ما زلت أحتفظ بإحدى قصاصات الورق التي أُلقيت على مدينة بيروت في أحد ايام شهر حزيران من عام ،1982 والتي تحمل تحذيراً مرعباً باللغة العربية: إنجوا بحياتكم. سوف يدخل الجيش الاسرائيلي المدينة قريباً. أهربوا طالما تستطيعون ذلك.
لقد كانت تلك رسالة من الاسرائيليين، الذين توقعوا ان يشعر المقاتلون الفلسطينيون الذين كانوا يدافعون عن الحدود الجنوبية للمدينة بالذعر، وان يعمدوا الى الفرار. الا أن خطوط منظمة التحرير الفلسطينية صمدت في ذلك اليوم رغم القصف الضاري والهجوم الجوي، واضطر الاسرائيليون الى فرض حصار صعب على بيروت دام طوال فصل الصيف.
لا اعرف ما اذا كانت اسرائيل قد تمكّنت، حتى يومنا هذا، من تعويض السلبيات التي عانتها في لبنان. وكان من المفترض ان تحل تلك الحرب المشكلة الفلسطينية، عبر دفع ياسر عرفات الى خارج ملاذه. وهي عجلت فعلاً بانزلاق عرفات نحو سوء طالعه الحالي، الا أنها ساهمت كذلك من جهة اخرى في إثارة موجة العنف الاسلامي الذي يربك اسرائيل اليوم على نحو مأسوي.
كان آرييل شارون مهندس المغامرة اللبنانية. اذ أقنع رئيس الحكومة مناحيم بيغين بالقيام بضربة النرد هذه، بهدف اعادة قولبة لبنان كدولة تابعة لاسرائيل. وفشلت هذه المحاولة الى حدّ كارثي، وترك بيغين موقع الحكم وهو في حال يأس. وكتبت بعد لقائي به للمرة الاخيرة في القدس، أنه بدا كرجل محطّم، يلازمه شعور متزايد بأن فشل مغامرته في لبنان قد جعل وطنه العزيز اسرائيل أشدّ ضعفاً عما كان عليه عند توليه رئاسة الحكومة.
السيد شارون هو رئيس الوزراء الآن، بعد مرور 19 عاماً على تلك الاحداث، وهو مكلّف بمهمة ضمان أمن بلاده. وهو يبدو نوعاً ما اقل تهوّراً من الجنرال الذي اجتاح لبنان عام ،1982 رجل منحته أخطاؤه، والطبيعة العنيدة التي يتسم بها كفاحه، بعضاً من الرصانة والاتزان.
إن مشاهدة الصور التي التُقطت في اسرائيل خلال الاسبوع الماضي كانت كافية لتدفع المرء الى البكاء، بمرارة وعجز. قُتل عشرة مراهقين اسرائيليين في القدس مساء السبت على يد ارهابيين انتحاريين كانت قنابلهم مسلحة بالاظفار والبراغي والعزقات والمسامير، وكل ما يمكن ان يمزّق جسد الانسان. كما قُتل فتى فلسطيني يبلغ من العمر 17 عاماً، وهو في طريقه الى المدرسة، نتيجة غارة انتقامية اسرائيلية. وما كل هذا سوى اسبوع آخر من مسلسل السقوط الاسرائيلي - الفلسطيني نحو الجحيم.
ورغم أنني أشعر بالأسى الشديد بإزاء ضحايا الارهاب الاسرائيليين، الا أنه يبدو واضحاً، وعلى نحو متزايد، ان سياسة اسرائيل في المدى البعيد بإزاء الفلسطينيين ليست ناجحة، فمزيج التلويح بالطُعم والضرب بالعصا - اي المفاوضات والقصف - أدى الى نتيجة واحدة هي خفض قيمة الاسلوبين، اذ لا يخاف الفلسطينيون من تهديد الانتقام الاسرائيلي، ولا يتحمسون لوعود السلام. بل هم يصبحون بدلاً من ذلك اكثر جرأة وأشد يأساً على مرّ السنين. واسرائيل تصبح من جهتها أقل أماناً.
مما لا شك فيه أن الأمل الافضل للحد من هذا النزاع يكمن في تغييرات عملية قد تقنع الاسرائيليين والفلسطينيين العاديين بأن حياتهم تتجه نحو الافضل. ولن أجعل من "السلام" هدفاً، لأن ذلك يشكّل مغالاة في الامل في الوقت الراهن، بل اقترح بكل بساطة "الاستقرار". فوضع اكثر استقراراً. كبداية، هو ذلك الذي قد يُشعر الوالدين بأن ابناءهم في أمان.
لم يأخذ الاسرائيليون والفلسطينيون يوماً في الاعتبار التغييرات التي قد تنعكس على حياة الناس العاديين، ولهم في ذلك اسبابهم الخاصة فلطالما كان التركيز منصبّاً على طاولة المفاوضات، حول مسائل وصيغ مجردة. فيتحدث الاسرائيليون عن إزالة المستوطنات - على ان يتم ذلك لاحقاً، اي بعد توقيع المعاهدة. كما يتحدث الفلسطينيون من جهتهم عن كبح الارهاب - لكن لاحقاً ايضاً. وفي تلك الاثناء، لا يطرأ على الارض سوى تغييرات قليلة للغاية. وبعدما أوجدت اتفاقات اوسلو السلطة الفلسطينية، سادت أجواء التفاؤل في الطرفين، الا أن هذه الاجواء لم تُعزّز بتدابير عملية لاحقة تهدف الى دعم الشعور بالأمن والاستقرار. فاستمرت المستوطنات في التوسع، ومثلها خلايا الارهاب. وذلك سبب جزئي في تفجّر الاوضاع الى حدّ كارثي بعد انهيار مفاوضات كمب ديفيد عام .2000 اذ لم يكن ثمة أسس متينة تحول دون ذلك.
يجب على الولايات المتحدة ان تصرّ هذه المرّة على أن يقوم الطرفان بشيء ملموس، على الارض، والآن، بغية معالجة المشكلات التي تدفع بالناس الى الجنون من حياتهم اليومية. ويجب أن يجمع الرئيس جورج بوش ائتلافاً من اجل السلام يتحلى بالتصميم نفسه الذي يتسم به ائتلاف الحرب الذي انتصر في أفغانستان، بغية طمأنة الطرفين على حدّ سواء في حين يتخذان خطوات لوضع حدّ للعنف ولاعادة الاستقرار.
وما يجب أن يتخلى عنه الطرفان خصوصاً، هو الاعتقاد بأنه يمكن تخويف اي منهما او ترويعه بهدف إخضاعه.
لقد اجتاز الاسرائيليون مسافة طويلة ومحزنة منذ عام .1982 وخوفي هو أن تكون جرأة الفلسطينيين قد ازدادت نتيجة انتحارهم القومي، وأن يكون هذا النزاع قد أفقدهم حقاً صوابهم الى حدّ أنهم باتوا يفضلون الثأر (و"الكرامة" المزعومة التي يؤمّـنها) على السلام.
طوال عقد كامل، حذّر المتشدّدون الاسرائيليون من أنه اذا قامت الدولة اليهودية بتنازلات على غرار تلك التي قدّمها ايهود باراك في كمب ديفيد، فإن الفلسطينيين سوف يعتبرون ذلك ببساطة علامة ضعف وسوف يضغطون للحصول على المزيد. وإنني أرجو أن تكون وجهة النظر المتشائمة هذه خاطئة. لأنها لو كانت صحيحة فإن هذه الحرب ستطول من دون شك، لأن الاسرائيليين، على غرار الفلسطينيين، ليسوا مستعدين للاستسلام.
كتب ويليام باتلر ييتس في احدى قصائده: "إن تضحية طويلة قد تحوّل القلب حجراً"، وكان يتحدث آنذاك عن النزاع بين الانكليز والايرلنديين. وفي حين تنزف قلوبنا من أجل الاسرائيليين والفلسطينيين، ندرك في الوقت نفسه، مثلما كتب ييتس، ان "الحجر موجود في قلوب الجميع". (النهار اللبنانية)
ترجمة جمانة حداد
عن "الانترناشونال هيرالد تريبيون"
رئيس تحرير "الهيرالد تريبيون"
&