باختصار يمكن القول إنه في ضوء الحرب التي أعلنتها إسرائيل طوال الأيام الماضية‏,‏ ضد السلطة الفلسطينية‏,‏ أنها قررت المضي قدما في تحقيق الهدف الاستراتيجي للسفاح شارون‏,‏ بالقضاء تماما علي هذه السلطة وهياكلها ـ وليس إضعافها فقط ـ وصولا إلي اعتصار الرئيس عرفات حتي يختنق وحيدا معزولا‏,‏ ربما دون أن تقدم هي علي اغتياله‏.‏
هكذا رأينا أن عرفات‏,‏ رمز الكفاح الفلسطيني ورأس السلطة‏,‏ محاصر في منزل صغير في رام الله‏,‏ لا يستطيع مغادرته‏,‏ لأن الدبابات الإسرائيلية تلتف حوله وتصوب مدفعيتها تجاهه‏,‏ بينما استباح الجيش الإسرائيلي بقرار سياسي علي أعلي مستوي‏,‏ قصف وتدمير كل ما يرمز إلي وجود السلطة الفلسطينية‏,‏ ابتداء من المقر الرئيسي لعرفات في غزة ورام الله‏,‏ وانتهاء بالمطار الفلسطيني الوحيد‏,‏ وطائراته العاجزة‏.‏
لكن الهدف الإسرائيلي لم يكن هو مجرد ضرب وتدمير رموز السلطة علي الأرض‏,‏ بقدر ما كان ولا يزال هو ضرب الرمز الأكبر الجالس علي رأس السلطة‏,‏ يتحكم في مجريات الأمور بمهارة اللاعب المحترف‏,‏ القادر علي التهدئة والتسخين في وقت واحد‏,‏ مهارته في إشعال الانتفاضة ونقلها من مجرد التراشق بالحجارة‏,‏ إلي المنازلة بالسلاح والرصاص الحي والهاون‏,‏ واقتحام أسطورة الأمن الإسرائيلي في العمق‏!‏
لكن التطورات الأخيرة‏,‏ ووحشية الهجوم الإسرائيلي‏,‏ في ظل التواطؤ الأمريكي والصمت العربي‏,‏ وضعت عرفات ليس فقط حبيسا في منزله برام الله لا يمكنه مغادرته حتي إلي غزة وأريحا‏,‏ لكنها وضعته في الحقيقة النهائية حبيس مأزقه التاريخي‏,‏ الذي يتنبأ البعض بأنه لن يستطيع النجاة منه هذه المرة‏,‏ كما سبق أن نجا عشرات المرات من مآزق سابقة‏.‏
مأزق الرئيس عرفات الآن هو أنه قد وقع بين مطارق الهجوم العسكري الإسرائيلي الشرس ـ الحرب الشاملة ـ التي تقضي علي كل ما بناه منذ عودته إلي غزة في ظل اتفاقي أوسلو عام‏1993‏ وعام‏1995,‏ وبين سندان الاصطدام المرير مع حلفائه وأشقائه الفلسطينيين أنفسهم‏,‏ الذين كانوا ومازالوا سنده الحقيقي‏,‏ حتي أولئك الذين يختلفون معه سياسيا أو تكتيكيا‏..‏ أي سندان الحرب الأهلية‏.‏
بين الحرب الإسرائيلية الشاملة‏,‏ والحرب الأهلية الطاحنة‏,‏ يصارع الرئيس عرفات نفسه وأفكاره واختياراته‏,‏ بعد أن ضاقت عليه الدائرة بل أغلقت عليه في لحظة هي الأصعب كما نتصور في تاريخه الممتد كفاحيا علي مدي نحو الأعوام الثلاثين‏,‏ خصوصا بعد أن انحصرت اختياراته‏,‏ بين إما وإما‏,‏ وليس هناك ـ ما يبدو ـ بديل أو اختيار ثالث‏,‏ كما تعود أن يجده في كل أزمة سابقة‏!‏
لذلك تسود أوساط إسرائيلية وأمريكية وأوروبية‏,‏ وربما عربية‏,‏ كثيرة الآن فكرة إنهاء عصر عرفات في قيادة كفاح الشعب الفلسطيني‏,‏ والبحث عن بديل‏,‏ لكن أحدا لم يخرج بعد بالإجابة عن السؤال الجوهري وهو‏:‏ ماذا بعد عرفات؟‏!‏
فهل هذا ممكن الآن‏..‏ دعونا نختبر المواقف‏.‏
‏***‏
بصرف النظر عن مدي شعبية عرفات بين شعبه الفلسطيني‏,‏ فإن هناك موقفين علي طرفي نقيض تجاه القضاء علي عرفات الآن‏,‏ بحجة أنه استنفد أغراضه وضعفت إرادته وقبضته علي مجريات الأمور‏,‏ بحكم العمر وبحكم التطورات المعقدة من حوله‏.‏
‏**‏ موقف إسرائيل الذي يقوده شارون‏,‏ ويري أن هذه هي الفرصة السانحة للتخلص من عرفات رمزا وشخصا وزعامة‏,‏ لأنه فشل في أن يلبي الشروط الأساسية للسلام للاستسلام‏,‏ وأنه أثبت عجزه‏,‏ أو هو تواطأ تجاه الراديكاليين الفلسطينيين‏,‏ أو من يسميهم شارون الإرهابيين‏,‏ وتساهل معهم وسمح لهم بالقيام بتحويل الانتفاضة من الحجارة إلي الرصاص والقنابل والسيارات المفخخة تنفجر بين وقت وآخر في عمق المدن الإسرائيلية‏,‏ علي غرار انفجارات الأسبوع الماضي في القدس وحيفا وغيرهما‏..‏ الأمر الذي لن تستطيع معه إسرائيل صبرا بعد الآن‏!‏
‏**‏ الموقف المناقض هو موقف دولة مركزية في المنطقة مثل مصر‏,‏ تقترب منه مواقف دول رئيسية أخري من أجنحة الاعتدال العربي‏..‏ وهو موقف يري أن خطة التخلص من عرفات والقضاء عليه‏,‏ تمثل خطا أحمر‏,‏ ليس فقط لأنه رمز الاعتدال الفلسطيني القادر دوما علي ضبط الموازين والإمساك بكل الخيوط في يده بحكم شخصيته وقيادته التاريخية‏,‏ بل كذلك لأن إقصاء عرفات ـ قتلا أو عزلا ـ سيشعل العنف الفلسطيني أكثر مما يتصور أحد ردا لمثل هذه الإهانة للكرامة الوطنية‏.‏
الخطورة في الأمر أنه في الوقت الذي تملك فيه إسرائيل‏,‏ سياسيا وعسكريا وماديا ومعنويا‏,‏ تنفيذ خطة إقصاء عرفات في الوقت الذي تريده‏,‏ دون أن تتعرض لمخاطر جسيمة من وجهة نظرها‏,‏ فإن الجانب العربي لا يملك سياسيا وعسكريا إنقاذ عرفات من مثل هذا المصير‏,‏ كما هو واضح الآن علي الساحة المكشوفة للجميع‏,‏ اللهم إلا من خلال الضغوط المعنوية‏,‏ سواء علي أمريكا‏,‏ أو عبر النافذة الضيقة مع إسرائيل‏,‏ علي غرار مهمة وزير الخارجية المصرية أحمد ماهر إلي تل أبيب قبل أيام‏,‏ والتي قال هو عنها إنها لإبلاغ رسالة إلي حكام إسرائيل من نتائج ما تفعله ضد الفلسطينيين‏,‏ بما في ذلك محاصرة زعيمهم عرفات وحبسه في مسكن صغير برام الله‏,‏ لا يستطيع مغادرته إلا بإذن ضابط صغير‏!‏
وبرغم وحشية شارون وتاريخه الملوث بالدماء والقتل والاغتيالات‏,‏ فإننا نعتقد أنه لن يقدم علي اغتيال عرفات‏,‏ ليس من باب التعفف‏,‏ ولكن من باب المناورة‏,‏ بتحقيق الهدف بطرق أخري تبدو أمام الجميع طبيعية وربما مقبولة‏,‏ استغلالا للضعف بل العجز العربي عن فعل شيء لإنقاذ عرفات ودعمه ومساندته في مأزقه الراهن‏,‏ وانتهازا لفرصة انشغال العالم مع أمريكا في حربها الحالية ضد الإرهاب الدولي‏,‏ التي تحتل الأهمية القصوي والأولوية المطلقة في واشنطن‏,‏ ومن ثم فإن ما يجري في الشرق الأوسط علي أهميته‏,‏ لا يشغلها كثيرا‏,‏ بل يجب ألا يشتت جهودها في الحرب علي الإرهاب‏!‏
لكن شارون ينفذ الآن خطة أكثر خبثا وقسوة‏,‏ ليس فقط لإقصاء عرفات‏,‏ ولكن أيضا لتدمير كل ما يرمز إلي احتمال قيام دولة فلسطينية حقيقية‏,‏ من بنية أساسية وكوادر وقيادات بشرية وقدرات عسكرية واقتصادية وإرادات سياسية أيضا‏.‏ فبعد أن حبس عرفات ـ القائد والرمز ـ في رام الله وقطع عنه الاتصال والتواصل حتي مع غزة‏,‏ بالشكل الذي جري‏,‏ ليفقده شرعيته السياسية أمام شعبه بحكم عجزه‏,‏ وليفقده كرامته الشخصية أمام الجميع‏,‏ يمضي في تنفيذ هدفه عبر مرحلتين واضحتين تماما‏.‏
‏*‏ المرحلة الأولي‏:‏ هي تدمير السلطة الفلسطينية ماديا ومعنويا بشكل كامل‏,‏ من أعلي إلي أسفل‏,‏ بحيث لا يبقي لها وجود حقيقي علي الأرض‏,‏ نازعا عنها كل قدرة علي المقاومة ـ حتي لا تتكرر الانتفاضة مثلا ـ بعد أن ينزع من يدي عرفات حتي أظافره التي طالما خربش بها جسد إسرائيل فأدماه‏.‏
وانظر إلي ما تفعله الصواريخ والطائرات الأحدث في العالم‏,‏ وكلها صناعة ومساعدة أمريكية لإسرائيل‏,‏ في تدمير كل ما هو فلسطيني‏,‏ من آبار الماء ومزارع الزيتون‏,‏ إلي مقار الشرطة ومخازن الأسلحة وقوات الأمن والمطار الفلسطيني الوحيد‏,‏ مرورا بمقر الرئاسة الفلسطينية المرفوع عليه علمها الملون‏!‏
‏*‏ المرحلة الثانية‏:‏ هي إجبار عرفات ورجاله الأقربين علي اتخاذ القرار الأصعب والاختيار الأسوأ‏,‏ وهو الدخول في حرب أهلية مع منظمات المقاومة الفلسطينية الأخري‏,‏ وحشره في صراع داخلي يصفي بعضهم بعضا‏,‏ ليسقط عرفات برصاص رفاقه ويسقط رفاقه برصاص أنصاره‏,‏ وتتحول دائرة الاشتباك والعنف من اشتباك فلسطيني ـ إسرائيلي‏,‏ إلي اشتباك فلسطيني ـ فلسطيني‏.‏
‏***‏
ولقد بدأت الدائرة الجهنمية تدور في ظل ضغوط متداخلة‏,‏ ونشطت السلطة الفلسطينية أخيرا في اعتقال نشطاء المقاومة‏,‏ خصوصا من حماس والجهاد والجبهة الشعبية‏,‏ بل من بين صفوف تنظيم فتح القاعدة الأساسية لعرفات‏,‏ بحجة ضبط الأمن وحماية السلطة من الانهيار ووقف العدوان الإسرائيلي الشرس‏,‏ فضلا عن الضغوط الخارجية خصوصا الأمريكية الداعمة بشكل سافر لإسرائيل ومخططها‏.‏
ويبدو أن أمريكا قد اقتنعت بوجهة نظر شارون‏,‏ ليس فقط في مساواة الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له نيويورك وواشنطن‏,‏ بالهجوم الإرهابي الذي تعرضت له القدس وحيفا‏,‏ فإذا بالتناسق والتناغم الإسرائيلي ـ الأمريكي يبلغ مداه‏,‏ ليس فقط عبر التصريحات السياسية‏,‏ وممارسة الضغط العنيف علي الرئيس الفلسطيني ليعتقل ويحاكم الإرهابيين فورا وبشكل حاسم ونهائي‏,‏ ولكن أيضا عبر الإجراءات علي غرار ما فعلته السلطات الأمريكية أخيرا بمصادرة أموال وإغلاق مؤسسات في أمريكا بحجة تمويلها ودعمها لحماس والجهاد الإسلامي الموضوعتين أصلا علي قائمة الإرهاب‏!‏
وخلاصة الموقف الأمريكي المهموم بالحرب علي الإرهاب الدولي‏,‏ أنه لم يعد أمام عرفات إلا الفرصة الأخيرة‏,‏ حتي لو كان ثمنها الدخول في حرب أهلية مع رفاقه وأنصاره‏,‏ بينما أمام شارون أكثر من فرصة للمضي قدما في تدمير السلطة الفلسطينية واغتيال قياداتها‏,‏ وما بين الضوء الأخضر الذي أعطته واشنطن لشارون‏,‏ وبين الضوء الأحمر الذي وضعته أمام اغتيال عرفات شخصيا‏,‏ يتأرجح الموقف الأمريكي الآن‏,‏ ليحسب حساب ما بعد عرفات الذي سيسقط حتما‏,‏ ولكن بأيدي رفاقه نتيجة لحتمية الاصطدام به‏,‏ في ظل الظروف القاسية التي يعيشها ما بين مطرقة الحرب الإسرائيلية الشاملة عليه المسنودة أمريكيا‏,‏ وسندان الحرب الأهلية الفلسطينية المريرة المفروضة عليه‏,‏ والمطلوبة الآن إسرائيليا وأمريكيا‏,‏ وربما عربيا للأسف‏!!‏
وفي الحالتين يبدو الأفق ملبدا بغيوم سوداء‏,‏ لأن الخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني خصوصا والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموما‏,‏ في حين أن الرابح الوحيد هو شارون ودولته وأمريكا وصقورها‏,‏ ناهيك عن الكارهين العرب لعرفات الذين ملوا حكاية الكفاح الفلسطيني‏!!‏
وبرغم ذلك يبدو أن أحدا لم يحسب بشكل جيد ودقيق‏,‏ حقيقة الحساب الختامي لحشر عرفات بل القضية كلها في هذا المأزق الرهيب‏,‏ خصوصا قضية إقصائه قتلا أو عزلا بأيدي الإسرائيليين أو بأيدي الفلسطينيين‏..‏ إذ أنه برغم كل الملاحظات علي ممارساته عبر السنوات الطوال‏,‏ لا يزال أبرز قيادات الكفاح الفلسطيني منذ الشيخ الحسيني حتي الآن‏,‏ وهو اللاعب السياسي المحنك مهندس التوازنات‏,‏ الذي أجاد معادلة التنقل الحركي النشيط ما بين المقاومة المسلحة والمفاوضة المسالمة‏,‏ وهو كما نظن لايزال كما كان‏,‏ القادر علي ملامسة التوازن بين ألوان الطيف الفلسطيني‏,‏ من حماس والجهاد يمينا‏,‏ إلي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وصقور فتح يسارا‏.‏
وبرغم استسهال شارون لفكرة عزله‏,‏ الأمر الذي يلقي قبولا أمريكيا‏,‏ وربما عربيا باطنيا‏,‏ فإن خلافته ليست بمثل هذه السهولة‏,‏ خصوصا في ظل المزاج الفلسطيني الممرور من ممارسات الجميع ضده‏,‏ عربا وفرنجة‏,‏ المطحون بدبابات إسرائيل وحصارها القاتل‏,‏ لذلك تبقي خلافته محدودة ومحكومة بثلاثة احتمالات هي‏:‏
‏(1)‏ أن تتكاتف كل القوي الضاغطة إسرائيليا وأمريكيا وعربيا أيضا‏,‏ لتمكين حمائم السلطة من الحكم‏,‏ بقيادة رفاق عرفات الحاليين المعتدلين أمثال محمود عباس وأحمد قريع ونبيل شعث والرجوب‏,‏ الذين لا يتمتعون بعناد عرفات ودهائه‏,‏ لكنهم الأقرب إلي خط التسوية المطلوبة أو المرضي عنها‏!!‏
‏(2)‏ أن تقفز الأجيال الجديدة من فتح إلي المقدمة‏,‏ بحكم سيطرتها الميدانية الحالية‏,‏ وهي قيادات راديكالية بحكم السن والمعاناة والفكر والممارسة علي شاكلة مروان البرغوثي ذلك الشاب الذي أفرزته الانتفاضة‏,‏ وصار رمزا لجيلها الثوري الصاعد‏.‏
‏(3)‏ أن تتصدر الواجهة المنظمات الأكثر راديكالية مثل حماس والجهاد الإسلامي‏,‏ وربما مع الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية‏,‏ وهي الآن الواقعة بين فكي الكماشة‏,‏ اغتيالات إسرائيل لكوادرها‏,‏ واعتقال عرفات لقياداتها‏..‏ في حين تكتسب هي شعبة وأرضا جديدة كل يوم‏,‏ بفضل تصديها وتضحياتها ومقاومتها للعدوان والضغوط معا‏.‏
الأمر إذن أقسي وأمر مما يتصور الجميع‏,‏ خصوصا الذين يتهافتون علي أية تسوية وصلح‏!!‏(الأهرام المصرية)