خير الله خير الله: عندما باشرت الولايات المتحدة التحضير للحملة العسكرية في افغانستان، راحت بعض الاصوات العربية تتحدث عن الفشل الذي ستواجهه هذه الحملة, كانت هذه الاصوات تشير الى تاريخ افغانستان، والعبر التي يمكن استخلاصها منه في ضوء تجربتي الانكليز والسوفيات, فمن افغانستان بدأ افول شمس الامبراطورية البريطانية ومنها خرج الاتحاد السوفياتي بعد هزيمة عسكرية ساهمت الى حد كبير في تفكيكه وتغيير مجرى التاريخ.
ولايزال كثيرون يعتقدون ان في الامكان مقارنة التجربتين الانكليزية والسوفياتية مع التجربة الاميركية الراهنة استنادا الى ان الشعب الافغاني اظهر انه لا يقهر, نسي اصحاب هذه المقارنة امرا في غاية الاهمية هو ان التدخل الاميركي على خلاف التدخلين الانكليزي والسوفياتي لا يستهدف اعادة بناء دولة افغانستان او اقامة نظام موال مئة في المئة للولايات المتحدة بمقدار ما ان المطلوب هو الانتقام اولا ثم ضمان عدم تحول افغانستان بؤرة لمنظمات تسميها اميركا "ارهابية" تعمل انطلاقا من الاراضي الافغانية وتتدرب فيها, باختصار، ان الهم الاميركي يبدو محصورا في الا تكون افغانستان مأوى لهذه المنظمات، وما قد يكون اهم من هذا الهم استخدام اميركا لافغانستان كي تكون درسا للعالم في شأن ما يمكن ان تفعله في حال تعرضت لهجوم ارهابي اخر من النوع الذي استهدف نيويورك وواشنطن.
قليلون فهموا منذ البداية، ان اميركا دخلت حربا ردا على ما تعتبره حربا شنت عليها فيما كان كثيرون يعتقدون ان النباح خير وسيلة للاقناع وهم يعتقدون ان الرهان على "طالبان" مضمون كونها رأس حربة للتقدم والتطور في العالم، هؤلاء راهنوا في الوقت نفسه على الشارع العربي، كانوا يظنون ان هذا الشارع لن يسكت وانه سيغرق الانظمة بعد ان تعم التظاهرات المدن لكن شيئا من ذلك لم يحدث وها ان الشارع يمضي رمضان هادئا، ربما كان الاهدأ منذ سنوات عدة رغم استمرار العمليات الاميركية طوال ايام الشهر الكريم!
الاخطر من ذلك ان الشارع العربي غارق في صمته وسباته وموته في وقت يتعرض الشعب الفلسطيني لأبشع انواع الجرائم يرتكبها ارييل شارون بكل انواع الاضواء الاميركية, فلا فارق هنا بين الاخضر والاصفر والاحمر والبرتقالي مادامت هناك اطراف فلسطينية تؤمن له التغطية اللازمة لهذه الجرائم عبر عمليات في القدس وحيفا ترى فيها ادارة بوش الامين امتدادا لما تعرضت له نيويورك وواشنطن، متناسية ربما عن قصد ان هناك ارهابا اسرائيليا يمارس يوميا اسمه الاحتلال,, هو اسوأ انواع الارهاب.
بالطبع، هناك استثناءات عربية، تتمثل في زعماء عرفوا منذ البداية معنى الذي حصل يوم 11 سبتمبر وان المهم في هذه المرحلة هو عدم الانقياد الى الشارع والرضوخ له، بل ان المطلوب اكثر من اي وقت ان يمارس الزعيم زعامته وان يقول للشارع، خصوصا للشارع الجاهل، انه لن يكون في استطاعته ان يفرض عليه ارادته، وقد سارع عدد لا بأس به من الزعماء العرب الى زيارة الولايات المتحدة للاطلاع عن كثب على ما يدور في واشنطن وطريقة التفكير الاميركية في هذه المرحلة, وبين هؤلاء امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والملك عبدالله والرئيس علي عبدالله صالح, ففي مثل هذه الظروف الصعبة، تميز اميركا بين من هو معها ومن هو ضدها، وما قام به الرئيس اليمني هو في سياق الموقف الذي اتخذته بلاده منذ فترة طويلة والقائل ان اليمن ضحية الارهاب وليست مصدرا له, واذا كان علي عبدالله صالح نجح الى حد كبير في شرح قضية اليمن في اميركا، فان النجاح الآخر هو للملك عبدالله الذي اتخذ منذ البداية موقفا شجاعا اكد فيه ان بلاده لا تجامل وهي تساند التحالف الدولي القائم ضد الارهاب, فالملك الشاب، على غرار امير قطر الذي لم يتردد في زيارة نيويورك بعدما استهدفها الارهاب، يدرك ان العالم انقسم بشكل واضح بين من هو مع الارهاب ومن هو ضده, ولم يتردد العاهل الاردني في اي لحظة من اللحظات في التشديد على ان بلاده لا تتخلى عن المبادىء في مقدمها الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم، من منطلق ان قيام الدولة الفلسطينية مصلحة اردنية فضلا عن ان ذلك يخدم الاستقرار في الشرق الاوسط ويخدم بالتالي الاردن.
كانت الاحداث الاخيرة مناسبة ليعيد الاردن تأكيد دوره المحوري على الصعيد الاقليمي، وذلك بفضل شجاعة ملك شاب عرف كيف يقود الشارع بدل ان ينقاد له, والذي يحصل حاليا هو بمثابة تأكيد لصواب الخيار الاردني, والدليل على انهيار حكم "طالبان" وبدء رجل الشارع العربي في اعادة النظر في حساباته في ظـل سكون هذا الشارع الذي لا يتحرك الا من اجل القضايا الخاسرة التي سرعان ما يموت معها.
لاشك ان الخيار الاردني الواضح في كل ما له علاقة بافغانستان والارهاب يمكن ان يساهم في ايجاد توازن يتصدى للجهود الإسرائيلية الهادفة الى جعل المعركة مع الشعب الفلسطيني امتدادا للمعركة التي تخوضها اميركا مع "طالبان" و"القاعدة" والرهان الآن على الاردن كي يتحرك في اتجاهات مختلفة لإبلاغ العالم ان لا علاقة بين افغانستان وفلسطين مثلما ان لا علاقة بين الاسلام والارهاب, واذا كان الملك عبدالله بظهوره مع الملكة رانيا بالطريقة الحضارية التي ظهر فيها ساهما مباشرة بعد 11 سبتمبر في تبديد اي محاولة للربط بين الإسلام والارهاب فإن المداخلات الكثيرة للأمير الحسن بن طلال لعبت ايضا دورا في تقديم الاسلام الى العالم بما يليق بهذا الدين الحضاري القائم على فكرة التسامح وعلى ان الدين معاملة قبل اي شيء آخر, وكانت الاستعانة بالأمير الحسن خطوة اكثر من موفقة صبت في رصيد الاردن وملكه في آن وساهمت في تكريس الدور الطليعي للبلد وفي الوفاء للملك الحسين رحمه الله الذي كان يرد على الذين يدعون للعودة الى الإسلام بقوله: ان الاسلام امامنا وعلينا اللحاق به لأنه دين متطور وعصري.
شكل السقوط العظيم لـ "طالبان" صدمة للشارع العربي وهو ما علينا ان نعترف به ولعل هذه الصدمة تلعب دورا في تشكيل تفكير جديد يساعد في بلورة خطة لمواجهة ما تقوم به اسرائيل من جهة ويساعد في الوقت نفسه في فهم ان اميركا باتت تدرك جيدا انه سيكون في استطاعتها ضرب العراق اذا شاءت ذلك وفي الوقت الذي تراه مناسبا من دون اي رد فعل عربي يذكر وقد يكون ذلك الدرس الاول الذي اسفرت عنه حرب افغانستان وما رافقها من معارك ابان شهر رمضان المبارك.
انها ايام صعبة تحتاج اول ما تحتاج الى الشجاعة والوضوح وقد لعب الاردن دوره على اكمل وجه ان لجهة تغيير صورة العربي والمسلم في اميركا والغرب عموما او لجهة تأكيد دوره الاقليمي او اخيرا لجهة المساعدة في الحد من الهجمة الشارونية على الشعب الفلسطيني فما لا يمكن ان ينساه اي عربي هو ان الاردن لا يزال بالنسبة الى شارون "الوطن البديل" واي تحرك اردني لإفشال سياسات رئيس الحكومة الاسرائيلية هو دفاع عن النفس وهو دفاع مبرر لا يخدم القضية الفلسطينية فحسب بل يصب في خدمة النظام العربي عموما لأنه يظهر العرب كشعب حضاري يعرف كيف يتعامل مع العالم من دون عقد كون التسامح في دم الملك الهاشمي ابن السلالة العريقة فأي دور للأردن في مواجهة الحملة الاسرائيلية وكشفها حتى لو استدعى ذلك الاعلان صراحة المرة تلو الاخرى عن استعداد عربي لتقديم ضمانات محددة لإسرائيل في مقابل قبولها الدولة الفلسطينية بدل العمل يوميا على احباط اي جهود لإحباط هذا المشروع الحضاري الذي لا سلام في الشرق الاوسط من دونه,,, هل يتوافر الدعم العربي اللازم لمثل هذا الدور ام ان الدور العربي مات مع موت الشارع؟(الرأي العام الكويتية)