باريس ـ من سامي نزيه: من المتعارف عليه في علم الحروب، هو ان "المناورات" تسبق السلاح الحي، فمسؤولو الدفاع يلجأون عادة الى وضع خطط كثيرة لحروب محتملة، ويدربون رجالهم على طبيعة اراضي العدو "المفترض"، ويرصدون كل الاحتمالات العسكرية وامكانات المباغتة ونقاط الضعف والقوة,
وبهذا المعنى يمكن ان تشكل افغانستان، "المناورة" الوحيدة بالاسلحة الحية وبالعدو الحقيقي لما يمكن ان يحدث لاحقا، في بلد آخر كمثل العراق، تماما كما ان ما يحدث في فلسطين حاليا من حرب اسرائيلية شرسة يشكل رصدا حقيقيا، لما يمكن ان تكون عليه ردة فعل الشارع العربي,
ففي افغانستان، تم تبرير الحرب الاميركية بمبررات لها علاقة مباشرة بالارهاب، حيث ان العدو الواضح كان اسامة بن لادن، الذي اتهم بانه قام باعتداءات كثيرة على الولايات المتحدة (من تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام الى تفخيخ المدمرة "كول" امام سواحل عدن وصولا الى اعتداءات 11 سبتمبر), وقدمت الولايات المتحدة دلائل على ذلك لحلفائها، من دون ان يكون بن لادن نفسه تبنى مرة واحدة وفي شكل مباشر هذه الاعتداءات، وانما باركها.
وحين تفرغ الاجهزة الاميركية من هذه الحرب قليلا، سوف يصار الى البحث وعلى نحو دقيق جدا عن دلائل على "خطورة" النظام العراقي، الذي حتى ولو انه ليس مرتبطا مباشرة بالاعتداءات، الا ان ثمة "جبلا من الدلائل" التي يمكن ان تورطه وفق ما قال السناتور البارز جيسي هيلمز اخيرا,
وفي افغانستان كان ثمة حكم "مركزي" تقوده حركة "طالبان"، مكروه تماما من الاطراف الاخرى خصوصا في شمال البلاد، تماما كما هو الحال في العراق، حيث ان لا الاكراد غفروا للنظام قمعه لهم، ولا شيعة الجنوب غافرون, لكن المشكلة كانت في افغانستان تماما كما هي في العراق، اي ان تلك الاطراف كانت عاجزة عن التحرك عسكريا صوب المركز لعدم توفر الدعم اللوجستي لها, وقد حلت المشكلة وانتهى كل نظام "طالبان" بنحو الشهرين, ومن غير المنتظر مطلقا ان يكون صدام حسين قادرا على ضمان "التفاف شعبي" حول نظامه في خلال فترة قصيرة بعد تاريخ طويل من القمع والتنكيل,
اذا ثمة معركة غير معلنة، تنتظر مبرراتها، وهي ستأتي عاجلا ام آجلا، لان كل الظروف مؤهلة لذلك ولا سيما اذا ما تذكرنا بان صورة جورج بوش الاب لا تزال امام فندق الرشيد في بغداد كـ "ممسحة ارجل" للداخلين والخارجين اليه ومنه، وان في الكونغرس الاميركي ضغط هائل على بوش الابن لاستكمال ما بدأه الاب,
اما غربيا، فان اللافت منذ حرب "عاصفة الصحراء"، ان لا احد يدافع اصلا عن النظام العراقي، وانما ثمة قلق على وحدة العراق لو حصلت اية ضربة عسكرية تسقط نظامه, وفي هذا السياق يصبح المثال الافغاني مهما بحيث ان دولة كانت اكثر تفتيتا من العراق وتضم عشرات الاثنيات المتصارعة عرفت كيف تصنع لها حكما حين تدخل المجتمع الدولي بقوة لذلك,
يبقى الجانب العربي، وما يحكى عن امكانية غضبة الشارع وانطلاق التظاهرات عارمة وسقوط انظمة وما الى ذلك من كلام اقل ما يقال فيه انه "بريء", فلو ان هذا الشارع مؤهل فعلا للتحرك، لكان تحرك ضد اسرائيل وحربها الراهنة، وضد الدعم الاميركي الواضح لها، لكن الواقع هو مغاير تماما,
والواقع ان "تورط" واشنطن المباشر بهذه الحرب الاسرائيلية ضد حركات اسلامية متهمة بـ "الارهاب"، رغم ان شعبها والعالم العربي لا يننظر اليها كذلك، جعلها "باروميترا" لرصد ردة فعل الشارع العربي, والفارق كبير جدا بين نظرة هذا الشارع الى "حماس" و"الجهاد" كتنظيمين "مقاومين" ضد احتلال، وبين نظام عراق، اجتاح دولة شقيقة وليس له في اذهاب العرب اي صورة ولا حتى ذكرى جميلة,
ان الصورة تبدو من الخارج واضحة تماما، فكل شيء يكاد يكون جاهزا لاسقاط النظام العراقي، لكن السؤال يبقى اولا واخيرا متعلقا بالولايات المتحدة، فهل باتت فعلا جاهزة لاستكمال ما بدأته في مطلع التسعينات؟ وهل ان سياسة "الاحتواء المزدوج" سقطت بعدما ضربت رياح المتغييرات ايران وساهمت في جعل تركيا عنصرا اساسيا داعما في مجال مكافحة الارهاب؟ وهل ان ما سبق حرب افغانستان من تسويات روسية ـ اميركية سيعدل الدعم الروسي للعراق؟
الاكيد ان واشنطن تعد ملفا ضخما ضد العراق، وانها ستجعل ورقة ضربه جاهزة في اية لحظة، وسوف يؤمن لها صدام ما تعجز عنه من مبررات، لكن غير الاكيد هو حجم المصالح التي يراد لها ان تقوم بعد صدام, وهنا سيكون للعلاقات الاميركية ـ الخليجية ـ المصرية ـ الاردنية (وربما السورية ايضا) مجال كبير للمناورة.(الرأي العام الكويتية)