طورخام (الحدود الباكستانية ـ الأفغانية) ـ من أحمد قريشي: قبل يومين، وقف حضرت علي، أحد قادة الميليشيات الأفغانية الثلاث المتحالفة مع الأميركيين في المعركة ضد المقاتلين العرب المحاصرين في "تورا بورا"، بضعة كيلومترات إلى الغرب من طورخام، أمام المراسلين في مؤتمر صحافي نُظم على عجل بعد جولة من القتال العنيف.
مبتسماً، قال للصحافيين: "تنظيم القاعدة انتهى في ميلاوا وتورا بورا, نحن نحاصرهم", لكن ما إن أنهى زعيم الحرب تصريحه، حسب قول مولي مور، مراسلة واشنطن بوست، حتى انطلق رشق ناري كثيف من أسلحة أوتوماتيكية من جهة التلال في اتجاه القائد الأفغاني وضيوفه الصحافيين، وأخطأهم بأمتار قليلة, رسالة المقاتلين العرب المحاصرين كانت واضحة، وربما محرجة قليلاً لحضرت علي: "نحن هنا، ولن نختفي بسهولة".
المعركة التي يقودها المقاتلون العرب خاسرة عسكرياً، لكن أي انتصار أميركي نهائي خلال الساعات المقبلة لن يكون بسبب أي براعة في القتال من طرف حلفاء الأميركيين من الأفغان, فالأداء المحبط في الأيام الفائتة للقوات القبلية الأفغانية الموالية للأميركيين في شرق أفغانستان، المعروفة الآن بـ "التحالف الشرقي"، دفع الجيش الأميركي ليتولى منذ بدء الأسبوع الحالي مسؤولية المعركة النهائية في "تورا بورا", ووصلت الى جلال آباد تعزيزات من قوات المارينز، كما أن واشنطن كثفت الضغط على حليفها في إسلام أباد لنشر قوات باكستانية من أجل منع فرار أعضاء تنظيم "القاعدة" عبر أراضيها.
وقال مسؤولون عسكريون باكستانيون يتولون عمليات المراقبة على الحدود إن الأميركيين يخشون أن القوات الأفغانية المتحالفة معهم "أضاعت وقتا ثمينا" خلال الأيام الفائتة ربما ساعد نحو ألف من المقاتلين العرب المحاصرين في منطقة صغيرة نسبيا على تهريب بعض قادتهم، بينهم زعيم التنظيم أسامة بن لادن.
جزء بسيط من السبب وراء "إضاعة الوقت" يرجع الى مفاوضات الاستسلام التي جرت بين الميليشيات الأفغانية والمقاتلين العرب, الأميركيون يؤكدون أن تلك المفاوضات لم تكن سوى محاولة من طرف العرب لكسب الوقت من أجل تهريب بن لادن وكبار مساعديه من المنطقة, لكن القادة الأفغان الثلاثة الذين يكوّنون "التحالف الشرقي" أحرجوا أصدقاءهم في الجيش الأميركي من دون قصد عندما أعلنوا أن العرب عرضوا الاستسلام في حضور ديبلوماسيين من الدول التي ينتمون إليها وممثلين من الأمم المتحدة، وأن الأميركيين ضغطوا من أجل رفض العرض, وقال أحد القادة الثلاثة إن واشنطن تريد "إبادة" المقاتلين العرب,
لكن ثمة سببين آخرين مهمين يلعبان دوراً كبيرا في إطالة أمد معركة لم يكن لتطول, وقال عقيد في وحدة من الجيش الباكستاني، منتشرة على الحدود وتلعب دور الفك الجنوبي للكماشة حول المقاتلين العرب: "تكتيكياً، إنها معركة غير متكافئة في منطقة محدودة ضد طرف محاصر, لا يتطلب الأمر سوى مقاتلين أكفاء لاجتياح المكان وتصفية الخصم".
الأميركيون، في معركتهم ضد الجيب الأخير في أفغانستان لأعضاء تنظيم "القاعدة"، أرادوا استخدام التكتيك ذاته الذي اعتمدوه ضد الخصم في مناطق البلد الأخرى، ألا وهو خلق وتسليح تحالف محلي أفغاني واستخدامه لمقاتلة وتصفية الخصم من دون إنزال جنود أميركيين والاكتفاء بتقديم اسناد جوي مكثف, واعتمد الأميركيون على عاملين يضمنان أن المقاتلين الأفغان في التحالف المحلي سيحاربون "طالبان" و "القاعدة" بشراسة, العامل الأول هو أن يكون لزعماء التحالف المحلي ومقاتليه ثأر عميق مع "طالبان"، مثل أن تكون الأخيرة سلبت منهم مناطق نفوذهم, أما العامل الثاني فهو دعم سكان المنطقة للتحالف المحلي.
في المعركة ضد المقاتلين العرب وبقايا "طالبان" من الأفغان والباكستانيين المحاصرين في "تورا بورا"، ليس لمقاتلي "التحالف الشرقي" ثأر عميق مع "طالبان"، ما أفقدهم حماسة القتال، ولا يدعم سكان المنطقة هذه المعركة أو يتعاطفون معها.
فـ "التحالف الشرقي"، مثل شقيقه في التسمية "التحالف الشمالي"، هو تجميع ركيك وهش لقادة متبايني الأهواء جمعتهم المصلحة والدولار الأميركي, غير أن "الشمالي"، الذي تنضوي تحت لوائه الأقليات العرقية والدينية، يحمل ثأراً كبيراً ضد "طالبان" و "القاعدة" مقارنة بـ "التحالف الشرقي" الذي يتكون من مقاتلي قبائل البشتون التي كانت متحالفة حتى الأمس مع حركة "طالبان".
كما أن هذا التحالف ينشق داخلياً إلى ثلاثة ميليشيات متنازعة, وكدليل على مدى درجة التوتر في ما بينها، أعطى الأميركيون كلاً من الفصائل الثلاثة قطاعات منفصلة وغير متقاربة على الجبهة, الفصيل الأول يقوده حضرت علي، وهو ينتمي إلى طبقة من مجهولي الهوية القبلية لكنه مقرب من مركز الثقل الطاجيكي داخل تحالف الشمال القابض على كابول, ويلصق أفراد الفصيل صور الراحل أحمد شاه مسعود على سياراتهم وعلى المباني التي يحتلونها في مدينة جلال أباد، الأمر الذي يُنظر إليه كمحاولة لاستفزاز متعمد في مدينة ومنطقة ذات غالبية باشتونية ساحقة.
الفصيل الثاني يقوده حاجي زمان، المتحالف مع الزعيم الأفغاني المقيم في بيشاور سيد أحمد شاه جيلاني الموالي للملكية, أما الفصيل الثالث فيتزعمه حاجي ظاهر، ابن الحاكم الجديد للمنطقة القائد عبد الحق الذي انسحب من وفد تحالف الشمال الى مؤتمر بون احتجاجاً على ضعف تمثيل الباشتون فيه.
أحد وجوه معركة "تورا بورا" التي لا يغطيها الاعلام الدولي، والتي أطالت أمد المعركة، هو أن مقاتلي الفصائل الثلاثة، على عكس قادتهم، يفتقرون الى الحماسة لقتال العرب والطالبانيين المتحصنين لسبب بسيط: أنهم لا يعتبرونهم "إرهابيين"، كما أن غالبية مقاتلي هذه الفصائل تدرك أن "الإرهابيين" في تورا بورا، الذين تقول الولايات المتحدة أنهم أعضاء في تنظيم "القاعدة" هم حقيقة من "المجاهدين العرب" الذين استقروا في هذه المنطقة منذ سنوات ما بعد اندحار الاحتلال السوفياتي، ترافقهم زوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم, وينتشر شعور بين الناس بأن إذا كان يختبئ بينهم بن لادن أو أعضاء تنظيمه، فإن ذلك في نظر الكثيرين من مقاتلي الفصائل وأهل المنطقة من الأفغان لا يرقى إلى رخصة جواز قتل العشرات من النساء والأطفال وحتى من المقاتلين أنفسهم الذين قد يكون لا علاقة لهم بتنظيم "القاعدة" ولا بأحداث 11 سبتمبر.
وقال صحافيون قريبون من جبهة القتال أنه بات مألوفاً أن يسمع جنود فصائل "التحالف الشرقي" المارين عتاباً من النسوة القرويات ومن كبار السن الأفغان حول "لماذا يقاتلون المسلمين من أجل الأميركيين", وذكر صحافيون أفغان أن رجال دين في جلال آباد رفضوا الأسبوع الماضي الصلاة على جثماني مقاتلين من "التحالف الشرقي" قتلا وهما يحاربان العرب المحاصرين.
وقال رحيم الله يوسفزئي، المراسل المخضرم لهيئة الاذاعة البريطانية لشؤون أفغانستان المقيم في بيشاور: "حتماً هذه المعركة غير شعبية ويمكن سماع الأفغان يتكلمون علناً عن كميات الدولارات التي تنقلت بين الأيدي من أجل ضمان سقوط تورا بورا وتصفية المدافعين عنها".
ووصل الجدل الى قلب "الشورى الشرقية"، وهو المجلس الذي يحكم شرق أفغانستان من مقره في جلال أباد منذ سقوط حكومة "طالبان" وأعضاؤه من رجال الدين المحليين والوجهاء وقادة الفصائل الثلاثة المتحالفة مع الأميركيين.
وخرج يوم الجمعة الفائت رئيس الشورى الملا فضل هادي شنواري بنداء الى الفصائل المتحالفة مع الأميركيين بوقف القتال، وانضم إليه عضو المجلس عبد السلام حقاني, وقال شنواري في نداء مكتوب وزعت نسخ منه في جلال أباد أن "مئات النساء والأطفال باتوا ضحايا القصف الوحشي ضد المجاهدين العرب", كما أن الناشط الأفغاني المقيم في بيشاور، الدكتور عطاء الله فيضي، حاول تذكير المقاتلين الأفغان بأن "المجاهدين العرب قدموا تضحيات من أجل تحرير أفغانستان من الروس", وأصدرت لجنة مشتركة من رجال الدين الأفغان والباكستانيين فتوى في هذا الشأن, الا أن من الواضح أن لا أثر عملياً لهذه النداءات.(الرأي العام الكويتية)