عام 1985 استقبل الاتحاد السوفياتي باعجاب مجيء غورباتشيوف ذي الاربعة والخمسين عاما الى السلطة. وعلى رغم ان سيرته لم تميزها الفعال البطولية فانه امتاز عن غيره من زعماء الاتحاد السوفياتي الشائخين بالقدرة على التنقل بنفسه دون عون وعلى نطق العبارات كاملة. ولم يكن امرا مهما انها كانت مشوشة وقليلة الاقناع. فالبلاد كانت تعيش مفعمة بأمل التغيير القريب.
غير ان غورباتشيوف ما عتم كسابقيه ان بدأ اصلاحات باساليب متطرفة. فصوّب اول سهامه في اتجاه صناعة الخمور. فبموجب مرسوم صادر عنه اغلقت مصانع انتاج المشروبات الكحولية حتى النبيذ والبيرة، وقطعت دون رحمة دوالي الكرمة، واغلقت البارات والمطاعم. وكما في الولايات المتحدة في العشرينات حل صانعو الخمور في السر محل الدولة في السوق.
في تلك الحقبة راح الغرب يكيل المديح لعراب "البيريسترويكا" فيما المستوى المعيشي للسكان في حدود الوطن راح يتهاوى، وارتدت تجارب اصلاح البلد تشكيلا للجريمة المنظمة، واستعرت في اطرافه النزاعات القومية الدامية، وحل محل الحريات المدنية الفعلية انهيار جهاز الدولة والقوى الامنية.
لقد كان الاتحاد السوفياتي فعلا بلد التناقضات. فكانت من جهة اعمال القمع ضد الشعب تحت راية القضاء على العدو الطبقي. والاتحاد السوفياتي بالذات من جهة اخرى ساهم مساهمة حاسمة في انقاذ العالم من الفاشية. ولم يكن الاتحاد السوفياتي، اضخم دولة صناعية وعلمية غزت الفضاء الكوني على قدر المساواة مع الولايات المتحدة، قادرا على اشباع سوقه الاستهلاكية.
من الخطأ اعتبار كون هلاك الاتحاد السوفياتي قدرا محتوما. فالبلد الذي تكوّن مدى الف سنة عابرا كثرة من ازمنة الفتنة، وممسكا برحاب اراضيه حتى بعد ثورة اكتوبر والحرب الاهلية، كان يمتلك كل شروط الحفاظ على نفسه. غير ان تنظيم ادارة البلاد تنظيما غير فعال كنتيجة مباشرة لسياسة الحزب الشيوعي السوفياتي الانعزالية والجهل المعهود للزعماء السوفيات افضيا بالبلد الى مأساة عام .1991
في اي حال، غالبا ما تتغير الخريطة السياسية للعالم على رغم القواعد والاعراف الدولية والوطنية. فالاتحاد السوفياتي لم يعد موجودا على رغم ارادة مواطنيه الذين اظهروا في استفتاء 17 اذار 1991 رغبة في الحفاظ على البلد واجراء تحويلات ديموقراطية فيه.
العصر الجديد جلب المئات من النزاعات المسلحة وملايين المآسي البشرية ليس فقط في اراضي الاتحاد السوفياتي سابقا، بل في مناطق اخرى من العالم ايضا. ولذا نجد ان الحنين الى الاتحاد السوفياتي، الى زمن الاستقرار والسلام، هو حنين طبيعي جدا. بيد ان الانفعالات العاطفية ليست افضل عون في السياسة الواقعية.
العالم من دون الاتحاد السوفياتي
مع حلول نهاية القرن العشرين باتت "الحرب الباردة" كابحا للتطور الدولي. فبينما كانت الدولتان العظميان - الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة - تتواجهان، كانت البلدان الاخرى في العالم تختار من تختار من بينهما. وكان هذا يسهل على قيادة الاتحاد السوفياتي تحقيق فكرة التوسع الشيوعي. الا ان عبء الانظمة الموالية للسوفيات التي كانت موالاتها هذه تشترى شراء مبتذلا كان يكلف موازنة الدولة غاليا. اما اليوم فأمام روسيا مجال اوسع للمناورة السياسية، واتخاذ القرارات يرتكز على البراغماتية والاعتماد على ما هو في مصلحة الوطن.
ان الولايات المتحدة هي اليوم الزعيم العالمي الاوحد بلا منازع. الا ان البلدان الاخرى ما عادت في حاجة الى السير في ركاب سياسة "الأشقاء الكبار". وتنشأ في العالم أقطاب جديدة تعبر بشجاعة متزايدة عن استقلال موقفها السياسي. فالصين البالغ عدد سكانها مليارا ونصف مليار تقريبا والنامية بسرعة، والهند وباكستان كعضوين في نادي الدول النووية "الخفي"، واندونيسيا بنفوذها القوي في العالم الاسلامي والعالم العربي نفسه - كل هذه البلدان باتت تعني شيئا في السياسة الدولية ولها مواقفها التي لا توافق الولايات المتحدة دائما.
وقد تحصل تناقضات ايضا بين البلدان الرائدة اقتصاديا: الولايات المتحدة واوروبا واليابان، لكن الاعتماد على الديموقراطية والسلام في ظل وجود مؤسسات دولية فاعلة يعين على حل هذه التناقضات بسهولة ودون عنف.
لم تكن علاقات روسيا الديموقراطية بالغرب طريقا سهلا. فتمدد حلف شمال الاطلسي "الناتو" وخطط الولايات المتحدة لنشر درعها النووية القومية، وقصف يوغوسلافيا ربيع 1999 الذي عزز النزعة العسكرية لدى ألبان كوسوفو فغزوا بعد مرور سنتين بقوة السلاح مقدونيا، والملامة على معارك الشيشان - كل هذه الامور كانت تثير الامتعاض في كلا الطرفين.
فقد في الاشهر الاخيرة تقاربت مواقف الجانبين فعلا بعد الهجمات الارهابية على نيويورك وواشنطن في 11 ايلول. فالقيم الديموقراطية والانسانية الجامعة والدفاع عن حقوق الانسان تبين& انها تقرب أقل مما تقرب الاخطار الفعلية المشتركة.
أولويات السياسة الخارجية الروسية
ان روسيا حريصة على وجود أنظمة مستقرة وصديقة عند جيرانها الاقربين، في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا. وثمة علاقات خاصة لروسيا مع بيلوروسيا. فقادة بلدينا قرروا استنادا الى ارادة الغالبية الساحقة من مواطنينا اقامة دولة اتحادية. واني واثق من ان تقارب مينسك وموسكو سيعزز في بيلوروسيا القوى الديموقراطية الجديدة.
وستواصل روسيا ايضا الاصرار على مراعاة حقوق الانسان مراعاة صارمة في بلدان البلطيق ومنح من يسمون "اللامواطنين" كل حقوقهم السياسية والمدنية.
لقد دعمت روسيا العملية المناهضة للارهاب في افغانستان. وعلى رغم ان القوات الروسية لا تشارك في القتال، يبقى التفاعل السياسي النشيط وتعاون الاستخبارات اقرب بكثير مما كان حتى خلال الحرب العالمية الثانية.
من المعلوم ان الولايات المتحدة هي التي كانت وراء انشاء منظمات مثل "القاعدة" ودعمها وتمويل اسامة بن لادن عندما كان هذا يحارب القوات السوفياتية في افغانستان. ولا بد للبلدان المتحضرة من ان تستوعب اخيراً انه لا يجوز حتى في الصراع ضد الخصم ايلاد المسخ لانه سيلتهم حتماً والديه.
ولا بد اليوم من تقديم اقصى المعونة لافغانستان كي تسترجع استقرار السلطة فيها. وان روسيا لترحب بقرارات مؤتمر بون في شأن تشكيل حكومة ائتلافية للمرحلة الانتقالية في افغانستان، وهي مستعدة لتقديم اكثر ما يمكن من المساعدة لحل المشاكل الانسانية الطابع وللحفاظ علي السلام على حدود افغانستان. بيد ان اي وجود عسكري يجب الا يستمر في افغانستان اكثر من فترة القيام بالعملية نفسها، وموقفنا وموقف الولايات المتحدة في هذا الشأن متفقان تمام الاتفاق.
واليوم نضجت ضرورة صوغ قواعد حقوقية دولية جديدة لمكافحة الارهاب الدولي. فهذا النوع من الاخطار ليس له تعريف حقوقي بعد، واي عمل مناهض للارهاب يمكن ان يتحول ارهاباً رداً على ارهاب وهيهات ان يمكن آنئذ اخماد سعار الحرب.
ان حلف شمال الاطلسي المهيأ لخوض صدامات جبهوية واسعة لم يستطيع ان ينظم مكافحة الارهاب بالسرعة المطلوبة. غير ان تقارب روسيا المرتسم في الافق مع هذه المنظمة يمكن ان يتيح صوغ سبل تحسينها معاً من اجل مواجهة الاخطار الواقعية التي اهمها اليوم الاول.
وانه لواضح لنا تمام الوضوح ايضاً ان قاعدة الارهاب هي في بقاء التناقضات على احتدامها باستمرار بين اسرائيل والعرب، هذه التناقضات التي تنتشر كالموج بين العرب وتستنفر اعمالاً ارهابية جديدة في العالم. وان الحل السياسي لهذا النزاع العميق الجذور والمزمن ليس ممكناً الا بإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية فعلاً.
وان موسكو تواصل اصرارها على ضرورة حماية معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ وصونها المعقودة عام 1972 والحافظة الاستقرار الاستراتيجي في العالم مدى السنوات الثلاثين الاخيرة. وحتى الآن لم يسع الولايات المتحدة ان تعثر لها على بديل تعرضه علينا. والواضح تماماً ان الزمن لا يتوقف وان من الضروري البحث عن اجوبة لمواجهة الاخطار والتحديات الجديدة. وان اعادة النظر في المعاهدة في اتجاه تطويرها وتحسينها لا بد من ان تتطابق والاجراءات التي تفرضها هذه المعاهدة وان تكون موضع تفاوض وتشاور وتوافق بعد تنازل.
واريد هنا ان اشير الى ان روسيا مستعدة لتنفيذ كل ما عليها من واجبات دولية في شأن الديون. ونحن اليوم على استعداد لتعزيز علاقات عملية مع الغرب من غير ان نكون في حاجة الى البر والاحسان من جانبه. فنحن نريد علاقات ذات نفع متبادل وبرغماتية ونريد ان نحصل على المال بحسب القواعد نفسها التي تعتمدها بلدان الديموقراطيات المتقدمة.
وتقاربنا مع الولايات المتحدة المرتسم في اطار التحالف المناهض للارهاب لا يلغي في الوقت نفسه الاتجاه الاوروبي التقليدي في السياسة الخارجية الروسية والتعاون الوثيق مع المؤسسات الاوروبية في مسائل الامن والاقتصاد وحماية حقوق الانسان.
بعد 10 سنين بات التحول الى السوق والديموقراطية في روسيا لا رجعة عنه. غير ان امكانات تعاونها فعلاً مع الغرب تبقى امكانات كامنة غير مستدعاة. وان الاخطار الجديدة اياها، المشتركة بين اطراف العالم المتحضر، هي لعمري اشارة تدعو الى اعادة النظر جذرياً في الاولويات الدولية من اجل السلام والتفاعل الاقتصادي والامن المشترك. (النهار اللبنانية)
*رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما