أتاحت الحرب علي الإرهاب للولايات المتحدة تحويل بلد هو أفغانستان إلي حقل تجارب لقنابلها الثقيلة، فهي تدرجت في استخدامها في المعارك من مزار الشريف إلي قندوز إلي تورا بورا. لم يحدث قتال في هذه الحرب، وإنما حصل تدمير. ولعل المواجهة الوحيدة - التقليدية - وقعت في قلعة جانغي بين الأسري ومقاتلي التحالف الشمالي وبعض عملاء الاستخبارات الأميركية، تبعها قصف مركز علي أسري مقيدين قتلوا جميعاً أو قضي معظمهم قبل احصائهم وتسجيل اسمائهم.
في اليومين الأخيرين تبين أن الكهوف الاسطورية التي تحدث عنها الإعلام الغربي لم تكن لتصمد أمام آلة التدمير، وهو ما كان يعرفه الخبراء منذ زمن. وهكذا شهدنا، كما في حال كابول، انهياراً سريعاً لتنظيم القاعدة ، فلا الموانع الطبيعية ولا ظروف حرب العصابات استطاعت أن تطيل المواجهة، ولم يكن أحد يتوقع تطوراً مختلفاً، لكن البروباغندا الحربية ضخّمت العدو، ونفخته لتبرر الحجم الناري الهائل المستخدم ضده.
عملياً، قضي علي تنظيم القاعدة ، فلم تعد له أرض يتحرك منها، ولم تعد له بنية يعتمد عليها. أما قيادته فإما أن أشخاصها قضوا تحت الركام أو سيقضون في ما تبقي من جيوب في جوف الجبل، أو أنهم هربوا واختفوا ولن يستطيعوا الظهور قريباً، ولن يتمكنوا من إعادة احياء تنظيمهم في أجل منظور. ومهما تصوّرنا أنهم تحوّطوا للنهاية وخططوا لما بعد اختفائهم، إلا أنهم لم يتخيّلوا يوماً أن هذا سيكون مصيرهم أو أن حرباً عالمية ستشن عليهم، وبالتالي فإنهم لم يستطيعوا علي الأرجح بناء تنظيم بديل يكمل المهمة بعد اندثار القاعدة .
مشكلة الأميركيين أنهم جعلوا من القاعدة علي أرض أفغانستان ركاماً يستطيعون أن يقلبوا في حجارته وأوراقه وبقاياه إلي ما لا نهاية، لكنهم لن يستطيعوا ان يقولوا إنهم أبادوا هذا التنظيم ولم يعد له وجود إلا بعد مضي وقت، وإلي أن يخرجوا من حال الصدمة والهياج التي فرضتها عليهم تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر).
والأهم، الآن، ماذا سيفعل الأميركيون بهذا الانتصار الذي حققوه علي أرض أفغانستان، وإلي أي حد ساهم في ارضاء غطرستهم، طالما أن لديهم غطرسة وليست لديهم سياسة. فالغطرسة تملي خططاً للثأر المستديم وتقلب في الملفات القديمة، أو تحاول اسقاط الحدث الإرهابي علي ملفات ونزاعات لا تزال قائمة وساخنة. أما السياسة فتهتم بمعالجة الأسباب التي أوصلت العالم إلي 11 أيلول. وهذه المعالجة تفترض أن تتحمل الدولة العظمي الوحيدة مسؤوليات طالما تهربت منها بإملاء ما تريده لا ببلورة ما يجب أن يكون.
فالتحدي الحقيقي للولايات المتحدة، وللعالم عموماً، هو أن لا تنشأ ظروف تعيد انتاج تنظيم قاعدة آخر، ولو بعد سنين. لكن المنهج الأميركي المتبع حالياً يقود حتماً إلي تشجيع الإرهاب نقمة علي الولايات المتحدة نفسها وعلي الأنظمة التي تخضع لاملاءاتها. ولم ينسَ أحد أن واشنطن كانت لها رغباتها واخطاؤها في ما حصل في أفغانستان من أيام الجهاد ضد السوفيات إلي تسليط طالبان ، وإذا كانت الحرب الأخيرة شقت طريقاً جديداً للأفغان كي يعيدوا بلدهم إلي الخريطة ودولتهم إلي الوجود، فإن هذا حصل بمحض صدفة 11 أيلول، وإلا لكانت واشنطن واصلت مسلسل اخطائها.
هل ينتقل المسلسل إلي مكان آخر، بأخطائه أيضاً؟
كل المؤشرات تؤكد ذلك، خصوصاً بعد الانحياز الأميركي الفجّ لوحشية ارييل شارون، وبعد ارتضاء واشنطن اهانة الفلسطينيين كشعب وزعيمهم كرمز. كما أن تصريحات المسؤولين الأميركيين عن حزب الله اللبناني، أو حتي عن العراق والسودان والصومال، تنم عن روح ثأرية أكثر مما تعبر عن سياسة تليق بدولة عظمي تتحمل مسؤولياتها.(الحياة اللندنية)