قال لي صاحبي‏:‏
ـ إنني في موقف ماأظن أن أحدا شهده قبلي‏.‏ لي صديق رقيق الحال أعينه علي الحياة ماأتاحت لي الحياة أن أعين‏,‏ وقد وقفت إلي جانبه منذ عرفته ونحن صبيان في معاهد الدراسة الأولي‏.‏ ولم يكمل هو تعليمه واستطعت أن أسعي له أن يعين بما نال من شهادة متواضعة ثم مرت بنا الحياة لايفارقني فهو يسعي الي في أوقات متقاربة يستعينني فأعين إن كان بمال فبمال أو كان برجاء لدي مسئول فبرجاء حتي أصبح يعتبرني مسئولا عنه مسئولية شخصية واستقر في نفسه ان من حقه أن يطلب دائما واستقر فيها أيضا أن ليس من حقي أن أرفض أو أتردد أو أفكر في التردد‏.‏
وحين تمر السنوات الطوال علي منوال واحد يصبح نسيج هذا المنوال أمرا مفروغا منه لايقبل التعديل أو التغيير‏.‏ وهكذا استقرت الصلة بيني وبين هذا الصديق‏,‏ ولكن النفس لاتستطيع أن تطمئن إلي وضع هي غير راضية عنه‏.‏ وهذه النفس شأنها عجيب فهي قد تقبل الأمر لسنوات طوال ثم فجأة تنفجر ثائرة وتأبي ماكانت ترضاه وترفض ماكانت تقبله‏.‏
وقد ثارت علي نفسي في هذه الأيام والعجيب أن عقلي يؤيدها في ثورتها
فأنا شخص أسعد بعمل الخير‏.‏ وأحمد الله دائما كلما أمكنني أن أقدم معروفا لإنسان وأشعر أن الله يكرمني بأن جعلني أستطيع أن أكون ذا فائدة لإنسان‏,‏ مهما يكن شأن هذا الإنسان‏.‏ وأنا ياصاحبي لم أرد طالب حاجة أستطيع أن أقضيها قط أو أنا علي الأقل لا أذكر أنني فعلت ذلك في حياتي‏,‏ ولم أفكر يوما أن يكون هذا الذي أسعي له عدوا أو صديقا ولكن نفسي مع ذلك ثائرة علي بشأن هذا الصديق في هذه الأيام ثورة عارمة لاتهدأ‏,‏ ولاتستقر بي علي قرار‏.‏
أما أن عقلي يؤيدها فهذا أمر طبيعي فصديقي هذا الذي حملت عبء حياته طوال حياته يملك قدرا من الحقد لو وزع علي العالم أجمع لجعلهم جميعا حاقدين‏.‏
قد يشكر لي المعروف حين أقدمه ولكنه لايستطيع أن يخفي عن عينيه ذلك البريق الخاطف من الغضب أن يدي هي التي تعطي ويده هي التي تأخذ وأنني المفضل دائما في حين هو المفضول علي سبيل الدوام والاستمرار وبغير استثناء‏.‏
قلت لمحدثي‏:‏
ـ ماالذي يغضبك من حسده
قال‏:‏
ـ الحسد نفسه‏.‏
ـ وما الذي يغضبك من الحسد
ـ قد لايعنيني الشكر علي معروف قدمته وقد لايعنيني أيضا أن أحس انني صنعت الجميل في مكانه أو في غير مكانه أما أن ينقلب ماأقدمه من خير حسدا علي‏.‏
ـ ألا تشعر بالسعادة وأنت محسود‏.‏
ـ أشعر بالتعاسة أن يحسدني من أقدم له الجميل‏.‏
ـ فأنت المخطيء‏,‏ إذن وليس هو‏.‏
ـ خطأ لا أستطيع أن أصححه‏..‏ إنه شعور مني بالغضب لا أستطيع أن أتقيه‏.‏
ـ أعتقد أن غضبك في غير موضعه‏.‏ فالذي يحسدك ينال جزاءه من داخل نفسه‏.‏ فهو يحترق بغضبه وأنت لاينالك من حسده شيء يضيرك‏.‏
ـ ألست إنسانا‏...‏ أليس لي الحق أن أشعر بسعادة الذي اقدم له المعروف‏.‏
فإذا رأيت في عينيه بدلا من هذه السعادة حقدا وحسدا ألا يحق لي أن أغضب أو أحزن علي الأقل‏.‏
ـ هل سألت نفسك يوما لماذا تقدم الخير لمن تقدمه له‏.‏
ـ لا والله مافعلت
ـ فأنت إذن تقدم الخير عن طبيعة لا عن تصنع
ـ أو أقدمه لأنني لا أفكر أن أمتنع عن عمل خير أستطيع أن أقدمه‏.‏
ـ لم يختلف الأمران
ـ ولكن الطرف الآخر‏...‏ ألا يشكر
ـ وماذا يعنيك من شكرانه
ـ أليس من الطبيعي أن أحس أنني أسعدته‏.‏
ـ إذا كان هذا هدفك أصبح ماتطلبه من حقك‏.‏
ـ لا‏...‏ أنا لا أظن أن هذا هو هدفي‏...‏
ـ الحقيقة أنك تشعر بالسعادة لأنك قدمت خيرا وأنت بهذه السعادة قد نلت مكافأتك وليس من حقك أن تطلب أكثر من هذا بل إنني أعتقد أنك نلت بسعادتك أعظم الجزاء فماذا تريد أكثر من هذا‏.‏
ـ لعلك علي حق‏.‏
ـ لقد فعلت خيرا وسعدت به ونال المفضول خيرا وشقي به فكلاكما نال الجزاء الذي يستحقه وهو جزاء عادل لاظلم فيه‏.‏
ـ ولكنني مع ذلك كنت أرجو أن أجده سعيدا‏.‏
ـ إن الحقد والحسد مرضان فلماذا تشقي أنت بمرض غيرك؟
ـ أليس من الطبيعي أن يشقي الإنسان لمرض الآخرين‏.‏
ـ إذا لم يكن هؤلاء الآخرون هم الذين يصنعون أمراضهم بأيديهم‏.‏
ـ ومن يدري أليس من الممكن أن يكون الله قد خلقهم مرضي بالحسد والحقد فأفقدهم الشعور بشكر المعروف‏.‏
ـ لقد بدأت تدافع عنهم‏.‏
ـ أهذا دفاع‏.‏
ـ لقد جعلت من أمراضهم أدواء في خلقهم بسكون اللام وليست في خلقهم بتحريكها‏.‏
ـ ألا يجوز هذا‏.‏
ـ لاأظن وإنما أعتقد أنهم هم الذين يغذون الحقد في نفوسهم ويمرنون عليه ويلتذون به‏.‏
ـ هل في الحقد لذة؟
ـ من الناس من يجد لذة في الشكوي في غير داع للشكوي وهكذا الحاقدون والحاسدون‏.‏
ـ لقد بدأت أنت تهاجمهم‏.‏
ـ إنما قصدت أنهم يستطيعون أن يشفوا أنفسهم من أمراضهم ولكنهم لا يريدون ومع هذا ليس هناك مايدعوك أن تغضب منهم وإنما هناك مايدعوك ويدعوني أن نشفق عليهم فهم في شقاء لاينتهي‏.‏ وأي بؤس أدهي من إنسان لايرضي‏.‏ والله يقول لنبيه صلي الله عليه وسلم ليبشره‏:‏ ولسوف يعطيك ربك فترضي والرضا قمة السعادة وعطاء الله هنا هو هذه القمة‏.‏ لم يقل لسيد عباده سأعطيك ملكا ولا مالا وإنما اكتفي بقوله أن سيعطيه مايجعله يرضي فالرضا مكانة لاينالها أعظم ملك ولايبلغها أعظم مليونير فإذا أنت رضيت وأنت تعطي فحسبك
‏....‏ فقد بلغت وأنت المعطي ولم يبلغ حاسدك وهو الآخذ‏...!‏ يكفيك هذا‏...‏ قال صاحبي في سعادة‏:‏
ـ الحمد لله‏.‏(الأهرام المصرية)