كل شيء في هذا العالم يبدأ وكل شيء الى انقضاء. في الخلق كان هكذا بمعنى ان الله مبدىء الأشياء. ولكن على صعيد التاريخ كل حدث مرتبط بما هيأ له ويتمخض عن حدث آخر وتتداخل الأشياء بصورة لا متناهية التعقيد. والدنيا دائما تنكسر وتتفتت والناس حزانى وفقراء. وميدان العطب هو أولاً خطايانا وثانياً خطايا الأكابر في العالم الذين يصنعون بالظلم التاريخ البشري. وفاجعة الفرد أنه اذا واجه الإغراء الذي يهدده أو المعاصي التي يخشاها يرى نفسه عاجزاً عن التصدي لما يقرره الكبار لأنه يصدر عن نفوس ابليسية بيدها مقادير الأمور. والشيطان المنتشرة وساوسه في العقول السياسية الكبيرة هو رئيس هذا العالم كما يسميه إنجيل يوحنا.
ماذا يعمل الانسان الذي يقزمه عظماء هذا الدهر ليغير الدهر؟ اذا وقعت القنابل على رأسه ورؤوس أطفاله يموت. واذا لم تقع اليوم يتوقعها غداً. واذا قرروا ان يجوع يجوع. وان قرروا اعالته فلكي ينسى القذائف التي قذف بها أو قذف بها من هم له وهو عارف ان المعونات لا تدوم وان الدول العظمى ليس هاجسها ان تعظم الدول الصغرى. فالعظام لا يبتغون مشاركة ويتغذون من اذلال الصغار. وهكذا يتوالى التاريخ وتتعاقب حقبه لتقتنع ان "ليس جديد تحت الشمس" وان ليس جديد في عتمات النفوس. ولم يذكر التاريخ ان حكما استبداديا استقال أو كسر نفسه فان احدا يجب ان يكسره.
والمشكلة في هذا ان الاغتيالات لا تنجح. فلا "شيخ الجبل" الاسماعيلي في القرون الوسطى الذي كان يوفد "الحشاشين" للقتل نجح ولا العدميون الروس الذين قتلوا القيصر اصلحوا روسيا. وحلم التبديل لوجه الدنيا الذي حلم به البلاشفة آل بهم الى أضخم عملية ابادة عرفتها الانسانية.
أخفقت الثورة الروسية وأخفقت كل ثورة لأن رجالها يأكلون بعضهم بعضاً ويتقاسمون الغنائم ويشتهون كما كان الأغنياء يشتهون. قال لي الأسبوع الماضي أوروبي متحدثا عن بلده: "ان اليسار عندنا فاسد كاليمين" كأن الانسان نتن ويعجز بقواه وحده عن ان يتطهر او كأن شبق المال يقود الى شبق السلطة وكأن هذه تدمر الأعزاء.
* * *
أنا لست آتيا بحل. واعتقد ان الحل لن يأتي عن طريق السياسة اذا انتهجت غيرها ولا عن طريق القانون اذا عدلته. أنا لست موحياً ان ليس علينا ان نيأس في عالم السياسة أو في عالم الحقوق. هذا المسعى المضني الدائم الضرورة كلفنا الله القيام به لأن ما ينفع الانسان قليلا يرضي الله كما يرضيه ما ينفع الانسان كثيراً. وعلينا ان نتجند وان نستنفر لكن الطهارة لا تنبع من العمل السياسي نفسه. انها تنبع من القلب المتنقي المحب. أجل، في عالم الحقوق أيضاً المشرعون الحاذقون بركة لنا وشجاعتهم أفضل من علمهم. وحضورنا العاضد والمتكتل واجب من واجبات الشهادة.
ان الوهم الكبير ان يذهب أحدنا الى القول ان السياسة والقانون حقل مستقل عن الأخلاق. هذا قاله الفجار والظالمون الذين تركتهم انسانيتهم أو تركوها والحدوا في واقعهم المجتمعي وان ظنوا انهم لم يلحدوا على المستوى الديني. لا يمكنني ان أتصور ان الظالم مؤمن بالمعنى الحقيقي. لا أستطيع ان أفهم المسافة الشاسعة التي تفصل اليقين عن العمل. واذا حصل هذا في انسان فهو مفصوم حتى الجنون المطبق.
لست أريد ان أكون تقوياً، وعظياً بحيث آتي بالناس الى الله مبعداً اياهم عن النشاط السياسي الذي ينبغي ان يخوضوه بما أوتوا من سبل لانقاذ ما تيسر انقاذه من العالم. ان تكون مستقلا عن العالم، حرا من وطأته لا يعني الاعتزال اطلاقا. الزهد تنكر داخلي لفتنة الدنيا وما عنى ترك العمل فيها عند العارفين. نحن نريد ان نضم العالم على شقائه الى الله والعالم يجرح الله. ولكن منذ بسط يسوع ذراعيه على الصليب تمنى ان يرتمي على صدره الناس الذين في كل الآفاق.
&
* * *
نحن اذاً بحركة من الفكر نتفحص العالم والقلب يأسف من بعد فحص. غير اننا نتابع مسيرة النضال في الدنيا على مستواها وفي ما شرعه الله لنا من النضال. نؤمن ان للسياسة ذاتية جهادية وانها علم وفن يجب اتقانهما لكننا نؤمن أيضاً ان ليس في دنياك ما تقدر ان تنتزع عنه الأخلاق ولا يرتد عليك كالوحوش الكاسرة.
ان هدوء العقل اذا أراك كارثية الحدث وسلسلة الأحداث لا يدفعك الى اليأس لأن هذه الدنيا حقل يجب حرثه باستمرار وان تدعو عليه اسم الله دائما.
&
* * *
على رغم أنف نيتشه لم يمت الله. ولما غيبته المجتمعات الاوروبية غابت انسانية الانسان وتلاشى الوجه البشري في الفن. وجه الله ووجه البشر متلازمان في القلب، في الفكر، في النظام. أجل كانوا يقتلون البشر مدعين ان الله ناصرهم. ضموا الله الى شهوة الفتح. يهون على القاتل ان يجير الله لنفسه. ولكن عندما أزاحوا الله عن فكرهم بقوا قاتلين. الإله الوحيد في الانسانية المعاصرة إله الحرب. اما المال والتسلط فيسودهما الهان صغيران موظفان عند إله الحرب.
فقبل اكتشاف الإله الحقيقي المحب البشر والدائس الموت ستبقى البشرية صريعة ديانة كاذبة اصطنعتها لنفسها تحكما بالفريق الضعيف من البشر. خارج الإله المترجم محبة حقيقية للمتواضعين ليس من ديانة في أعماق النفس. الإله يوظف نفسه، اذا جاز التعبير، في سبيل المنكسري القلوب والأذلة في الأرض.
* * *
هذا السيد يقول: "انا الألف والياء". هذا ما يقوله الرب الإله، الذي هو كائن وكان وسيأتي، وهو القدير (رؤيا يوحنا 8:1). الله بدء اللغة وآخر اللغة، مبدىء الوجود ومعيده. ان لم تهجىء ربك في قلبك قبل لسانك فليس لك لغة. انت أعجم. وما تظن انك فاعله فليس بشيء لأنه في الأخير آلة للموت. ولكن ان كنت مؤسسا في الله فمنه تأتي الى الناس والى الثقافة والى تعمير الكون.
واذا رأيت الله حيا فأنت حي والدنيا تحيا بك. قد تعثر في البناء بما فيه السياسة ولكن أمض على هدى إلهك لأنك تكون قد صرت انساناً مألوها. فقط الذين اعترفوا بربوبية الله عليهم قادرون على& ان يصنعوا أرضا جميلة يسكن فيها العدل. هذا هو البدء وهذا المنتهى.(النهار اللبنانية)&