف عنه صراحة الا بعد 11 ايلول.
لقد أثمر "الغموض البناء" (والتعبير ايضا لجيمس بايكر) بقيادة حركة نضالية فلسطينية عن هذا الوضع باعتباره "حقيقة دولية"، حتى لو كانت حدود الدولة لا تزال موضع صراع عنيف منذ "أوسلو"، وخصوصا في "كمب ديفيد - 2" التي تعتبر من هذا المنظور تقدما نحو الحصول على الاعتراف الاسرائيلي بدولة فلسطينية على قطاع غزة ومعظم الضفة عاصمتها القدس الشرقية بدون "الحي اليهودي". اي القدس بكامل مقدساتها الاسلامية (الاقصى) والمسيحية (القيامة).
السنوات الاخيرة، ومنذ أوسلو، هي في العمق سنوات المعالجة الدولية للرفض العميق داخل المجتمع الاسرائيلي لفكرة السلام وانهاء الاحتلال والاستيطان في الضفة والقطاع. صحيح ان هناك قوى اسرائيلية مع السلام ذات شأن، الا ان شرائح مهمة ونافذة في المجتمع الاسرائيلي لا تزال تقاوم... السلام. أتت مرة بنتنياهو ومرة اخرى بشارون وقبلهما "قتلت" او "سمحت" بقتل اسحق رابين.
اذن ما يحدث الآن من ضغط على الفلسطينيين لا ينبغي ان ينسينا ان جوهر الموضوع هو "تطويع" المجتمع الاسرائيلي داخل مشروع السلام. تطويع يقوم به "المجتمع الدولي". (النهار اللبنانية)
&