ثمة من يقول اليوم -وخاصة في عالمنا العربي الذي يهوى تفسير الاحداث وفق نظريات المؤامرة الي حد الغاء العقل والمنطق والشواهد- ان ما حصل مؤخرا في الفلبين لجهة تمرد زعيم مسلميها الاشهر نور ميسواري وعودته لحمل السلاح مجددا ضد السلطة المركزية في مانيلا له علاقة بالاندفاع الاميركي المحموم ضد الجماعات الاسلامية ويستشهد اصحاب هذا الاتجاه بالمساعدات العسكرية التي اغدقتها واشنطن مؤخرا علي مانيلا بقيمة 39 مليون دولار من اجل التصدي للاعمال الارهابية وذلك بمعني ان هذه المساعدات وغيرها قوت من شوكة الحكومة الفلبينية وجيشها الى الحد الذي جعلها تتراجع عن وعودها لمسلمي البلاد فما كان امام ميسواري سوى اللجوء مجددا الي خيار المقاومة.
وبطبيعة الحال فان قراءة الحدث بتلك الصورة فيها تسطيح للامور وتهميش لحقائق معروفة ولنبدأ من حكاية المساعدات العسكرية الاميركة التي يعرف القاصي والداني انها تستهدف تقوية الجيش الفلبيني في مواجهة جماعة ابي سياف التي لاتمثل الا نفسها ولايشرف اي مسلم ان يدافع عنها لانها ببساطة جماعة من قطاع الطرق تختفي وراء قضية عادلة من اجل الارتزاق فحسب وهذا رأي سجله ميسواري نفسه مرارا وتكرارا، ناهيك عن انه رأي غالبية المسلمين الفلبينيين في الجماعة الارهابية المذكورة ، اما القول بان ميسواري تمرد لما شعر بقرب وجود مخطط فلبيني للعودة الي سياسات الماضي التمييزية والقمعية ضد المسلمين فقول لاتنفيه فقط حكومة السيدة غلوريا ما كاباغال ارويو وانما تنفيه رموز اسلامية من داخل جبهة تحرير مورو الوطني،اضافة الي رموز الدول المجاورة كأندونيسيا وماليزيا اللتين لعبتا دورا مشكورا في انهاء الصراع المسلح وتوقيع اتفاقية السلام لعام 1996 بين ميسواري والرئيس الفلبيني الاسبق فيدل راموس .اذن اين تكمن الحقيقة؟
هنا لابد من الاقرار اولا ان ميسواري برز في السبعينات كزعيم وطني يحمل علي كتفيه قضية شعب مسلم مضطهد عاني كثيرا من الاهمال والتمييز الديني والعرقي علي يد الحكومات الفلبينية المتعاقبة ولا سيما حكومة الرئيس الاسبق فرديناند ماركوس الذي انسحب قمعه علي الجميع مسلمين ومسيحيين،وقاد ايمان ميسواري بعدالة قضية شعبه الي ترك عمله كمحاضر في الفلسفة بمعهد الدراسات الاسيوية التابع لجامعة الفلبين والهجرة الي ليبيا ليقود منها جبهة تحرير مورو الوطني مستهدفا اقامة وطن مستقل في جنوب الفلبين للمسلمين، ورغم ظهور جماعات نضالية اخري في فترة لاحقة تسعي الي الهدف ذاته وحدوث انشقاقات في صفوف جبهة مورو نفسها لاسباب قبلية وايديولوجية وسياسية الا ان ميسواري ظل رقما صعبا لايمكن تجاوزه ولولا ذلك لما عمدت مانيلا الي المراهنة عليه وحده لما شعرت باستحالة تحقيق نصر عسكري حاسم ضد الثوار المسلمين ومن جانبه توصل ميسواري من بعد سنوات طويلة من الكفاح المسلح الذي حصد ارواحا بريئة كثيرة واعاق عمليات التنمية وسرق احلام جيل بكامله في حياة امنة مستقرة دون ان يؤدي الي نتائج ملموسة علي الارض الا ان التطورات الدولية في مابعد حقبة الحرب الباردة وظهور النظام العالمي الجديد لم تعد تسمح بالمناورة واللعب علي المتناقضات العالمية وبالتالي عمد الي القاء السلاح والقبول بما عرضته عليه مانيلا ،وقتها قلنا وكتبنا ان ميسواري اقدم علي الخطوة الصحيحة في زمن لم تعد ظروفه تسمح بتحقيق المكاسب المطلقة وانما مكاسب نسبية يمكن ان يضاف اليها شيئا فشيئا بعدما يعود السلام وتتوطد الثقة.
وهكذا تحول ميسواري من مقاتل مطارد الي رئيس لسلطة الحكم الذاتي في جنوب الفلبين بصلاحيات ادارية ومالية واسعة وبدأت حقبة السلام والتنمية التي ووجهت باعاقه من قبل المتشددين من مؤيدي الحلول المطلقة مثلما يحدث في كل الصراعات وفي هذا السياق لم يظهر علي سطح الاحداث جماعة منشقة مثل ابي سياف فحسب وانما ظهرت جبهة تحرير جديدة اسبغت علي نفسها اسم مورو الاسلامية تميزا عن الجبهة الام وايضا غمزا من قناة ميسواري الذي لطالما شككوا في التزامه الديني عبر التذكير بماضيه اليساري ايام الدراسة الجامعية.
اما حصيلة ادارة ميسواري لسلطة الحكم الذاتي خلال الاعوام الخمسة الماضية فلم تكن مشجعة باعتراف مسلمي الجنوب الفلبيني انفسهم ولئن كان هذا في جزء منه يعود الي ضعف التدفقات المالية من السلطة المركزية في مانيلا بحسب انصار ميسواري فانه في الجزء الاعم راجع الي انصراف الرجل الي تعزيز نفوذه في مواجهة خصومه بدلا من الاهتمام بخلق ادارة حكومية متميزة وقادرة علي تلبية تطلعات شعبه في العدل والامن والشفافية،ومما يذكره سكان الجنوب الفلبيني ويردده ايضا ساسة ماليزيا المهتمين باوضاع هذه المنطقة ذات التأثيرات علي بلادهم المجاورة للارخبيل الفلبيني ان ميسواري طالب بالسلطة فلما منحت له لم يوظفها بكفاءة لخير مواطنيه وانما وظفها لخدمة اغراضه الشخصية وبدلا من ان يبقي متواصلا مع شعبه كان في اغلب الاوقات بعيدا عنه يتنقل في الدول المجاورة ويتمتع بخدمات فنادق الخمسة نجوم ويبدو ان ميسواري استشعر مخاطر خسارته للسلطة في اية انتخابات جديدة تجري في منطقته، خاصة بعدما صوت المجلس المركزي لجبهة تحرير مورو الوطني في نيسان- ابريل الماضي باختيار بروك حسين كزعيم جديد واقدام مانيلا علي تزكية هذا الاختيار فقرر رفض اجراء اية انتخابات جديدة حتي عام 2003 بل وكتب قبل اسابيع عدة من تاريخ تمرده واغارة قواته علي معسكرات الجيش الفلبيني في جزيرة خولو في 19 تشرين الثاني نوفمبر الماضي الي منظمة المؤتمر الاسلامي طالبا اياها بالتدخل لاقناع حكومة مانيلا بتأجيل الانتخابات المقررة في 26 من الشهر نفسه. وحينما لم يتلق ردا مناسبا لجأ الي التمرد الذي انتهي الي وقوعه اسيرا في ايدي السلطات الماليزية بعد يوم واحد من مطالبة مانيلا لجارتيها المسلمتين الاندونيسية والماليزية بمساعدتها في القبض علي الرجل.
ويتضح مما سبق ان ازمة ميسواري هي من ازمة رموز نضالية كثيرة في العالم الثالث ممن لايعترفون بأن نجاحهم في ميادين الكفاح والجهاد ليس شرطا لنجاحهم لاحقا في ميادين الحكم والادارة عندما يلقون السلاح كما وان ازمته من ناحية اخري تكمن في التعلق المستميت بالسلطة وعدم الاعتراف بالفشل حتي وان بدت النتيجة كارثية علي شعبه.
وبغض النظر عن المبررات التي يسوقها الرجل لاقناع الشارع الفلبيني المسلم بعمله الاخير مثل ان الجيش الفلبيني هو الذي بدأ المناوشة مع انصاره او ان مانيلا خرقت بعض بنود اتفاقية السلام لعام 1996- وهو كلام تنفيه الدول الراعية لتلك الاتفاقية- فانه مما لاشك فيه ان ميسواري اختار الوقت الخطأ لخطوته ففي زمن اصبحت فيه الدول المجاورة ودول منظمة المؤتمر الاسلامي حريصة علي الا ترتكب عملا يفسره الاخرون بدعم الارهاب وفي وقت تجري فيه مانيلا محادثات مع جبهة تحرير مورو الاسلامية لترغيبها في القاء السلاح لم يكن هناك من يلجأ اليه ميسواري طلبا لدعم توجهاته الجديدة سوي جماعة ابي سياف التي يقال انها هي التي سهلت طريقة هروبه الي الاراضي الماليزية.
وكيلا تطول اقامة ميسواري في المعتقل الماليزي او يهرب للاحتماء بجماعة ابي سياف او الجماعات الاصولية الحاكمة في ولايتي كيلانتان وترينغانو الماليزيتين فيتحول الي بن لادن اخر ويتحول مضيفوه الي حركة طالبان اخري- مع الفوارق الكثيرة بطبيعة الحال- فان علي حكومة مانيلا استعادته ليواجه التهم الموجهة اليه في محاكمة عادلة وعلنية. فهذا هو الاسلوب الاسلم لتبديد الشائعات ووضع النقاط فوق الحروف ومع ادعاءات البطولة الفارغة. (عن "الراية" القطرية)

باحث وخبير خليجي في الشؤون الاسيوية
e.mail:[email protected]
&