كتب حلمي موسى: تحاول الحكومة الإسرائيلية اختراع تدابير وتعابير جديدة للتعامل مع متطلبات مواجهة الانتفاضة. وبعد أن أعلنت أن السلطة الفلسطينية "كيان يدعم الإرهاب"، لم تجد بعد عملية مستوطنة عمانويل، أمس الأول، بداً من الإعلان عن أن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات <<غير ذي شأن>>. وبمعنى آخر وكأنه غير موجود. غير أنه مثلما لم يقد القرار الأول إلى إيقاف الانتفاضة أو تحقيق الهدف المرجو أي إحداث حرب أهلية فلسطينية، فمن غير المتوقع أن يقود القرار الثاني إلى تحقيق هذه الأغراض.
وكان المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية برئاسة أرييل شارون قد قرر في نهاية اجتماع دام أكثر من ثلاث ساعات العمل على تحييد رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. وجاء في القرار أنه في أعقاب العمليات الصعبة في عمانويل حيث قُتل عشرة وأصيب 28 آخرون بجروح، وفي غوش قطيف حيث أصيب عدد من المستوطنين <<لم يعد عرفات ذا شأن من ناحية إسرائيل ولن تجري أي اتصالات معه>>. وجاء في القرار أيضا أن دولة إسرائيل لن تجري أي مفاوضات معه، وأنه بعد أن يتوقف الإرهاب ستعمل إسرائيل على إقامة حوار مع جهات أخرى أكثر براغماتية.
وتم الإعلان عن هذا القرار بصورة مثيرة بعد منتصف ليلة أمس الأول، حيث أشير إليه بوصفه نقطة تحول جوهرية في علاقة الحكومة الإسرائيلية مع رئيس السلطة الفلسطينية. ولكن وزير العدل الإسرائيلي مئير شطريت اعتبر القرار بمثابة نقطة التوازن بين مختلف الآراء والتيارات داخل الحكومة. ومعروف أن القوى اليمينية المتطرفة في حكومة شارون، مثل الاتحاد القومي إسرائيل بيتنا طالبت بإعلان نية إسرائيل تدمير السلطة الفلسطينية. وذهب وزراء حركة شاس، الى حد المطالبة بتدمير المدن الفلسطينية. ومن المؤكد أن شارون يحاول من خلال هذا القرار توجيه رسالة واضحة لجميع الأطراف الداخلية عنده. فلليمين المتطرف يقول، ها هو عرفات خارج دائرة الحوار. ولحزب العمل يقول ها أنتم ترون أنني لم أوافق القوى اليمينية على مطالبها. والأهم انه يعتبر مثل هذا القرار وكأنه لا زال يقع في دائرة التفاهم مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش. إذ ان القرار لن يمنع عمليا اتخاذ قرار مناقض له قريبا، خاصة أنه من الوجهة العملية لن يغير شيئا. فمهمة الجنرال الأميركي أنطوني زيني لا زالت قائمة، كذلك تستمر الوساطة الأوروبية، وكل ذلك يجري مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
وألقى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر بالمسؤولية عن العمليات على عرفات والسلطة الفلسطينية، وجرى على وجه الخصوص التشديد على الادعاء أن منفذي عملية مستوطنة عمانويل كانوا ضمن قائمة الثلاثة وثلاثين اسما التي قدمتها إسرائيل للسلطة الفلسطينية عبر الجنرال زيني. وقد طلبت إسرائيل اعتقال هؤلاء على الفور لكونهم <<قنابل موقوتة>>.
وبرغم حدة القرار، فإن المجلس الوزاري الإسرائيلي قرر كذلك عدم المساس <<بدنياً>> برئيس السلطة الفلسطينية وعدم القيام بإبعاده. وهذا ما اعتبره المعلقون الإسرائيليون عملية <<تحييد وتجاهل لمكانته داخل السلطة الفلسطينية>>. وتجري عملية التحييد هذه بعد إكمال محاصرة عرفات في مدينة رام الله والشروع بقضم أحياء هذه المدينة واحدا بعد الآخر. وتأمل إسرائيل بأن يقود استمرار فعلها العسكري إلى دفع الفلسطينيين إلى إتمام المهمة بدلاً عنها، بتنحية رئيس السلطة أو التخلص منه.
وتحدث قرار المجلس الوزاري المصغر عن منح الجيش الإسرائيلي <<ضوءا أخضر>> لعملية واسعة. وجاء في القرار ان <<المجلس الوزاري الأمني يصادق على العمليات العسكرية التي اقترحها وزير الدفاع ورئيس الأركان في اجتماع المطبخ الصغير في جلسته هذا المساء. وسوف يستعد الجيش الإسرائيلي بسرعة للعمل في نطاق المدن في الضفة والقطاع لتنفيذ عمليات اعتقال ومصادرة وسائل قتالية>>. وأضاف القرار ان <<المؤسسة العسكرية ستعرض أمام المجلس الوزاري المصغر في أسرع وقت طرق تكييف أنماط القتال ضد حماس والجهاد الإسلامي والمنظمات الإرهابية الأخرى، في ضوء تفاقم العمليات الإرهابية>>.
ولإظهار الوجه الإنساني لحكومة شارون قرر المجلس الوزاري المصغر أيضا <<مساعدة السكان الفلسطينيين قدر الإمكان>> وتجاوز عرفات. وقد جاءت هذه الفقرة لتأكيد أن إسرائيل لا تخوض حربا ضد الفلسطينيين لأن إسرائيل <<ترى في السلطة ورئيسها المسؤولَين المباشرين عن الوضع البائس للجمهور الفلسطيني. وحكومة إسرائيل ستواصل بذل كل ما في وسعها لمساعدة هذا الجمهور>>.
وأعلن المجلس الوزاري الإسرائيلي انه لن تجري بعد الآن أي لقاءات أمنية مع الفلسطينيين، وأنه جرى إصدار التعليمات المناسبة للجيش لتنفيذ قرارات المطبخ الصغير والشروع بعملية عسكرية واسعة النطاق في المناطق المحتلة.
<<عملية عسكرية متدحرجة>>
أخرجت عمليات الشهر الجاري الحكومة الإسرائيلية عن طورها. وحتى الآن تكبد الإسرائيليون في ظل حكومة شارون أكثر من ثمانين قتيلاً. ولكن الشهر الجاري مثّل ذروة خيبة أمل الإسرائيليين في امكانية انجاز شارون لوعده بجلب الأمن، من دون الحديث عن وعد تحقيق السلام. وحسب صحيفة <<هآرتس>>، فقد نجحت الانتفاضة في تغيير معادلة الخسائر. وطوال كل شهور الانتفاضة ما عدا حزيران (عندما وقعت عملية ملهى الدلافين) كانت نسبة القتلى الاسرائيليين تتراوح شهريا ما بين 5025% من عدد الشهداء الفلسطينيين. غير ان معطيات كانون الاول الحالي مختلفة تماما. فقد لقي حتى الآن 39 اسرائيليا مصرعهم مقابل 28 فلسطينيا. وتضاف الى ذلك حقيقة انه بات ينغرس في الذهن الاسرائيلي اكثر من اي وقت مضى، ان القواعد التي تحكم القتال في المناطق الفلسطينية المحتلة هي نفسها القواعد التي حكمت القتال في الجنوب اللبناني. وهذا ما يدفع العسكريين والساسة والمعلقين في اسرائيل الى استخدام المصطلحات نفسها تقريبا.
وتوصف العملية العسكرية الاسرائيلية الجارية بأنها <<عملية متدحرجة>> بمعنى انها تزداد شدة مع مرور الوقت، وحسب ردود فعل الخصم. وقد سبق لإسرائيل ان اطلقت مثل هذا الوصف على عمليات <<تصفية الحساب>> و<<عناقيد الغضب>> في لبنان.
وترى اسرائيل ان العملية العسكرية الحالية سوف تستمر أياما، وهي تشمل ردود فعل اكثر حدة من السابق على العمليات الفلسطينية. وشرع الجيش الاسرائيلي بتنفيذ غارات جوية مكثفة على مقرات الشرطة والقوة 17 وأي منشآت ذات طبيعة رمزية للسلطة الفلسطينية، مثل حرم المقر الرئاسي، الاذاعة، والمطار الدولي. غير ان العمليات الاسرائيلية لم تشهد، من الوجهة الواقعية، على اي جديد جوهري، وهي لا تحمل في طياتها سوى زيادة عددية. ويمكن القول ان جميع الخطوات الاسرائيلية الجديدة اتخذت بالشكل نفسه في السابق ومرات عديدة.
ومع ذلك، فإنه بمرور الوقت تتحدد الاهداف السياسية والعسكرية لنوايا شارون. ومعروف ان شارون لم يخف يوما احتقاره لاتفاق اوسلو وبالتالي للسلطة الفلسطينية التي نشأت عن هذا الاتفاق. ولذلك فإنه وبعد ان اتخذ الخطوات السياسية الكفيلة بوضع أسس تقويض السلطة الفلسطينية، يقوم حاليا بتنفيذ الخطوات العسكرية.
ومن الواضح ان اسرائيل من الوجهة السياسية، وبعد ان اعتبرت السلطة كيانا يدعم الارهاب، وأخرجت رئيس السلطة عن دائرة <<ذوي الشأن>>، فإنها تقوم بعملية قضم تدريجية لمناطق السلطة. وبذلك، يمكن ملاحظة ملامح الهجوم الاسرائيلي على النحو التالي:
اسرائيل تخوض اليوم حرباً شاملة ولكن من دون الاعلان عن ذلك ضد السلطة الفلسطينية. وتحاول اسرائيل إضفاء سمات <<لعبة الحرب>> على هذه الحرب تخفيفا للآثار الاقليمية والدولية لاعلان الحرب.
ألغت اسرائيل عمليا ونظريا اي قيمة لحدود وسيادة السلطة الفلسطينية، وبالتالي لم يعد هناك اي معنى للمنطقة <<أ>> من وجهة نظرها.
ومع ذلك، تريد اسرائيل بقاء <<الطرف الثالث>>، وهو السلطة الفلسطينية، للضغط عليه لمواصلة العمل ضد فصائل المقاومة الفلسطينية. اذ انها لا تريد تكرار التجربة اللبنانية التي انعدم فيها، في وقت حاسم، وجود سلطة يمكن ممارسة الضغط عليها لقمع المقاومة. كما ان اسرائيل لا يمكنها المراهنة كثيرا على احتمالات الضغط على الجمهور الفلسطيني للانقلاب على عناصر مقاومته.
<<تصفية حساب>> داخلية
تتصاعد الاصوات داخل الحكومة الاسرائيلية وخارجها محذرة من الوضع الراهن المتفجر. وفي حين يحذر البعض من حالة الفوضى التي يمكن ان تنجم عن السياسة الاسرائيلية الراهنة، يحذر آخرون من ان حشر عرفات في الزاوية سيدفعه الى الزج بأفراد أجهزة الأمن الفلسطينية الى المعركة. وهذا ما دفع شمعون بيريز الى التساؤل في جلسات الحكومة عن سبب <<الاستحواذ>> المَرضي لعرفات والسلطة الفلسطينية في عقل شارون واليمين، وعن سبب عدم توجيه ضربات لحماس والجهاد الاسلامي.
وفي كل حال، فإن حكومة شارون، وخلال ايام معدودة، تتعرض للمرة الثانية لهزة كبيرة، ان لم تكن حقيقية، فعلى الاقل إعلامية. إذ هدد حزب الاتحاد القومي اسرائيل بيتنا بأنه اذا لم تقم الحكومة الاسرائيلية بتقويض السلطة الفلسطينية، فإن هذا الحزب سيعمل على تقويض حكومة الوحدة. وبالمقابل، ابلغ شمعون بيريز وزراء حزب العمل ان على هذا الحزب ان يدرس امر استمرار وجوده في الحكومة. وقال: <<اذا استمرت الحكومة في هذا الطريق>>، اي الهجمات العسكرية الواسعة على السلطة، <<فعلى الحزب التفكير بالانسحاب>>. وقال: <<ان حماس والجهاد يعملان ضدنا ونحن نضرب عرفات>>.
ومع ذلك، فإن اليمين الاسرائيلي يواصل التشكيك بخطوات شارون العسكرية، ويرى انها ليست كافية لقمع الانتفاضة الفلسطينية. وتنوي حركات يمينية شن حملة تظاهرات ضد شارون لأنه لا يحارب بشكل حازم السلطة الفلسطينية وياسر عرفات.(السفير اللبنانية)