بيروت ـ من ليندا عازار: في 7 أغسطس 2001 اوقف رئيس مصلحة الطلاب في "القوات اللبنانية" سلمان سماحة والمسؤول "القواتي" في منطقة بشري المحامي إيلي كيروز، في غمرة العاصفة الأمنية ــ السياسية التي "هبّت" على لبنان على تخوم الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير للشوف، وبرزت معها ملامح تآلف بين قطبي المعارضة، "سيد بكركي" والتيار السيادي الذي يقوده تحت شعار "استعادة الاستقلال والقرار الحرّ" ووضع حد لـ "الوصاية" السورية على لبنان، وبين الزعيم الدرزي النائب وليد جنبلاط الذي يخوض مواجهة شرسة مع الرئيس اميل لحود تحت عنوان التصدي لـ "المشروع الأمني".
توقيف كيروز وسماحة، جاء في إطار ما وصف بأنه عملية "ارتداد امني" نفذتها السلطة لاعادة تصويب المسار السياسي واستعادة المبادرة، رداً على ما اعتبر محاولة لتطويق لحود، بعد بروز اصطفاف ماروني ـ درزي ـ سني (عبر رئيس الحكومة رفيق الحريري الحليف الرئيسي لجنبلاط)، ما استدعى الضرب بـ "يد من حديد" على قاعدة ان "الأمر لي"، فكانت توقيفات طاولت مئات العونيين والقواتيين وفي مقدّمهم المستشار السياسي السابق لقائد "القوات" توفيق هندي والمنسق العام لـ "التيار الوطني الحر" المؤيد للعماد ميشال عون، اللواء نديم لطيف (تمت تخليته لاحقاً بكفالة مالية مع غالبية الموقوفين)،
اما تخليتهما بكفالات مالية في 30 نوفمبر الفائت، فتفيّأت مناخ الانفراج الذي ساد خط بكركي ـ بعبدا على خلفية المواقف التي أطلقها صفير في جولته في اميركا اللاتينية لجهة وجوب التمييز بين المقاومة والإرهاب، ما قطع الطريق على أي محاولة لاستغلال احداث 11 سبتمبر لسحب "المظلة" الوطنية عن "حزب الله"، خصوصاً في ضوء تحفظ المعارضة عن جدوى استمرار عمله في الجنوب بعد الانسحاب الإسرائيلي.
وبين استحقاقي التوقيف والتخلية التي تمت بناء على وساطة مباشرة قام بها "صفير" عبر الاب الروحي "لقاء قرنة شهوان" (الذي يعتبر بمثابة "المكتب السياسي" لصفير)، المطران يوسف بشارة لدى لحود، تحقيقات بدأت على خلفية اطلاق شعارات تمس بدولة شقيقة والإساءة إلى مقام رئاسة الجمهورية، وبدأت تكبر كـ "كرة الثلج" إلى ان استقرت على اتهامات بالاتصال بالعدو الإسرائيلي وتعكير صلات لبنان بدولة شقيقة وتأليف جمعية (القوات) بقصد النيل من هيبة الدولة اللبنانية وسلطتها والتي شكلت ركيزة القرار الظني الذي صدر (الأربعاء الفائت) بعد تخلية سماحة وكيروز، في حق كل من الإعلامي انطوان باسيل والمسؤول القواتي غسان توما والدكتور هندي، المتهم بلقائه مسؤولين إسرائيليين بينهم اوري لوبراني (منسق الأنشطة الإسرائيلية في جنوب لبنان) ومستشاره اوديد زاراي.
وبصرف النظر عن المغازي السياسية لصدور القرار الاتهامي الذي طلب عقوبة مشددة لهندي، عضو "لقاء قرنة شهوان" تصل إلى الإعدام، فإن تخلية كيروز وسماحة (طلب لهما القرار الظني السجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات بجرم عدم انباء السلطة بجناية علما بها) أي باللقاءات التي اجراها المستشار السياسي لقائد "القوات" بإسرائيليين، احتلت حيزا واسعاً من الاهتمام في بيروت، واعادت هذا الملف الذي لا يزال مدار "شد حبال" بين السلطة والمعارضة إلى الواجهة، بعدما اخذ استراحة قسرية فرضتها احداث 11 سبتمبر التي دخل معها لبنان "غيبوبة" سياسية.
ماذا يقول المخلي سبيلهما عن ظروف توقيفهما ومراحل التحقيق معهما؟ "الرأي العام" التقتهما وكانت لقاءات كشفا خلالها "محطات قاسية"، تخللها "تعذيب جسدي من ضرب وفسخ وصفع"، لم يتوان كيروز عن ذكر تفاصيله، و"أنين" لا يزال دويّه يتردد في أعماق سماحة "لايلي الذي كان يصرخ من شدة تعذيبه".
وكشف الخارجان إلى الحرية حال هندي الذي واجهاه (كل على حدة) "وبدا شبه ميت ومضطرب وغير متماسك"، وتحدثا عن "هذه التجربة المؤلمة" التي "زادتنا تمسُّكا بالقضية".

سماحة: وجدتُ هندي شبه ميت لا حياة في وجهه أو عينيه أنين رفيقي من شدة التعذيب خرق أعماقي ولن أنساه
كلّ شيء في منزل سماحة يوحي بأنه يعيش "عرس الحرية", من "رائحة" الفرح التي تفارق باقات الورد ما أن يطلّ زائر، فتتسلّل عبر الباب الرئيسي لترحّب به، إلى "أجراس العيد" التي تُقرع في أرجاء البيت مضرمة السعادة مجدّداً في نفوس عائلة "نكّست" عيون أفرادها الأمل على مدى نحو اربعة اشهر و"ارتدت" ضحكاتهم,,, ثوب الحداد.
بابتسامة تزّين وجهها الذي استعاد إشراقه بعدما أطلّ فلذة كبدها مجدداً على الحرية، تستقبلنا والدة سماحة التي "طلّقت" الحقد الذي "كبّل" قلبها منذ توقيف نجلها "وتحرّرتُ منه ما أن فُكّت أغلال سلمان".
وبين عجقة المهنئين بعودة "الرئيس" (في اشارة إلى سلمان) الذين لم ينفكّوا يتقاطرون إلى منزله، منذ دقّت "ساعة الحرية"، يطالعنا سلمان متسلّحاً بهاتف خليوي لا يزال يعزف "نشيد الفرح".
وقبل أن يعرض ظروف توقيفه والتحقيق معه، يحرص وهو ينظر إلى باقة ورد أرسلت باسم قائد "القوات" الدكتور سمير جعجع على تأكيد "ان هذه التجربة زرعت فيّ نعمة المسامحة والغفران و"قطفتُ" منها قوة ودفعاً زاداني إيماناً بالقضية التي قدّمت آلاف الشهداء ومئات المعاقين، وقائداً مسجوناً منذ أكثر من سبعة أعوام".
فصول التحقيق بـ "أشواكها"
ويستعيد فصول حكاية التوقيف بـ "أشواكها"، منذ "سلّمتُ نفسي للقوى الأمنية امام مركز مصلحة الطلاب في انطلياس، الذي دهِم الثلاثاء 7 اغسطس، لأكون إلى جانب رفاقي"، مروراً بـ "أوّل مركز للتحقيق تابع لمديرية المخابرات في الجيش اللبناني قرب وزارة الدفاع حيث أمضينا الليلة الأولى في ظروف لا تُطاق، إذ كانت الرطوبة مرتفعة جداً وعجزنا عن التنفس بسهولة، قبل أن نُنقل بعد يومين إلى مركز اقرب إلى الوزارة هو عبارة عن هنغار كبير تم فيه تجميع كل الموقوفين وفتْح ملفات لنا في إطار تحقيق سريع"، وصولاً إلى "نقلي الجمعة مع دفعة من الموقوفين إلى وزارة الدفاع التي سبق أن تم اقتيادي اليها مرتين".
أربعة أيام كان "عمر" مرحلة التحقيق الأولى في "الوزارة" تخللها اضراب عن الطعام نفّذه سماحة في "حركة اعتراضية" على تأخّر انطلاق التحقيقات اكثر من 24 ساعة "وكنا نفترش الأرض في ممرّ معصوبي العيون ومكبّلي الأيدي".
ويروي: "مساء السبت أقلع قطار التحقيق (وكنت طواله معصوب العينين) الذي استمر طوال يوم الأحد على يد احد عناصر المخابرات، من دون ان تتركز الأسئلة على موضوع معيّن أو تتم إثارة قضية إسرائيل (لقاءات مع اسرائيليين)، بل كانوا يريدون معرفة إذا كنا في دير القمر، علماً ان طلاب القوات لم يشاركوا في استقبال غبطة البطريرك (الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير) في الدير",
واضاف: "وفي هذه المرحلة بدا ان التحقيق كان مجرّد محاولة لإيصال الرسائل السياسية إلينا اكثر منه محاولة للحصول على معلومات، إذ برز انزعاجهم من تحرّكنا (السيادي) الذي اعتبروه موّجهاً ضد الرئيس (إميل) لحود شخصياً، وحاولوا إفهامنا إننا نُدفع إلى هذا التحرك، وأن (رئيس الحكومة) رفيق الحريري و(النائب) وليد جنبلاط يحاولان استخدامنا لتقوية مواقعهما في مواجهة الرئيس لحود, ولم يتوانوا عن اتهامنا بالمس بالقضاء والإساءة اليه عبر مطالبتنا بالإفراج عن "الحكيم" (اللقب الذي يطلقة "القواتيون" على جعجع) والكلام على براءته, كذلك برز استياؤهم من وقوفنا في وجه محاولة فؤاد مالك (رئيس الهيئة الإدارية في "القوات") تغيير الخطاب السياسي للقوات وإفراغه من مضمونه".
وينهي سماحة الحلقة الأولى في مسلسل التحقيقات حليق الرأس "بعدما تعرّضتُ لعملية تأديب على خلفية إضرابي عن الطعام وقولي لأحد الحراس انني اشعر بأنكم تسجنونني مكان الدكتور جعجع"، ليُنقل إلى مقر الشرطة العسكرية (قصر نورا) "حيث امضينا اربعة ايام في نظارات لا تليق بالبشر، تخللها استجوابنا (في المحكمة العسكرية) من قاضي التحقيق عبد الله الحاج الذي أوحى بأن ثمة دوافع خارجية لتحّركنا من دون ان يطرح أي سؤال حول إسرائيل, وانتهت جلسة الاستجواب بإصدار مذكرة توقيف في حقي، سنداً إلى المادة 288 من قانون العقوبات وتوابعها".
"تعذيب إيلي" وصرخة الألم
من "قصر نورا" كانت لسلمان "محطة خاطفة" في سجن رومية "استمرّت دقائق نُقِلتُ بعدها مجدداً إلى وزارة الدفاع وعرفتُ ان ايلي (كيروز) هنا، لتبدأ المرحلة الثانية من التحقيق التي اتسمت بتصاعد حدة الضغط وتركزت على سؤال من قال لك هندي، انه قابل عندما سافر إلى باريس؟ وأوحوا انه التقى إسرائيلياً في 1995 وأطلعني وكيروز على الأمر, وطبعاً كنت انكر فيخرجوني ويدخلوا إيلي الذي لمحته عبر العصبة التي لم تكن مربوطة بإحكام ممدداً في الممرّ مع آخرين لا أعرفهم".
وبعد ليل أمضاه سماحة جالساً على كرسي، "عاودوا التحقيق مع إيلي ومعي لكن في وتيرة أقسى وأكثر تقارباً ما جعلني أشعر بأن ثمة حاجة لإنهاء الملف, ولم ينجح تمسّكي بأقوالي في إقناعهم بأنني لا أعرف شيئاً عن الموضوع، أو بأن يواجهوني مع الدكتور هندي لأدرك إذا كانوا يحاولون الإيقاع بي أو بإيلي أو توفيق".
وبصوت مرتبك ويدين ترتجفان يضيف: "بعد ظهر اليوم نفسه دقّت ساعة الحسم وأطلِق تعبير، لك العظم ولنا اللحم، ايذاناً بإعطاء الضوء الأخضر لاستخدام العنف معنا, وما أن أُخرجت من غرفة التحقيق حتى وضعت قرب مكتب معيّن حيث فتح الباب, وبعد ثوان سمعت أنيناً وصوتاً مخيفاً لإنسان يصرخ من شدة المه, وتعرّفتُ إلى صوت إيلي، وأدركت أنهم يعلّقونه علماً انه يعاني أوجاعاً في الظهر (,,, وبعينين مغرورقتين بالدموع) لا ازال اذكر هذا الصوت الصارخ من شدة التعذيب الذي خرق اعماقي ولن انساه ما حييت".
يتابع: "عقب هذه الجولة من الإيذاء الجسدي، عاودوا التحقيق معي ظناً منهم انني قد أغيّر أقوالي بعدما شهدت تعذيب إيلي, إلا أنه لم يكن لدي شيء جديد أضيفه, وعندها شعروا بأن ساعة الصفر لإجراء المواجهة مع الدكتور هندي حلّت".
هندي "شبه الميت"
",,, شبه ميت، لا حياة في وجهه أو عينيه"، هكذا يصف سلمان، هندي الذي قابله في احدى الغرف و"كان يجلس على كرسي في حال اضطراب، وبدا في الكلمات المعدودة التي قالها لي (تحفظ عن ذكرها مراعاة لمسار المحاكمات) كأنه يتوسّل ان ادلي بما يساعدنا على الخروج من المكان".
وقبل ان تسدل الستارة على مرحلة التحقيقات "يصدر القاضي الحاج مذكرة توقيف ثانية في حقي، بتهمة كتم معلومات وتأليف جمعية أشرار بهدف النيل من الدولة والأبرياء، بعد استجواب تخلله سؤال سريع أجبتُ عليه بالنفي وتمحور حول اذا كان دكتور هندي اخبرني انه قابل إسرائيليين، في حين برز تشديد على انه كان مطلوب منا تعكير الأجواء في لبنان لتخفيف الضغط عن إسرائيل وإيجاد إرباكات للسلطة لإحراج سورية، الأمر الذي نفيته في شكل قاطع",
رومية,,, البيت الجديد
في سجن رومية، حيث وضع كل من هندي وحبيب يونس وانطوان باسيل وكيروز وسماحة في مباني منفصلة، كان الأخير على موعد مع تجربة جديدة "فقيادة السجن تعاطت معنا بطريقة انسانية جداً، في حين عبّر السجناء منذ وصولي عن تضامنهم معي، اذ كانوا سمعوا ما حصل معنا عبر وسائل الإعلام".
ولايخفي "الرئيس" أنه عاش في الأسبوعين الأولين "بأنانية، اذ انعزلتُ عن سائر السجناء ولم أهتمّ إلا بممارسة الرياضة وقراءة الكتب الفلسفية أو التي تروي حكايا اشخاص عانوا تجربة الأسر وبينها كتاب ماليكا أوفقير "السجينة" قبل أن ادرك وجوب إضفاء معنى على وجودي بين السجناء الذين يعيشون حال بؤس حقيقية وأقف على معاناتهم ومشاكلهم".
وفي "بيته الجديد" نسج سماحة علاقة مع الجمعيات الإنسانية العاملة في سجن رومية "في محاولة لتحسين اوضاع السجناء ومساعدتهم".
وعلى قاعدة "تعلّموا الإنكليزية حتى في السجن"، تحوّل سماحة استاذاً لـ "لغة شكسبير" وانضم إلى صفه الذي التأم ثلاث مرات، كانت آخرها عشية تخليته، 30 تلميذاً "سأشتاق إليهم".
اكثر ما كان يؤلمه، "اللقاءات المؤثرة مع اهلي الذين كانوا يزورونني ثلاث مرات في الأسبوع، والدموع تملأ عيونهم وعينيّ اللتين كانتا في كل مرة "ترقصا" فرحاً لرؤيتهم، وحزنا لفراقهم وللألم الذي يعيشونه".
"مشوار الحرية"
على ان "لغة الدموع" كُتب لها في النهاية أن تجفّ على "حبر" تخلية "لم نكن نتوقعها", ويروي "كنت بدأت اضع اهلي في جو انني سأمضي عيدي الميلاد ورأس السنة في السجن، لكن مع عودة البطريرك صفير إلى لبنان (من جولة في اميركا الجنوبية) واستيعابه الاحتقان الذي شهده الشارع عشية ذكرى الاستقلال على خلفية دخول حرم كلية الهندسة في الجامعة اليسوعية، شعرنا بأن هذا الأمر قد يفيد قضيتنا".
يضيف: "الأحد (25 نوفمبر) قابل ذوونا (أهل سماحة وكيروز وهندي) غبطة البطريرك، والثلاثاء قصد المطران يوسف بشارة (رئيس "لقاء قرنة شهوان") الرئيس لحود، قبل ان يطلب (بشارة) الأربعاء، إبلاغنا أن نتقدم بطلبات تخلية سبيل وِّقعت بسرعة، فتم نقلنا إلى المحكمة العسكرية ليبدأ بعدها مشوار الحرية".
أما "باكورة" الزيارات التي قام بها سماحة فكانت لـِ "سيد بكركي" الذي "اضطلع بوساطة تجاوب معها رئيس الجمهورية، وطويت معها صفحة أتمنى ان تشمل الدكتور هندي، وزخرت بعبَر ستترك بصمات مهمة على حياتي وخصوصاً لجهة وجوب نبذ الحقد لأنه لا يدّمر إلا صاحبه".
وبصوت واثق يؤكد: "خرجت من هذه التجربة اكثر قوّة وصلابة وتمسّكاً بالقضية، وأكثر تشبثاً
بالإنسان وحقوقه، وإن كان في لبنان لا يزال يحاسب على رأيه وفكره السياسي، ويُطعن في كرامته".

كيروز: تخليتنا في إطار الحوار بين صفير ولحود فسخوني وضربوني وشعرت بأنني أقل من حشرة
",,, دقّ، دقّ" فيردّ الصدى حاملاً معه ضحكات أولاد "يغرّدون" فرحاً وتحلّق سعادتهم على "أجنحة" قهقهات تختزل ألف شوق وشوق.
وما أن يُفتح الباب، حتى يطالعنا ثلاثة صبيان يفترشون الأرض ويتحلّقون حول والدهم يتبادلون معه نكاتاً وطرائف "صفّقت" لها الرياح العاصفة في الخارج، واستوقفت "الجنرال مطر" الذي "تمرّدت" بعض زخّاته واستراحت على شبّاك المنزل كأنها تسترق النظر إلى المشهد العائلي,,, الدافئ.
,,, "يبدو أنكِ صحافية, أرجوك أخبري قصة والدي وكيف أخذوه وكبّلوه على مرأى منا, قولي لهم أن يكفّوا عن معاملته أو معاملتنا بطريقة سيئة كأننا زعران",,, نداء أطلقه شربل ابن الـ 13 عاماً الذي شهد مع شقيقيه توقيف أبيهم، حتى انهم اقتيدوا معه إلى أول مركز توقيف.
على مدى نحو أربعة أشهر، لم يفارق مارون (14 عاماً) وشربل وكرم (11عاماً) مشهد والدهم مكبّل اليدين ويتم سوقه أمام عيونهم إلى "المجهول", والعناق الطويل بعد طول غياب لم ينسِهم الخوف والمرارة الكبيرين اللذين سكنا قلوبهم الصغيرة، التي كانت لا تزال في ذلك اليوم "شاخصة" على "ساعات اللهو والمرح الرائعة التي أمضيناها في مجمّع الرمال البحري".
ولعلّ هذا أكثر ما يحزّ في نفس المحامي إيلي كيروز، الذي سبق أن اقتيد مرّات عدّة للتحقيق معه "لكن هذه المرة كانت الأقسى والأكثر إيلاماً لِما انطوت عليه من فصول التعذيب والمعاناة".
ويستعيد شريط توقيفه "كنتُ اصطحب اولادي من الرمال، فإذا بحاجز المخابرات (التابعة للجيش اللبناني) يستوقفني على طريق يسوع الملك, ولم يحل إبرازي بطاقة انتسابي إلى نقابة المحامين، عدم حمل العناصر استنابة أو مذكرة قضائية، دون الإصرار على توقيفي, وبعدما طلبت ان يسمح لي بأن أوصل الأولاد إلى المنزل ثم أذهب معهم أينما شاؤوا، رفضوا وتم سوقي في احدى سياراتهم إلى ثكنة صربا، فيما اقتيد اولادي إلى المكان نفسه في سيارتي التي تولى احد العناصر قيادتها, وفي صربا امضيت نحو ربع ساعة قبل ان يكبّلوني على مرأى من اولادي وينقلوني إلى مبنى فوج المكافحة التابع لمديرية المخابرات، حيث قضيت ليلة في زنزانة تشهد اكتظاظاً خانقاً ورطوبة مرتفعة جداً، ما يجعل إمكان النوم مستحيلاً, وفي اليوم التالي اقتدت إلى مديرية المخابرات في وزارة الدفاع حيث امضيتُ يومين".
المحطة الأولى
المحطة الأولى في الوزارة لم يتخلّلها عنف جسدي "بل جو ترهيب زاد من وطأته أنني كنتُ طوال الوقت معصوب العينين ومكبّل اليدين تارة إلى الأمام وطوراً إلى الوراء، وكنت مجبراً على الجلوس على الأرض او الوقوف، من دون ان اتمكن من التمييز بين الليل والنهار, واحياناً كنت اقف ساعات حتى ارتجف كالورقة وتتلاشى قواي".
خلال هذه المرحلة "لم يتركّز التحقيق من الضباط اللبنانيين على موضوع معّين، ولم اعرف التهمة الموجّهة إليّ، ولم يطلعني أحد على وقائعها الحسّية والمادية, وفي النهاية اكرهوني على توقيع محضر لم يسمحوا لي بالاطلاع على مضمونه".
وبعد اليرزة، كان الموعد مع المحكمة العسكرية "التي نقلت إليها ليلاً مع نحو تسعة من القواتيين والعونيين وغالبيتهم محامون، وأُدخلنا مباشرة قاعة المحكمة حيث أوحت الأجواء بان هيئة المحكمة توشك ان تلتئم لتصدر حكمها قبل بزوغ الفجر, لكن يبدو ان شيئاً ما حصل، وثم وضعنا في نظارة المحكمة التي كانت مكتظة وحارّة, وصباحاً مثلت أمام القاضي (التحقيق العسكري) عبد الله الحاج ولم يكن الموضوع الأساسي للتحقيق نص المادة 288 من قانون العقوبات، ولم يتخلّله أي سؤال حول اللقاءات المفترضة للدكتور هندي مع إسرائيليين".
مشوار "الفسخ والضرب"
ومن المحكمة العسكرية كانت محطة سجن رومية "حيث استقبلنا في شكل جيّد وبرز تعاطف معنا، وتم تأمين كل حاجاتنا", لكن هذه المرحلة لم تستمر سوى بضعة أيام، قطعها في 14 أغسطس نقل كيروز مجدداً إلى وزارة الدفاع لينطلق "مشوار العذاب"، على حد تعبيره.
"المحطة الثانية في الوزارة كانت أقسى من سابقتها بكثير, وإلى جانب تكبيل اليدين وعصب اليدين والساعات الطويلة التي امضيتها وقوفاً أو جلوساً على الأرض التي عانقتها مراراً كالبزاقة، تعرضت لتعذيب جسدي",
ويروي كيروز ويداه ترتجفان: "ضُربت وصفعت وحاولوا ان يفسخوني بشدّ إحدى رجلي من عناصر عسكرية في اتجاه، فيما تشد اخرى رجلي الثانية في الاتجاه المعاكس، من دون اغفال سيل التهديدات بالإساءة إلى زوجتي وأولادي وشقيقي، والتلويح بان الملف الذي ترسله المديرية إلى المحكمة العسكرية مُنزل, أما العنف المعنوي والنفسي فحدِّث ولا حرج، من جعل المرء يشعر بأنه أقلّ من حشرة وبالتالي لا حقوق له أو كرامة أو ضمانات، إلى جو الحقد والكراهية الذي يعمّمونه ولا يوحي إطلاقاً اننا في كنف جهاز تابع لدولة يفترض أن ترعى كل اللبنانيين وتكون لهم الأب الصالح".
هندي "المضطرب"
سؤالان ركّز عليهما المحققون في هذه المرحلة وهما: "ماذا اخبرك توفيق هندي عن اتصالاته بالإسرائيليين؟ ومن كان معك من المسؤولين القواتيين ويعرف في شأن هذا الحديث؟"، لكنّ تمسُّك كيروز بأقواله لجهة عدم معرفته بهذه القضية، دفع في اتجاه مواجهته بالمستشار السابق لقائد "القوات".
وفي حين رفض كيروز التطرق إلى تفاصيل المواجهة، لم يتردّد لدى سؤالنا عن حال هندي في القول "انه بدا في حال غير طبيعية، مضطرباً وغير متماسك، بمعنى انه لا يتمالك نفسه", وهل بدت عليه ملامح أي تعذيب جسدي؟ يقول: "لا" ومع قفل "الفصل الأسود" كما يسمّيه كيروز في "الوزارة" والذي استمرّ ثمانية أيام تفتح صفحة "رومية"، حيث وصل وكان في استقباله سلمان سماحة,,, وبعينين دامعتين لم تخفِ النظارات شدّة تأثرهما، يستعيد "العناق الطويل مع صديقي سلمان الذي انفجر بالبكاء, في البداية لم أعرف السبب، ولاحقاً علمتُ أنهم كانوا يتعمّدون إسماعه صراخي من شدة تعذيبي".
أكثر من ثلاثة أشهر قضاها كيروز في "رومية"، محاولاً، أن يغني "كتاب سجني" بقراءات فلسفية ووجوديّة لباولو كويلو أو ماليكا اوفقير"السجينة"
ــ والقضبان الحديد لم تمنع المحامي الأربعيني من تتبّع "نجمة مصيري, وانا اعتبر انني ادفع مع رفاقي ثمن خيار وقضية قررنا التزامها والتمسّك بها".
اللقاءات مع العائلة (كان يرى اولاده مرة كل 15 يوماً) "كانت مزيجاً من الفرح والحزن، من الغصّات المسيّجة بضحكات محتها مرّات عدة الدموع التي كانت تنهمر عند اول عناق لأحد أولادي".
",,, تحلّوا بالقوّة وحافظوا على رباطة جأشكم"، هكذا خاطب كيروز اولاده في رسالتين "شرحتُ فيهما لهم انني معتقل لان القضية الكبرى تحتاج إلى تضحيات كبرى، وأنني أقبل اليوم بفرح بذل هذه التضحية لأوّفر عليهم سلوك هذه الدرب"،
مع عودة البطريرك صفير من جولته في اميركا اللاتينية، انطلق ــ حسب كيروز ــ العدّ العكسي "لرحلة العودة إلى عائلتي، اذ انتابني شعور داخلي بأن ساعة تخليتنا اقتربت خصوصاً بعدما سمعنا مواقف غبطته المتعلقة بوجوب تمييز المقاومة عن الإرهاب, والخميس (29 نوفمبر) زارني المحامون وتقدّمنا بطلبات التخلية التي لم أكن اتوقع ان تبت بهذه السرعة, وبعد موافقة القاضيين عبد الله الحاج وجوزف قزي، نُقلنا إلى المحكمة العسكرية حيث استقبلنا القاضي نصري لحود (مفوض الحكومة لدى لمحكمة العسكرية) في شكل جيّد لتُسدل الشارة على هذه الصفحة".
وإذ يحرص على وضع تخليته وسماحة "في اطار الحوار بين المعارضة بقيادة البطريرك صفير وبين الرئيس اميل لحود"، لا يغفل "ان فرحتنا لن تكتمل إلا بخروج الدكتور هندي وعودته إلى كنف عائلته".
هل "يتضبضب"؟
وقبل أن نختم اللقاء، بؤكد كيروز أن الأشهر الأربعة الأخيرة "جعلتني ادرك ان السبيل الوحيد لتجاوز الألم يكمن في معانقته ليصبح مصدر قوة, والوجع الجسدي والمعنوي الذي اجتاحني، والغضب الذي تملكني لانني أعاقب بسبب ارائي السياسية، تخطيتهما بالصلاة والتفكير في معاناة القائد (جعجع) الذي يقبع تحت الأرض منذ اكثر من سبعة أعوام في ظروف اعتقال غير انسانية وغير قانونية".
ولا يتوانى عن تأكيد "ان هذه التجربة زادتني اقتناعاً بالمبادئ والثوابت التي نناضل من اجلها، وسأستمر في العمل تحت سقف القانون والحق والمبادئ التي يكرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي يكفلها الدستور اللبناني، رغم كل النصائح والرسائل المخابراتية بأن اتضبضب واكتفي بالاهتمام بعائلتي وعملي".
وهل يتوقع ان يعود إلى السجن؟ يجيب "يجوز,,, وأنا مستعد للتضحية".(الرأي العام الكويتية)