عندما شن الجنرال اريئيل شارون، وزير الامن الاسرائيلي في حينه، حربه علي لبنان عام 1982 ذاهباً الي ابعد من الـ 40 كلم التي وافق عليها زعيم المعارضة رابين والي ابعد من حصار بيروت الذي وافق عليه مناحيم بيغن رئيس الحكومة، تبين ان الرجل صاحب نظرية لم يفصح عنها في بداية الحرب. لقد تبين انه يرغب في تهجير الفلسطينيين من لبنان مرة اخري الي العراق او الاردن، وانه يبغي تطبيق نظرية الدولة الفلسطينية في شرق الاردن، وانه يريد تغيير نظام الحكم في لبنان. ولم تكن العتمة العربية في حينه علي قدر يد الحرامي كما يقال بالعامية في بلاد الشام. فشل شارون في مشروعه السياسي، وكاد هذا الفشل ان يودي بمستقبله السياسي في اسرائيل ذاتها. اذ تبين ان الوضع العربي ليس من التردي لدرجة ان يقبل بأن تصبح اسرائيل مصدر شرعية لأي نظام سياسي عربي. كما تبين ان الشعب اللبناني ينبض حياة ليس فقط في حياته اليومية وانما أيضاً عندما يتعلق الامر بقضاياه الوطنية.
وانبلجت كضوء الفجر المدمي من جراح الشعب الفلسطيني من صور وصيدا والميه ميه وابو الاسود وبرج البراجنة وحتي صبرا وشاتيلا حقيقة شاحبة ما لبثت ان سطعــــت في الانتفاضة الاولــــي بعــــد مرور خــــمس سنوات فقــــط، وهي ان القضية الفلسطينية ليــــست استعارة لفظية علي لســان القيـــــادات العربية، بل هـــي قضـــية حقيقية تنبض في قلوب وعقول وضمائر ملايين البشر، وانه لا يتوفـــر في جعبة اسرائيـــل ولا في ترسانتها العسكريــــة حــــل امني لهذه القضــــية.
ولا انكر علي الجنرال شارون ما يمر به سائر البشر من اكتساب تجربة وخبرة، وربما حتي نضوج، خلال تسعة عشر عاماً مرت منذ تلك المغامرة الدموية الاجرامية بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني، ولكن الادلة الدامغة تتمرد علي هذا الاعتبار الانساني العام. وربما اصبح شارون اشد مراساً في السياسة، وربما بات انضج مسلكاً في الشؤون الحزبية، وربما اضحي اليق اداءً في الاعلام. بل في الامكان الجزم بذلك. فهو يتمسك بحزب العمل في الحكومة لأنه لا يريده متظاهراً في الشارع ضده كما كان اثناء الحرب في لبنان. وقد اعلن حال وصوله الي السلطة وقفاً وهمياً اعلامياً لاطلاق النار لوضع السلطة في موقف الرافض لهذا السعي، ودغدغ مشاعر الرأي العام الاميركي عندما تصرف كرجل قانون يطارد الاشرار بأسلوبه الخاص (الاغتيال) من دون ان يعير الاجراء القضائي البيروقراطي اهتماماً، المهم ان يتركز علي الاشرار فردياً عبر اغتيالهم. واستثمر شارون حملة مكافحة الارهاب العالمية لكي يصور السلطة الفلسطينية كحاضنة وراعية للارهاب علي نمط نظام طالبان الذي احتضن بن لادن.
لا شك ان شارون اصبح اكثر دهاءً سياسياً مقارنة بالفيل الذي دخل حانوتاً لبيع الأواني الفخارية عام 1982. ولكن هناك عناصر سياسية اساسية عاندت التغيير وبقيت علي حالها: 1) يمثل شارون مزاجاً سياسياً وامنياً لا يؤمن بسلام عادل ودائم مع العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، وتعود جذور هذا التيار الي جيل عام 1948 من الجنرالات الذين يعتقدون ان حرب 67 هي استمرار لحرب 48، وان نموذج التسوية مع العرب هو عبارة عن هدنة تطول وتقصر بمقدار ما يستسلم العرب لمنطق موازين القوي القائمة، ولذلك قد يقبل هذا المزاج بالتسوية مع الفلسطينيين ولكن كنوع من الهدنة، يقبلها صاغراً من دون حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية.
ولا يتوقع هذا المزاج من الفلسطينيين التخلي عن احلامهم ، ولكنه يشترط عليهم التخلي عن محاولة تحقيقها ومحاربة كل من تسول له نفسه ان يترجمها الي برامج سياسية. وهو لا يفرض عليهم هدنة من دون مقابل، بل انه مستعد لتقديم تنازلات مؤلمة من نوع اعادات الانتشار وتسليم الفلسطينيين مناطق لحكمها ضمن شروط التسوية. 2) يعتبر شارون مجرد استمرار ياسر عرفات علي رأس منظمة التحرير، ثم السلطة الفلسطينية، اثباتاً قاطعاً لفشل حربه في لبنان. فقد كان هدف هذه الحرب المعلن القضاء علي منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن الانتفاضة الاولي، ثم اتفاقات اوسلو في اعقابها، قامت باستيراد قيادة المنظمة الي الاراضي المحتلة عام 67 بعدما حاصرها في بيروت ثم راقب خروجها منها بتدخل دولي. ولم يعترف شارون في يوم من الايام بفشل حربه في لبنان، بل لا يزال يهمس بغضب انها احدي أنجح الحروب التي خاضتها اسرائيل، فقد قضت هذه الحرب علي المقاومة الفلسطينية المسلحـــة ضــد اسرائيل من لبنان.
ولو جلس شارون ليفاوض اولئك الذين ادعي انه قضي عليهم لشكل ذلك اعترافاً بفشله. هناك حساب لا يزال مفتوحاً منذ الحرب في لبنان، ولن يسوي الحساب من وجهة النظر هذه الا بتنحي ياسر عرفات وما يمثله، بطريقة او اخري، واما بتحوله الي منفذ لأوامر شارون يخوض حــرب اهلية فلسطيــنية.
لقد صعد الجنرال شارون من سياسة الاغتيالات الارهابية ووضع شروطاً تعجيزية للعودة الي المفاوضات لانه ليس لديه ما يقوله في مفاوضات الحل الدائم، كما كانت حال شامير في مدريد، ولأنه سيفاوض الفلسطينيين بعد انهاكهم علي نوع من التسوية او الهدنة لسنوات طويلة، بحيث لا تتطرق هذه الهدنة الي اي من القضايا التي اعتبرها اتفاق اوسلو قضايا الحل الدائم : الحدود، القدس، المستوطنات واللاجئين. لقد اغتال شارون الافراد بالصواريخ، وكان اغتيال رئيس كتائب عزالدين القسام مقدمة لسيناريو وحوار معروف سلفاً ابان وجود مبعوث اميركي في المنطقة. ولا يحتاج هذا الاستنتاج الي عقل تاَمري جهنمي يتدبره، فمن الواضح لشارون ان اي تنظيم مهما صغر شأنه سيحاول ان يثبت لاسرائيل بعد اغتيالها قائده ان التنظيم لا يزال حياُ يرزق، فكم بالحري عند الحديث عن تنظيمات بحجم حماس والجبهة الشعبية.
وقد تجاوز التصعيد الشاروني الاغتيالات فطال المواطن الفلسطيني العادي، وتلاميذ المدارس فعبّأ الشعب الفلسطيني رغم التعب والارهاق بنقمة وحقد ينسفان اي امكان لتنفيذ مخططاتها السياسية علي الانقاض والخرائب المادية والمعنوية.
ادرك شارون تمام الادراك ان ادوات القمع التي يستخدمها تستفز عمليات في الداحل الاسرائيلي، ولكنه اقدم عليها عن سبق الاصرار والترصد، معتمداً اولاً علي حكومة الوحدة الوطنية والتفاف الجمهور الاسرائيلي حول سياسية اوهموه بأن بديلها الوحيد سقط في كامب ديفيد، وانها تشكل حرباً وجودية لا خيار فيها، وثانياً علي سياسة اميركية خرقاء يقودها مغامر شاب بعقلية رونالد ريغان تعطيه هامش حرية واسع في ظل هيمنة رموز ولغة وثقافة سياسية استيطانية تحترم الشيريف (القبضاي) في حماية اهل البلدة الخائفين من الاشرار، وثالثاً علي عجز العرب دولاً وشعوباً وثقافة في مواجهة هذه السياسة، فهم ينقسمون كعادتهم بين لوم الفلسطينيين علي اعطاء فرصة للاسرائيليين واستثارة غضب اميركا وبين توجيه اللعنات للزمن والقدر وبين التباكي من المؤامرة العالمية ضد العرب والمسلمين.
قلنا بعد 11 ايلول انه لا يصح الا الصحيح، وان من يعتقد ان اميركا ورأيها العام ينشغلان بالسؤال لماذا يكرهوننا، هو واهم وناشر للاوهام. ولكن ايضاً من الطبيعي بعد هذه العمليات ان يزداد موقع اسرائيل قوة في اميركا والغرب وان تزداد صورة العرب والمسلمين سوءاً. وهذا ما حصل. ولا يمكن فصل محاصرة السلطة الفلسطينية وقيادتها والتحدث اليها بهذه العنجهية والصفاقة والوقاحة عبر وسائل الاعلام الاسرائيلية والاميركية عن توقيف العرب في مطارات الدنيا كالبعير المعبد، ونهب بترول العرب وتوجيه الاهانات لهم في الوقت ذاته، واعتقال العربي لكونه عربياً في الولايات المتحدة.
هناك اكثر من سبب ليراجع العرب انفسهم، وهنالك اكثر من سبب لتوسيع خيالهم الي ما هو ابعد من حملة اعلامية ، فالدول والانظمة لا تسوق وكأنها انتاج جاهز. السلوك السياسي ينتج الاخبار والانباء وتتحول هذه الي اعلام اذا كانت هنالك سياسة اعلامية تشرح سياسات مصاغة بلغة معقولة ومفهومة للناس، نعم للناس في الدول العربية وفي اوروبا واميركا. وهنالك مخلوق عالمي الطابع انساني التكوين اسمه العقل السليم يمكن بموجبه صياغة السياسات وتقديمها اعلامياً، اذا لم تكن اصلاً مستعصية علي الفهم والصياغة.
وهنالك اكثر من سبب ليهب العرب لنصرة اخوتهم الفلسطينيين الصامدين في احلك الظروف الدولية. فشارون لم يجرؤ علي مواصلة تنفيذ سياسته بهذا الشكــــل الحربجي السافر من دون ضــــوء اخضر اميركي، واذا مــــرر العــــرب تعامل جورج بوش بهذا الشكل مع الفلسطينيــــين، فسوف يتعامل معهم بنفـــــس المنطق الواحد تلو الاخر.
ولا يزال في امكان العرب ان يُفهموا الادارة الاميركية انهم فاهمون ان اسرائيل فاهمة ان ما يجري في رام الله وغزة هو النموذج للتعامل الاميركي مع العرب عموماً بعد افغانستان.(الحياة اللندنية)