في اللحظة ذاتها غمز شاب ثان يقف علي مقربة، لآخر كأنه يؤكد علي انتهاء العملية بنجاح ، واتجه كل منهما الي ناحية، وقفز الدكتور هاشم من السيارة هاتفا: امسكوا هذا المجنون! بينما كان الأستاذ يتألم بصوت خفيض!
كان هذا هو السيناريو النهائي الذي وضعه ونفذه مجموعة من الشباب الذين ينتمون إلي الجماعات الاسلامية المتطرفة لاغتيال محفوظ في بداية التسعينيات وهو سيناريو كان يمكن أن يتم قبل هذه اللحظة أكثر من مرة، فالتحقيقات التي أجرتها النيابة فيما بعد أثبتت أن هؤلاء كان لديهم إصرار غير عادي علي تنفيذ عمليتهم لدرجة دعتهم لمراقبة محفوظ لمدة شهرين كاملين ومحاولة قتله أكثر من مرة!
قبل هذه المحاولة بأيام ارتدى أحدهم ملابس خليجية واتجه مع آخر إلي بيته ومعه "بوكيه" ورد وعلبة شيكولاته وكانت النية مبيتة لقتله هذه المرة داخل المنزل غير أن زوجته أخبرتهما أن الأستاذ غير موجود الآن وإذا أرادا أن يقابلاه فعليهما الذهاب الى ندوته بكازينو قصر النيل في الغد.. لكنهما اعتذرا بحجة انهما مسافران في وقت مبكر، وعادا ادراجهما ليخبرا بقية زملائهما بفشل محاولة الاغتيال الأولى!!
توقيت الحادث بعد حصول محفوظ علي نوبل بسنوات قليلة يطرح سؤالا كبيرا عن مدى مساهمة هذه الجائزة في محاولة الاغتيال.. خاصة أن رواية "اولاد حارتنا" التي اتخذوها حجة اساسية لما قاموا به كتبت قبل خمس وعشرين عاما!
كما يطرح سؤالا آخر عن مصير أعماله في حالة عدم حصوله عليها!
الإجابة عن السؤالين تكشف بصدق أن هذه الجائزة كانت أشبه بمفترق الطرق بالنسبة إلي محفوظ، وأحد أهم المنعطفات في حياته..
حصوله عليها أعاد تسليط الضوء مرة آخري علي عدد من مؤلفاته القديمة 'أبرزها' أولاد حارتنا التي أثارت وقت نشرها سلسلة بجريدة الأهرام جدلا شديدا بسبب اتهام البعض لها بأنها تسخر من الأديان والأنبياء بشكل دعا الزعيم جمال عبدالناصر لأن يصدر قرارا بإيقاف نشرها!
وهو الأمر الذي حدث بالفعل حينما قرر أفراد من الجماعات الإسلامية داخل مصر ربط الماضي بالحاضر والعودة مرة أخرى الي الحديث عن تكفير صاحب الرواية! لكن يبدو أن فكرة التكفير لم تكن هدفا في حد ذاتها بقدر ما كانت هناك رغبة في إحداث فرقعة اعلامية ضخمة بنجاح مخططهم باغتيال محفوظ الذي كانوا يعتبرونه رمزا للكتاب المصريين..
هكذا قرر "محمد" المتهم الأول في القضية أمام النيابة أنهم اختاروا محفوظ لأنه 'بعد حصوله علي جائزة نوبل أصبح رمزا للكتاب، ولأن تنفيذ العملية فيه سوف يكون له تأثيره علي بقية الكتاب و"يلموا لسانهم" ولايسلكون نفس سلوكه .
كما أكد "عمرو" المتهم الثالث: لقد عرفنا ان الشخص الذي سنقتله هو نجيب محفوظ، ونحن نعرف أنه مرتد، وحينما نقوم بأمر مثل هذا، نطبق حدود الله، وتحدث بلبلة في البلد، والحكومة تشعر أنه لايوجد قائد يحكم الأعضاء الموجودين خارج السجن، فيبدأون في التفاوض معهم، ويفرجون عنهم حتي يبدأوا في السيطرة علينا، نحن الموجودين في الخارج !!
***
العلاقة بين حصوله علي نوبل ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها بعيدا عن منفذي المخطط أكدها لنا عدد من الروائيين المصريين..
بهاء طاهر أشار إلي أن من حاولوا اغتيال محفوظ كانوا يقصدون أحداث فرقعة اعلامية الهدف منها إثارة عدد من الاسئلة! لماذا يتم اغتياله؟! ولماذا لم يكن هناك كتïاب آخرون خلافه؟! والأجابة عن مثل هذه الاسئلة يمكنها أن توصل الأفكار التي يحاول أن يطبقها هؤلاء ويفرضونها علي المجتمع! المعني السابق أكده أيضا إبراهيم أصلان حيث رأي أن حصوله علي الجائزة أسهم في إحساس أعضاء الجماعات المتطرفة بأنه صادر أكثر حضورا علي المستوي العالمي..
هذا الأمر ـ كما وصفه أصلان ـ جعلهم يشعرون أيضاً أن قتله سوف يترتب عليه مردود ضخم للغاية، وضجيج هائل يمكنه ان يكسبوا من خلاله موقعة في معاركهم ضد الفكر والمجتمع!
إدوارد الخراط اتفق ايضا مع الرأيين السابقين حيث أكد قائلا: 'بعد حصول محفوط علي جائزة نوبل، أخذت الجهات الظلامية والرجعية تتربص به وتتخذ منه رمزا لما يناصبونه العداء مما يتصورون أنه مناهض لاتجاهاتهم الظلامية والمتخلفة، وليس أدل علي ذلك من أن المجرم طعن محفوظ طعننا جميعا ، لم يكن يعرف شيئا ولم يقرأ كلمة مما كتبه محفوظ !
اشارة الخراط الأخيرة إلي عدم إلمامهم بما يكتبه تؤكد بشكل قاطع أن منفذي المخطط كان هدفهم أحداث فرقعة بأي شكل واختيار محفوظ كان سببه الرئيسي الشهرة العالمية التي يتمتع بها وإلا فما سبب سكوتهم طوال السنوات الماضية علي صدور رواية "أولاد حارتنا" التي اتخذوها ستارا وحجة لتكفيره..
لم يقرأ
المثير للدهشة أنهم قد اعترفوا بذلك في تحقيقات النيابة حيث سأل المحقق المتهم الأول هل قرأت "أولاد حارتنا"! وكان اجابته : لا لم اقرأها.. لقد بحثت عنها في المكتبات فلم أجدها!
عاد المحقق ليسأله، كيف علمت اذن انها تضمن الموضوعات التي ذكرتها!! كان قد أكد في بداية التحقيق ان الرواية تحوي سبا في الذات الإلهية والرسول صلي الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين فعاد ليجيب: الأخ "باسم" هو الذي قال لي ذلك.. كما ان عامة الناس يقولون ذلك!
سأله المحقق مرة أخري: وهل قرأت أية مؤلفات لنجيب محفوظ؟
فأجاب، لا.. لم أقرأ له أية مؤلفات.. لكن شاهدت من أعماله الثلاثية.. وكانت كلها عبارة عن فسق وفجور!
أغرب ما جاء في التحقيق إجابة المتهم عن سؤال المحقق! مولفات محفوظ أصدرها منذ عشرات السنوات.. فلماذا حكمتم عليه بهذا الحكم؟!
كانت إجابة المتهم بالنص؟ 'والله كنت صغيرا وليس من مسئوليتي أن مؤلفاته كتبت منذ فترة طويلة'!!
الكاتب الصحفي محمود صلاح أكد في كتابه، أولاد شارعنا.. ملف محاولة الاغتيال' إنه اذا كان هذا المتهم لم يقرأ أية رواية لمحفوظ فإن متهما آخر وافق علي الاشتراك في قتله دون حتي أن يعرف اسمه أو من يكون!
وهذه حقيقة كما يذهب صلاح كشفت عنها تحقيقات النيابة مع المتهمين في المحاولة، وهي حقيقة تستدعي التوقف عندها، وتؤكد أن هؤلاء كانوا يريدون القيام بعمل عنيف بغض النظر عمن يوجهون هذا العمل العدواني ضده، مادام ذلك يتفق مع أفكارهم ومعتقداتهم، وطالما أنه يحقق لهم ما يريدون!
الفكرة تلخصت فقط في أذهانهم، أن هذا أديب كبير، حصل علي جائزة عالمية، أعماله تدعو للفسق رغم أنهم لم يقرأوها قتله سيحدث دويا هائلا سيربك الحكومة والمجتمع والمثقفين، وربما سيتجاوز الدوي الأوساط المصرية والعربية إلي العالمية بما يعني أن كلمتهم ستكون مسموعة جدا بشكل يرسخ في الأذهان أنهم أصبحوا أكثر قوة وحضورا وفعالية!!
محفوظ نفسه قال صراحة في تحقيقات النيابة 'لا أصدق أن رواية "أولاد حارتنا" التي قمت بتأليفها عام 59 وتم نشرها ثم منعت في مصر لمجرد أنني حصلت علي جائزة عالمية أفاجأ بكل هذه المصائب بسببها'!!
***
السؤال الآخر الذي يظل عالقا بالأذهان عند الحديث عن محفوظ وجائزة نوبل هو؟ ما مصير أعماله لو لم يكن قد حصل عليها؟!
بهاء طاهر أشار انه كتب مقالا لتهنئة محفوظ بنوبل ذكر فيه أنه شرف الجائزة وليس العكس..
بعد ذلك أكد قائلا: 'أعمالا بغض النظر عن هذه الجائزة كانت لها مكانتها وانتشارها علي مستوي الوطن العربي، أعتقد أنها كانت ستشق طريقها إلي العام، ربما ببطء، لكننا بكل تأكيد نذكر أن عددا كبيرا من هذه الأعمال قد ترجم الي لغات أوروبية قبل حصوله علي نوبل، ومع هذا علينا أن نعترف أن الحصول عليها يساعد علي الانتشار في البلدان التي لاينتمي اليها الأديب لاسيما الأوروبية، حيث تحظي هذه الجائزة رغم كل ما يوجه إليها من انتقادات باهتمام الجمهور القاريء، والأوساط الأدبية جميعا، ولهذا أعتقد أن نوبل ربما تكون قد ساعدتا علي انتشاره في أوروبا، لكنني أشدد من جديد علي أن مكانته في مصر والوطن العربي كانت مؤكدة من قبل نوبل ومن بعدها'.
حديث ابراهيم أصلان وادوار الخراط بدأ أشبه بامتداد للسابق، فقد أكد الأول علي أن أعمال محفوظ كانت ستظل تتمتع بتقديرها القديم في مصر والوطن العربي لو لم يحصل محفوظ علي نوبل، لكنه اشار أيضا أنه يعترف بأن الجائزة كان لها مردودها الضخم في ترجمة أعماله والإقبال عليها وهو ما أسهم في تداوله بالأوساط الثقافية العالمية..
وأشار الثاني الي أن الجائزة نبهت القاريء الأوروبي والأميركي إلي وجود الأدب العربي وبدأ الباحثون الغربيون يولون عناية خاصة به ..
لكنه يشدد في النهاية إلي أن العمل الجيد سوف يبقي ويجتذب إليه عناية الباحثين والدارسين والمتلقين بشكل عام سواء حصل علي جوائز أم لا بما يعني أن أعمال محفوظ كانت ستحتفظ بأهميتها أيضا لو لم يحصل علي نوبل .
عن "أخبار الأدب" المصرية