انتهت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بفورة نهاية الاسبوع الماضي من العمليات الانتحارية ضد اطفال اسرائيليين، وهي دلالة على ان الحركة الوطنية الفلسطينية استولت عليها البنلادنية (نسبة الى بن لادن)، التي تعني السعي العدمي وراء العنف المهلك ضد المدنيين بدون اي برنامج سياسي، وخارج اي سياق سياسي. واذا كان هناك من شيء بقي للحركة الوطنية الفلسطينية من اجل الاستقلال، فمن الافضل لها ان تتصرف الآن لانقاذ نفسها، والا فانها تتجه الى الكهف المظلم ذاته الذي اتجه اليه اسامة بن لادن.
كيف؟ في الواقع اعتقدت ان الانتفاضة الثانية كانت حماقة منذ البداية. لماذا؟ لانها جاءت في مواجهة العروض الاميركية والاسرائيلية البعيدة المدى حول اقامة دولة فلسطينية. وفي الوقت الذي ربما كانت فيه تلك العروض، بمنح الفلسطينيين ما يزيد على 90 في المائة من الضفة الغربية، وقطاع غزة، وجزءا من القدس الشرقية، غير كافية بالنسبة للفلسطينيين، فقد كانت عروضا جادة وملائمة. وكان رد الفعل الصائب هو عرض فلسطيني للشعب الاسرائيلي لاقناعه بالتخلي عن 100 في المائة وليس العنف المميت. وما يزال هذا صحيحا. وقبل اسبوعين اظهر استفتاء نموذجي ان ما يقرب من 60 في المائة من الاسرائيليين يفضلون قيام دولة فلسطينية، وهو رقم مذهل بعد عام من العنف. كما ان الرئيس بوش اقر مؤخرا، على نحو معلن، فكرة اقامة دولة فلسطينية.
وبكلمات اخرى فان الامر ليس كما لو ان الفلسطينيين قد جرى تجاهلهم وليس امامهم من بديل سوى العنف. فالاغلبية الصامتة في اسرائيل والاغلبية الصامتة في العالم كانت مستعدة لاتفاق جاد، ولو كان رئيس الوزراء ارييل شارون عرض السلام الفلسطيني، لكان قد ازيح جانبا، غير ان الفلسطينيين قدموا، بدلا من ذلك، عرضا انتحاريا. ولا يؤدي هذا العرض الا الى نتيجة واحدة هي ان اولوية الفلسطينيين لا تتمثل في تحقيق الدولة المستقلة. ومن الواضح ان هذه الاولوية تتمثل في قتل اليهود والانتقام من اغتيال اسرائيل لاحد قادة حماس ممن لم يكن قد اشتهر الا عبر تنظيم تفجيرات انتحارية سابقة.
وهكذا فان الانتفاضة الثانية، التي كان يفترض ان تكون انتفاضة لتحفيز اسرائيل على منح الفلسطينيين 100 في المائة من الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، قد تحولت الى بن لادن ثانٍ، الى محاولة فلسطينية لازالة 100 في المائة من اسرائيل. وهناك اصوات عربية واسلامية جديرة بالثقة تدرك ما ينطوي عليه هذا الموقف من تدمير ذاتي. خذوا، مثلا، صحيفة "جوردان تايمز" التي قالت في افتتاحية عدد الاثنين الماضي "هناك تعاطف متزايد على نطاق عالمي، بل ودعم قوي لكفاح الفلسطينيين المشروع من اجل الاستقلال والحرية.. غير ان اللجوء الى الهجمات الانتحارية التي استهدفت المدنيين بشكل رئيسي الحق الضرر بالقضية نفسها".
ويعرف الزعماء العرب هذا الامر ايضا، لكنهم لن يقولوا الحقيقة للفلسطينيين، وهو شيء محزن. ذلك انه اذا كان من المستحيل على الزعماء العرب والمسلمين ان يميزوا، بعد الآن، بين المقاومة الفلسطينية الموجهة الى اهداف عسكرية والمرتبطة بعرض سلام محدد، والارهاب الموجه الى قتل الاطفال بدون اعتبار لحظة سلام او بدائل سياسية، فانه لن يكون هناك، بمرور الزمن، خطاب اخلاقي ممكن بين اميركا والعرب. ويمكن للمرء ان يرى، الآن، بداية الانقسام، ارتباطا بدفاع البيت الابيض القاطع عن انتقام اسرائيل.
وشارون محق في توجيه رسالة الى العرب والعالم مفادها ان اسرائيل ستفعل كل ما في وسعها للدفاع عن نفسها. ولكنه سيرتكب خطأ فادحا اذا ما تخلص من ياسر عرفات، فتلك هي مهمة للفلسطينيين. ويجب على اسرائيل الا تستولي على حظهم، وعرفات وقيادته هي سوء الحظ هذا. فهم بحاجة الى ان يواجهوا ذلك بجرأة. وتتمثل وظيفة شارون في تبديد اية اوهام يمتلكونها حول ازالة اسرائيل، وايضاح انه اذا ما اختار الفلسطينيون زعامة اخرى، تتمتع بطريقة فهم ومعالجة مختلفة، فان اسرائيل ستوفر لهم سلاما عادلا ومشرفا.
وتحتاج الانظمة العربية المعتدلة، التي تواصل تأكيدها لاميركا بان اسرائيل هي المشكلة، ان تمد يد العون الآن، عبر تقديم الدعم للفلسطينيين وتأمين تسوية عادلة.
لقد قامت اميركا بابلاغ اسرائيل علنا بان عليها انهاء المستوطنات وانهاء الاحتلال والموافقة على اقامة دولة فلسطينية لانهاء النزاع. فمتى تقوم هذه الانظمة بابلاغ الفلسطينيين علنا بان وقتهم انتهى وان عليهم قبول دولة يهودية وانهاء النزاع؟ (متى سيقومون بابلاغ انفسهم؟)
واذا لم يفعلوا ذلك، واكتفوا بالقاء اللوم على اسرائيل بينما يجري اختطاف الحركة الوطنية الفلسطينية على يد حماس والجهاد الاسلامي ـ اللتين لا تريدان نهاية للصراع الا برحيل جميع اليهود ـ فان اميركا، بالتالي، ستتراجع، هي الاخرى، وببساطة تتبنى وجهة النظر القائلة ان الاحتلال الاسرائيلي هو مسألة دفاع عن النفس، وقد ينتصر البلد الاقوى.
* خدمة "نيويورك تايمز" ـ خاص بـ"الشرق الأوسط"
&