اشكر السيد عمرو موسي أمين عام جامعة الدول العربية دعوته لي لحضور جلسات اجتماع عقد في مقر جامعة الدول العربية علي مدي يومين‏,‏ مشحونين بالعمل‏,‏ موضوعه حوار الحضارات تواصل لاصراع واستسمح في تغييري لكلمة مؤتمر والذي ورد في الصياغة الرسمية‏,‏ واستبدالها بتعبير اجتماع لأنني آراه يعبر عن معني أدق وأشمل للحدث‏.‏
وأبدأ بالتحفظ المطلق علي تعبير صراع أو حتي حوار ومن ثم تواصل الحضارات‏,‏ لأن الحضارات في مفهومي لاتتصارع وإنما تتوالي وتندمج مع بعضها في اطار متناسق لينبثق عنها نسيج قائم بذاته يمثل حضارة جديدة‏.‏ فالحضارة الإسلامية علي سبيل المثال هي انجاز صنعه الإسلاف ومازالت موجودة في ضمير وقاموس الحضارات القائمة رغم أنها قد دخلت دفاتر التاريخ بعد أن عكست آثارها علي محيط العالم كله مشرقه ومغربه وشماله وجنوبه كرمز ومعني وثقافة وفن وشعر وأدب وتقدم وانجازات عادت بفوائدها علي الانسانية جمعاء‏,‏ ثم توالت بعدها حضارات شربت منها ارتوت من انجازاتها‏..‏ أما من يتحاورون الآن فهم السياسيون‏,‏ ومن تتصارع حاليا ـ وسابقا ـ هي الدول وجماعات المصالح‏...‏ ومن هنا فإن تقويمي لما يطلق عليه الآن صراع حضارات أنه تعبير أقحمه يهودي أمريكي يدعي صموئيل هانتنجتون وتبنته الخارجية الامريكية وانسقنا وراءه نحن الدول العربية والاسلامية‏,‏ ليتحول إلي شعار ظاهرة فلسفي وباطنه سياسي يهدف إلي اجهاض الدور السياسي المستقبلي للإسلام ـ وحاشا لله أن يتصور البعض أن ماأقصده هو اسلام بن لادن وقاعدته‏.‏ ولامراء في أن الاسلام كمعامل قوة يقلق الولايات المتحدة الامريكية‏,‏ خاصة بعد أن استطاعت أن تطوع دوائر التناقض العالمية لتحقيق هدفها الأوحد وهو إستمرار الولايات المتحدة كقطب أوحد لايدانيه ثان‏,‏ وبعد أن استرجعت كتب التاريخ القديم والوسيط لتتبين إنجازات الدولة الاسلامية التي توسعت في مشارق الأرض ومغاربها علي يد حفنة آمنت برساله الاسلام‏...‏ ومنها تركيا التي رفعت شعار الاسلام فتحولت إلي دولة عظمي بعد أن ضمت لنفوذها الدول الاسلامية الناطقه بالعربية‏...‏ كما وأنها لاتنسي كيف وسع محمد علي الكبير مملكته شمالا وجنوبا وشرقا وغربا حتي وصل إلي أبواب الاستانة ليهدد مصالح الدول العظمي آنذاك‏..‏ وأود أن أوضح أنني لاأستند هنا إلي معيار التفسير التاريخي للأحداث لأرجح أو أؤكد حتمية عودة الدولة الاسلامية بمفهومها القديم‏,‏ إلا أنني لاأستطيع أن اتجاهل حقيقة قائمة وهي بدء دخول الاسلام إلي معترك الحياة السياسية بعد أن تولي الحكم في ايران ثم أفغانستان ـ مع بعض التحفظ ـ أنظمة تحكم باسم الإسلام‏,‏ وتخطط لتسييس الإسلام بهدف تكوين دولة الإسلام الكبري‏...‏ من هنا فإنه لايمكن لأي مخطط استراتيجي أن يتجاهل الاسلام كعنصر استراتيجي مرجح في استشراف المستقبليات‏.‏ وأسمح لنفسي أن استأذن في التحفظ أيضا علي مصطلح الحضارة العربية وأفضل عليها تعبير النهضة العربية‏,‏ لأنه لم يكن هناك مايسمي الحضارة العربية بل الإسلامية‏.‏
ورغما عن سبق اختلافي مع موضوع الاجتماع‏,‏ فقد حرصت علي متابعة أعماله بالكامل رغم كثرة مشاغلي‏,‏ لاعتبارات رأيتها موضوعية وأوجزها فيما يلي‏:‏
‏*‏ أنه الاجتماع الاول الذي يقتصر الحضور فيها علي المثقفين العرب‏,‏ ويكون الهدف من حضورهم بحث أمور تتعلق بالوقع العربي في اطاره العالمي حتي ولو جاء تحت مسمي تبييض صورة الواقع العربي في الخارج كأساس‏.‏ ويزيد من أهمية هذا الاجتماع أنه قد جاء في ظروف غاية في الحساسية ـ بل الخطورة ـ لتلازمها مع تداعيات احداث‏11‏ سبتمبر‏2001‏ والتي نعتبره نقلة جوهرية في اطار موازين السياسة الدولية ـ وتلازم هذا الحدث مع الهجمة التي يتعرض لها ظلما مايطلق عليه زيفا الاسلام السياسي ـ والاسلام منه براء ـ في العالم الغربي‏,‏ وماعكسته هذه الهجمة من آثارها علي العرب بالتبعية في نطاق حملة دعائية مدروسة بدقة وبراعة وتمولها وتنظمها الصهيونية العالمية وتهدف للتربص بالعرب تحت غطاء الحملة الدولية لتصفية معاقل الارهاب‏,‏ لتدخل في حلبة الصراع مع الأسود الأمريكيين بعض من الدول العربية غير المنصاعة للخط الصهيوني ومخططاته المعروفة للخاصة والكافة‏...‏ وعليه فقد رأيت في هذا الاجتماع فرصة لانه يضع المثقفون العرب دولهم أمام مرآة الواقع ليري العامل العربي واقع الحال ويحدد مسئولياته علي ضوئه‏.‏
‏*‏ وزاد من سعادتي بعقد هذا الاجتماع أنني كنت ومازلت أعلق كل أملي علي دور المثقفين العرب لتصحيح المسار العربي‏,‏ فالسياسيون لهم مناحيهم التي تستند إلي اعتبارات الموازنة بين الوضع الداخلي والخارجي والدولي‏,‏ ومن ثم فإن سلطان حركتهم يكون دائما مقيدا باوضاع وعلاقات دولهم بالداخل والخارج وليس في نطاقها القومي العربي‏...‏ أما المثقفون فإن حدود حركتهم لاتخضع للمعايير السياسية الضيقة‏,‏ وإنما تنطلق لتعبر عن فكر الشارع العربي في اطار من المنطقية الفكرية‏...‏ وعليه فإن خطاب المثقفين العرب مجتمعين سوف يعتبر النور الكاشف لما ينبض به القلب العربي‏,‏ ومايسري في جهازه العصبي‏,‏ وما يسير في عموده الفقري من انفعالات انعكاسية ومشاعر كمرآة للواقع بدون تزيين أو مواربة سياسية‏...‏ فالمثقف مفكر ومعبر ودارس وكاشف ومحلل وراصد ومستكشف للمستقبل ومؤثر علي القرار السياسي العربي والدولي‏...‏ واستنادا لما سلف فقد اعتبرت ان دعوة الأمين العام للجامعة العربية للقاء المثقفين العرب هي تكريس عملي لاعطاء المثقف العربي دوره الواجد في هيكل صناعة الرأي في الوطن العربي‏.‏
‏*‏ وقد زاد من تشبثي بصدق منطقي‏,‏ ما علمته قبل حضور الإجتماعات أن مشاركة المثقفين العرب لن تتم علي أساس انتقاء سياسي وأنهم لن يضنفوا كوفود عن دولهم‏.‏ وزاد من قناعتي بصدق هذا الطرح ـ بعد حضوري‏.‏ الاجتماع ـ أن السيد عمرو موسي قد صاغ كلمته لتعبر عن آرائه كمثقف عربي في الاساس‏.‏ فضلا عن هذا ـ وتأكيدا لحيدة دور الامانة العامة للجامعة في إطار هذا الاجتماع ـ فإن اعضاءها لم يشاركوا في اعمال الاجتماع ـ رغم وجود كثرة منهم يمكنهم أن ينضموا باقتدار إلي قائمة المثقفين العرب ـ واقتصر دورها علي القيام بمهام ودور المنظم للاجتماع فحسب‏.‏
‏*‏ وتأصيلا علي ماسبق فقد أكبرت في السيد عمرو موسي ـ المعروف بتوجهاته العروبية القومية ـ اعطاءه المثقفين العرب هذه الفرصة ليشكلوا آلية يستند إليها كإحدي أدوات العمل الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي وغيرها وتسمي باللغة الإنجليزية
‏RAINSTORMINGGROUPS‏
ـ وقد أطلق علي هذا المصطلح الاجنبي بعض الحضور جماعات العصف العقلي أو العصف الذهني كترجمة حرفية للمصطلح‏,‏ وأفضل أن أطلق عليها تعبير جماعات شحذ الفكر العربي باعتبار هذه الترجمة تعد الاقرب في التعبير عن المقصد ـ وافسح المجال للمثقفين العرب ليمارسوا دورهم في إطار الجامعة العربية كأهل رأي تعطي المشورة للقادة العرب كنمط جديد لعمل جامعة الدول العربية‏.‏ كما قدرت في دعوة السيد عمرو موسي لهذا الاجتماع إبرازه لحقيقة كادت تتلاشي وهي أهمية تفعيل معامل الثقافة العربية ودعمها‏,‏ للتأصيل والحفاظ علي الهوية العربية‏,‏ وإدخال الثقافة العربية كعنصر اساسي في مضمون الخطاب السياسي العربي الخارجي‏.‏ وكنت متفائلا إذ اعتبرت أن المثقفين العرب سوف يلاقون هذا التحرك بممارسة دورهم كمثقفين عرب وليسوا كسياسيين‏...‏ فمعون المثقف العربي أوسع من إناء السياسي‏,‏ لأن المثقف لايعبر عن مواقف حكوماته‏,‏ وإنما يعكس فكره الذاتي النابع من ثقافة عالية ومتابعة واعية لمجريات الأحداث‏.‏
‏*‏ وقد تحفظ البعض قبل بدء الاجتماع علي قصر الحضور علي المثقفين العرب ورأوا وجوبية دعوة بعض من غير العرب الذين يمثلون الثقافات ـ والحضارات الأخري ـ حتي يكون هذا الاجتماع نواة لحوار حقيقي بين الحضارات‏,‏ إلا أنني كنت ومازالت أميل إلي سلامة القرار الخاص الذي اتخذ بقصر حضور هذا اللقاء والحوار علي العرب كنقطة بداية‏,‏ ليمكن توحيد الرؤية العربية للواقع‏...‏ ولقد اكتشفت من خلال حضوري لهذا الاجتماع أن الهوة التي تفصل بين مواقف المثقفين العرب أوسع من تلك الفوارق التي يتحدث عنها صاموئيل هانتنجتون كأساس لتصارع الحضارات المختلفة‏!!!‏
‏*‏ وتمنيت ـ إلا أنني حمدت الله بعد ذلك علي أنه لم يحدث ـ أن تكون اجتماعات هذه الندوة علنية‏,‏ لتكون أول بوق عربي يتحدث بلسان المثقفين العرب ويعكس فكرهم لينذر بالخطر المحدق القادم‏,‏ وليعطي الدلالات بقرب هبوب العاصفة التي قد بدئ بالفعل الشعور ببوادرها والتي ستطال العالم العربي وموقعه الراهن من ناحية‏,‏ ولكي توضح أمام الرأي العام العالمي بجلاء نهج تفكير المثقفين العرب في اطار الأزمة والذي يعكس حالة الغليان التي يحتويها الوعاء العربي‏.‏ كما توقعت ـ ولعلي كنت متفائلا ـ أن ينأي مثقفو لغة الضاد عن استخدام العبارات والفذلكات اللفظية‏,‏ ويتناولوا صلب المواقف بوضوح وقوة‏...‏ فما أحوج العالم العربي الآن لمثقفيه ليؤازروا مواقفه التي تختزلها سياسات الدول العربية‏..‏ وعليه فقد كنت أتوقع صدور بيان قوي يعبر عن الموقف الشعبي وليس الرسمي‏,‏ ليعكس حالة الفوران التي يعيشها العالم العربي من جراء مواقف الصهيونية ومن يؤيدونها والمناوئة للمصالح العربية الاستراتيجية‏...‏ واعتبرت أن موضوع تواصل الحضارات هو محور يمكن للمثقفين العرب أن يفرعوا منه عشرات المحاور المكملة له‏...‏ ولعلي كما ذكرت كنت متفائلا اكثر من اللازم‏.‏
‏*‏ وكم كنت أتمني أن يتحقق في هذا الاجتماع حلما طالما راودني وهو حضور اجتماع عربي داخل ارواقة جامعة الدول العربية يبعد عن صورة الاجتماعات التقليدية التي حضرتها ضمن الوفد المصري عندما كنت أعمل كدبلوماسي بوزارة الخارجية‏,‏ والتي كانت تدور وتنتهي حول حرفية صياغة قرارات عربية تدرس كمثال في فن صياغة القرارات من الناحية اللغوية‏,‏ ثم تنتهي إلي ملفات جامعة الدول العربية والدول الاعضاء فيها قبل ان يجف مدادها‏,‏ واتذكر كم عانت قرارات عادية من حالة ولادة متعثرة لقرارات استلزمت تدخل وزراء الخارجية وكم تدخل الرؤساء لاخراج قرارات من غرفة الانعاش وكم توقفت قرارات لساعات لسبب شولة أو حرف توكيد أو حرف عطف وخلافه‏.‏
وكان أملي أن يخرج المثقفون العرب بخطاب قوي يخاطب الرأي العام العالمي بجرأة وشجاعة ويعبر بالفعل عن الغضبة العربية والاستياء العربي من الهجمة التي يرتدي فيها المغرضون ثوب محاربة الارهاب الدولي لينهالوا بصفعاتهم ومعاولهم علي صروح وشعوب بعض الدول العربية‏...‏ إلا أنه ليس كل مايتمناه المرء يدركه‏...‏ وللحديث بقية في المقال المقبل‏.‏(الأهرام المصرية)