موسكو ـ من سلام مسافر: جاء رد الفعل الروسي على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ (ايه بي ام) منسجما مع التوقعات, فمع ان الرئيس فلاديمير بوتين، اعتبر خروج واشنطن من المعاهدة التي تحرم تطوير الدفاعات الصاروخية الاستراتيجية والمبرمة عام 1972 "قرارا خطأ"، الا انه شدد على ضرورة بقاء العلاقات الروسية ـ الاميركية "في المستوى الذي بلغته الان", وتوصف العلاقات بين البلدين بانها شراكة جديدة لم يعد لمخلفات الحرب الباردة اثر فيها,
ولفت بوتين الى ان قرار الرئيس جورج بوش الذي يفتح الطريق امام واشنطن لنشر درع فضائية وطنية "لا يشكل خطرا على امن روسيا القومي", لكن رئيس هيئة الاركان الروسية الجنرال اناتولي كفاشنين، وصف القرار بانه "ايذان ببدء مرحلة جديدة من سباق التسلح".
ويفسر المراقبون هذه التصريحات بان موسكو، التي لم تفلح في اقناع واشنطن بالتراجع عن برنامج "حرب النجوم" سترد بزيادة ترسانتها من الرؤوس النووية لان انسحاب واشنطن من "ايه بي ام" يعني بداية النهاية لزهاء 20 معاهدة اخرى مرتبطة بـ "ام المعاهدات" مثل اتفاقية منع انتشار الاسلحة النووية ومنع وضع الاسلحة النووية في الفضاء الخارجي وفي اعماق البحار، وغيرها من المعاهدات التي ابرمها الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة وشكلت العمود الفقري للاستقرار الاستراتيجي، وبالغاء "ايه بي ام" من جانب واحد، سمحت واشنطن بازالة الكوابح امام سباق التسلح,
وينوه الخبراء الروس بان استعجال واشنطن لاقامة درع يفترض ان يقي الولايات المتحدة من هجوم صاروخي، سيمكن الاميركيين من بسط سيطرتهم على العالم, كما تسعى واشنطن الى السيطرة على الفضاء الخارجي, ويعيد الخبراء الى الاذهان مقولة الرئيس الاميركي السابق جونسون "ان من يسيطر على الفضاء يضمن السيطرة على العالم", ويملك بوش ما يمكنه من اقامة منظومة دفاعية استراتيجية واسعة تضمن تدمير ما يراوح بين 200 و500 صاروخ مهاجم, فقد بدأ الاميركيون العمل في مبادرة الدفاع الاستراتيجية منذ العام 1983، واصبحوا اليوم يجرون تجارب على الدرع الصاروخية، يتوقع الخبراء الروس ان تبلغ الذروة خلال العام المقبل,
لكن هل تملك روسيا سلاحا مضادا للشبكة الاميركية المزمعة؟
يجيب الروس بان لديهم صاروخاً "اس اس ـ 18" الذي يسميه الاميركيون "الشيطان"، ويحمل عشرة رؤوس نووية مدمرة، اضافة الى زهاء 40 راسا وهميا, ويؤكد الخبراء ان يصعب على الاميركيين التمييز بين الرؤوس المدمرة والوهمية, وحسب التقديرات، فان اصابة رأس مدمر يتطلب عشرة الى 15 صاروخا مضادا، بمعنى ان الشبكة الاميركية يجب ان تتوافر على عدد هائل من الصواريخ المضادة لتحقيق اهدافها, وكان الرئيس الروسي اعلن في وقت سابق ان بلاده ستحافظ على "الشيطان" في الخدمة لغاية عام 2006، في حين يرى الخبراء ان هذه الصواريخ تستطيع المحافظة على امن روسيا لغاية العام 2015. ومن ثم يتعين رفد الترسانة النووية الروسية بطراز جديد من الصواريخ يتصدى للدرع الاميركية,
ووفقا للمعطيات التي تسربها وزارة الدفاع الروسية، فان صاروخا جديدا من طراز "توبول" (المشتق من اسم شجرة الحور رمز الرشاقة والفتوة في الاساطير الروسية)، دخل الخدمة اخيرا، وان هذه الصواريخ يمكن ان تشكل اساس الدرع الاستراتيجية الدفاعية لروسيا في مرحلة "حرب النجوم", الا ان الموازنة الروسية قد لا تتحمل اعباء الانفاق العسكري الجديد، الامر الذي يدفع ببعض المحللين الى الاعتقاد بان روسيا ستعجز عن مجاراة الجولة المقبلة من سباق التسلح,
ويشار في هذا الصدد الى ان المجمع العسكري الصناعي في روسيا، لم ينفذ خطة وضعتها وزارة الدفاع لانتاج 300 صاروخ من طراز "توبول" بسبب نقص الاعتمادات,
وتتوزع الدرع الصاروخية الروسية التي تتعين ان تواجه الردع الاميركية، بين القوات الاستراتيجية والبحرية والجوية, ولم تحصل هذه القوات خلال السنوات الاخيرة على الاعتمادات المطلوبة، وجرى تمديد خدمة الصواريخ التي انتهى عمرها الافتراضي, ويرى الخبراء ان الرد الروسي على الدرع الاميركية سيكون مكلفا، حتى بفرض ان موسكو طورت صاروخ "توبول" الموجود في الخدمة اصلا وتطيل عمر صواريخ "الشيطان" التي يحمل الواحد منها عشرة رؤوس نووية، مشيرين الى ان اعباء الخزينة لا تتحمل نفقات اضافية على الدفاع,
ووفقا لنشرة "فايونيه اوبزرينيه" المتخصصة في الشؤون العسكرية، فان النية تتجه الى تطوير اساليب اطلاق الصواريخ البالستية بحيث تصل الى الهدف المطلوب تدميره في اسرع وقت (16 دقيقة بدلا من 32) , وتندرج في الاطار نفسه، فكرة وضع الغواصات الاستراتيجية في منطقة القطب الشمالي، حيث يمكن للغواصات الروسية ان تطلق الصواريخ من تحت طبقة الجليد التي تخفيها وتحميها من هجوم معاكس,
وكانت نية الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة حين اتجها الى توقيع اتفاقات لخفض مخزون الاسلحة الهجومية الاستراتيجية، التخلص من الصواريخ المتعددة الرؤوس، والاكتفاء بالصواريخ الاحادية، للمحافظة على "توازن الرعب" بتكاليف اقل, اما الان فان الخبراء يتوقعون عودة روسيا الى الصواريخ الانشطارية المحملة باسلحة الدمار الشامل، لانها في مواجهة الدرع الصارخية الاميركية، اقل كلفة واكثر امنا.
وعلى خلاف الولايات المتحدة التي تعتزم انفاق نحو 800 مليار دولار على تطوير الاسلحة الدفاعية المضادة للصواريخ، فان روسيا قد لا تنفق سنتا واحدا على زيادة قدرتها النووية، كما يقول بعض الخبراء، مشيرين الى ان موسكو لا تزال تحتفظ بكميات هائلة من العبوات النووية الخاصة بالصواريخ، وهي تركة الاتحاد السوفياتي، الذي كان ينتج الاسلحة النووية وفقا للخطط الخمسية التي تراعي امكانية نشوب حرب نووية بين لحظة واخرى, ولا تزال كميات كبيرة من العبوات النووية، مكدسة لدى روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي,
ويعتقد الروس، انه مع وضع هذه العبوات على صواريخ "توبول" و"الشيطان"، فان القدرة النووية لبلادهم ستزداد الى حد بعيد، ويمكن بالتالي توجيه رد رخيص، لكنه مناسب للدرع الاميركية,
ولم يكن من باب الصدفة، ان يعرج بوتين خلال زيارته الاخيرة لاوكرانيا على مدينة يوج ماش، التي ينتج فيها صواريخ "اس اس ـ 18" او "الشيطان", ويعتقد المراقبون ان روسيا تعاقدت مع اوكرانيا على اطالة عمر هذه الصواريخ وانتاج طواقم جديدة منها قادرة على اختراق النظام الدفاعي الاميركي,
لكن السؤال، هل ستتمكن الرؤوس النووية التي يحملها "الشيطان" من تبريد الرؤوس الحامية في الادارة الاميركية التي اختارت التعبئة الدولية ضد الارهاب لاعلان انسحاب واشنطن من معاهدة "ايه بي ام"؟
قد تقدم روسيا على انشاء منظومة تجاري الدرع الاميركية، لكن رهان الكرملين الاساسي، كما يبدو، هو الدخول في شراكة مع البيت الابيض للحصول على حصة من تقسيم جديد للعالم، ترسم واشنطن حدوده بعد تفجيرات 11 سبتمبر التي عززت الهيمنة الاميركية على الساحة الدولية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا, وهنا المفارقة!(الرأي العام الكويتية)