قبل الشيخ أحمد ياسين بوضع نفسه قيد الاحتجاز الرمزي لدى سلطة عرفات، وواكبته "حماس" و"الجهاد" بالقبول الضمني لاعتقال العشرات من اعضائهما، وسارعتا الى نفي بيانات الادانة لعرفات التي نسبت اليهما.
وينطوي تراجع الشيخ وحماس والجهاد على دلائل اولية بالغة الاهمية. فلأول مرة تُحكِّم المنظمات الفلسطينية الجهادية العقل بدلا من الغريزة، والسياسة بدلا من العنف العشوائي. وكان هذا القبول التراجعي بمثابة توبيخ ذاتي على ارتكاب خطأ استراتيجي وسياسي عندما اقدمت على تنفيذ عملياتها الانتحارية في توقيت غير مناسب فلسطينيا، وفي ظروف دولية غير ملائمة للجهاديات الدينية.
واذا استطاع الفلسطينيون ابتلاع "الحبوب المهدئة" التي وصفها لهم علي ابو الراغب صيدلي الحكومة الاردنية، والتزموا الهدوء دون الرد على استفزازات شارون في الاسابيع القليلة المقبلة، واذا تخلت المنظمات الجهادية عن الانتحار وعمليات العنف الجماعي، فبالامكان سحب القضية الفلسطينية من مرمى الاغتيال، واعادة تعويم عرفات وسلطته، واستعادة المبادرة السياسية من الحكومة الاسرائيلية.
ولعل الجهادية الفلسطينية، وفي لحظة تفكير نادرة، ادركت ان المزايدة على عرفات في الشارع الشعبي بالعمليات الانتحارية بالجملة، ستلحق اذى بالغا بالقضية المشتركة، وستوفر الذريعة امام شارون لاغتيال عرفات سياسياً وجسدياً. وبالتالي، فالانقسام الوطني الفلسطيني سيساعد حلف الاصولية الصهيونية والدينية الحاكم على التصفية الدموية ايضا للاصولية الفلسطينية المعارضة.
التهدئة ستتيح لعرفات مجال المناورة ووضع شارون محله في زاوية الحصار. ويستطيع الزعيم الفلسطيني، عندئذ، ان يحرج الحكومة الاسرائيلية امام العالم بأن شرطها للعودة الى مائدة المفاوضات قد تحقق، ولم تعد هناك ذريعة للتعلل بانعدام الامن لاعدام التسوية.
كذلك، فالتهدئة ستخفف من شعور ادارة بوش بالاهانة عندما رأت الجهادية الفلسطينية تغمس مبادرتها الجديدة بالدماء، بحيث بات مستحيلا على جنرالها الوسيط اختراق الخطوط الاسرائيلية لاقناع الجنرال الآخر بالتفاوض وفق الشروط الاميركية: وقف الحصار والاستيطان، وانهاء الاحتلال، والقبول بالدولة الفلسطينية.
ولا شك ان جنرال الاحتلال والاستيطان سيواصل تحدي الفلسطينيين واستفزازهم لدفعهم الى التخلي عن التهدئة المأمولة، والعودة الى القيام بعمليات انتقامية او انتحارية. كل ذلك من اجل ابقائه القضية في دائرة الامن، والحؤول دون نقلها الى دائرة السياسة.
لقد تحمل الفلسطينيون بشجاعة فائقة على مدى اكثر من ثلاثين عاما اقسى اجراءات الاحتلال والخنق والحصار والاذلال، واستطاعوا من لا شيء ادماء اسرائيل والحاق الضرر بها وباستقرارها واقتصادها، ويبقى عليهم تجاوز النكسة الاخيرة الخطيرة بشيء من طاقة التحمل الرائعة لاجتياز عنق الزجاجة.
ويتوقف النجاح الفلسطيني على عاملين اثنين: تعامل عرفات بدراية ومرونة مع الموقف الصعب واستمرار الجهاديات الفلسطينية بالقبول باجراءات سلطة الحكم الذاتي. وهذا يعني اكتفاء عرفات باجراءات الاعتقال الادارية التي كان من الافضل استثناء الشيخ ياسين منها لظروفه الصحية ولشعبيته الكبيرة.
ولعل من الخطأ الكبير تحويل الاجراءات الادارية الى قضائية والحكم على المعتقلين باحكام قاسية بعدما ارتضوا باعتقالهم. وقد احسن عرفات باشتراطه عدم قصف اسرائيل لسجون الاعتقال.
ولعل الادارة الاميركية تدرك ان ترك اسرائيل لتضغط على عرفات لمعاقبة او تصفية الجهاديين المسؤولين عن العمليات الدموية الاخيرة، هو بمثابة مزيد من التعجيز له وتحميل لطاقته فوق ما تحتمل من قدرة ومصداقية امام نفسه وشعبه وامته.
لقد كانت ادارة بوش مغالية جدا في عاطفتها على حساب سياستها، عندما سمحت لكلب الحراسة الاسرائيلي بنهش عرفات على هذا الشكل المهين له ولسلطته، ولتحميله هو شخصيا المسؤولية عن عمليات انتحارية لا يضمن منعها الآن او في المستقبل، ولا سيما بعد ضرب بنى ومقار اجهزته الامنية، بل اثبت شارون بكل بأسه واجهزته انه هو الآخر عاجز عن منع الانتحاريين من الوصول إلى العمق الاسرائيلي.
ولا يكفي ان يعاود ثنائي بوشباول الاعتراف بسلطة عرفات، بل يتعين على العواصم العربية تحميل الادارة الاميركية علنا مسؤولية سلامته الشخصية، واجبار شارون على رفع الحصار عنه والسماح له بحرية الحركة الكاملة داخل الضفة وغزة وخارجهما. ويبدو ان اللوثة الميلودرامية التي اصابت الادارة الاميركية هي الآن في طريق التلاشي والشفاء بفضل وخز الابر المصرية والسعودية والاردنية.
لكن هل تستطيع الجهادية الفلسطينية تحمل اجراءات الاعتقال والتضييق، دون القيام بعمليات انتحارية اخرى؟
من عادة الجهاديات العربية ان لا تلجأ الى السياسة لخدمة غرضها "الجهادي". مع ذلك فضبط النفس الذي اظهرته الجهادية الفلسطينية بعد الاعتقالات الاخيرة كان مأمولا ان يستمر، لكن عملية حيفا الانتحارية الاخيرة ومواصلة قوات شارون عمليات القنص والاغتيال والقتل، توحيان بأن جناحي العنف الفلسطيني والاسرائيلي غير مؤهلين، بعد، لمواصلة التهدئة للعودة الى مفاوضات التسوية.
وهكذا، فمن شأن عمل انتحاري آخر وسفك دماء بالجملة هنا وهناك، تأجيل حل القضية الفلسطينية سنين وربما عقودا، ومواصلة اسرائيل تقويض سلطة الحكم الذاتي وقضم الارض بالاستيطان، وفرض حل جائر على الفلسطينيين في غياب قيادة وطنية، وفي ظل العجز العسكري العربي عن الردع نتيجة لتسليح اميركا المتفوق لاسرائيل.
احتمال نشوء هذا الوضع المتردي يعيدنا الى السؤال الذي طرحته وتطرحه الجهاديات العربية: لماذا، اذن، لا نواجه اميركا بالعنف قبل مواجهة اسرائيل بالقوة؟
الجواب يأتي من الساحة الافغانية، لقد ذابت الجهادية الطالبانية عند حرارة الاختبار، واثبتت التقنية العسكرية العالية تفوقها على حرارة الايمان عند الملا عمر والملا ابن لادن، ففرا دون ان يملكا الشجاعة، بعد، على الانتحار الذي دفعا إليه، ضلالا، شبابا ضحوا بانفسهم في مواجهة خاطئة وخاسرة وغير متكافئة مع اميركا.
وها هي التجارب الجهادية الاخرى في مصر وسورية والخليج والجزائر والسودان تقدم بدائل دموية عندما اخفقت في اقامة الدولة الدينية، وتثبت انها اكثر كآبة وفقرا في الفكر والممارسة من فقر الكآبة التي تعيشها حاليا المجتمعات العربية.
واستشفافاً واستقراء لهذه التجارب "الجهادية"، فالدولة الدينية التي تنشدها الجهادية الفلسطينية بعد "التحرير" ستكون على شاكلة امارة طالبان، ومستحيلة عمليا في مجتمع فلسطيني متعدد الاديان والتيارات السياسية، ومتعلم وواع بما يفوق وعي المجتمعين الافغاني والايراني، ومنفتح على العالم بحكم تواصله مع الثقافات والحضارات المتوسطية.
من هنا، فالطريق امام الجهاديات الفلسطينية واضحة: التنسيق مع عرفات وسلطة الحكم الذاتي والتيارات الوطنية. ويمكن لهذا التنسيق ان يأخذ شكل "ميثاق شرف" يؤجل الانتحار مرحليا، ويمنع سلطة عرفات او حكومة شارون من نحر المعتقلين، وربما يكون مطمئناً لاسرائيل ومشجعاً لمعسكر السلام فيها على الانتعاش.
تهيئة الظروف الموضوعية للتغيير في الموقف الفلسطيني والانتقال به من ساحة الميلودراما الملتهبة، قد تهيئ الظروف لتغيير سياسي مقابل في المجتمع الاسرائيلي، بتحريره من الخوف واشعاره بالامن، وبالتالي اعداده لصرف حكومة شارون من الخدمة العسكرية، والاتيان بحكومة اكثر اعتدالا وحكمة واستعدادا للمضي في المسيرة السياسية والسلمية.
وفي استحالة مثل هذه الظروف، واستمرار عمليات القتل الجماعي والانتقامي، وفي ظل التفوق العسكري الاسرائيلي والعجز العربي عن الرد والردع والدفاع عن الفلسطينيين، لا يبقى امام المجتمع الدولي سوى اللجوء الى انزال قوات دولية ليس للفصل بين الجانبين المتقاتلين، وانما لفرض الحل.
لولا اميركا لما تمكنت اوروبا بالتعاون معها من فرض حل في البلقان ينقذ مسلمي البوسنة وكوزوفو ومقدونيا من الغطرسة الصربية. واميركا، اذا ارادت، قادرة على فرض تسوية ما، حتى ولو لم تكن مرضية تماما للعرب وللفلسطينيين وللاسرائيليين.
امر مؤلم لكل نفس عربية الاعتراف بالعجز، والقول ان الحل بالكيِّ. لكن الحل المفروض بالقوة الدولية افضل لمشرق مريض بغطرسة القوة وعناد العجز، وبالمزايدات السياسية، والتنظيرات والفلسفات السفسطائية، وكلها تصب الزيت على نار اضطراب هائل ومتواصل ينزع من مخيلة الاجيال التوق للعمل، ويلغي الحلم بالعيش في كثير من الامان وقليل من الرفاهية. (الشرق الأوسط اللندنية)
&