عرفت أعمال ضياء العزاوي في بداية الثمانينات في معارضه مع صالة "فارس" عندما كنت مقيما في باريس، في حينها كانت اعماله تحمل موقفا ثقافيا وفنيا مشتركا ظل يصاحبه لحد الان كما هو واضح في الاعمال التي نفذها بعد هذا التاريخ، هذا الموقف هو في انحيازه لما يمكن تسميته بـ"الهوية" او ما يسميه البعض بـ"الفن العربي".
مراكش
في تجربته الممتدة قرابة الاربعة عقود، كما عرضها في هذا المعرض نشاهد تنوعا مدهشا ليس في تناوله لعناصر بناء العمل الفني وحده بل في تلك الطاقة الخلاقة على امتحان موقفه ازاء المواد المتنوعة والتقنيات المختلفة في سبيل الوصول الى ما يشكل "خاصيته الفنية" وهي خاصية لا تخطئها العين وسط ايلا مشاركة في الفعاليات الفنية. ما هو مدهش أن لا يتعرض لهذه الخاصية ناقد مثل أسعد عرابي المعروف في متابعته النقدية للفن العربي وان يختبرها كموقف فني وثقافي ليس وسط المجتمع العربي الذي غالبا ما يستسهل الاحكام بمجرد وجود حرف عربي او ثيمة فولكلورية بل في مواجهتها مع التجربة العالمية التي يفترض ان تكون تجرب العزاوي جزء منها.

من معرضه الاخير
ان قراءة المقدمة التي كتبها الشاعر الفرنسي ألان جوفروا، وحماسه الواضح لتجربة هذا الفنان وموقفه الفني ومجاورتها مع ما كتبه عرابي في "الحياة"، نتبين مدى الحيف الذي ألحقه عرابي بتجربة هذا الفنان. فهو اذ يشير الى كون معرض العزاوي "الأهم من نوعه في تاريخ نشاط المعهد" الا انه بدل ان يقدم ما يدعم هذه المقولة، وجدناه يذهب& سياحة في لغة فضفاضة وتعابير تثاقفية من "الدادائية المحدثة الى البوب الانكليزي". هذا النوع من الكلام، اعتقد، انه لا يعكس مسؤولية ناقد جاد يحاول ان يتبين عناصر العمل الفني ويسمي الاشياء باسمائها. ان القارئ الذي لم يشاهد المعرض سوف يفتقد الصورة الحقيقية لجهد هذا الفنان بتعدديته المتنوعة. وهو ما يفترض النقد الصحفي ان يقدمه.
ان اهمية معرض ضياء العزاوي في معهد العالم العربي ليس في توثيق تجربة متميزة على الصعيد العربي واتاحة الفرصة للاطلاع عليها عبر جهد يتساوى مع ما تقدمه المتاحف العالمية لهذا النوع من النشاطات بل في عرضها للاحتكام ايضا مع تجربة الفن العالمي وطاقة هذه التجربة على تقديم عناصرها الفنية المتنوعة كابداع عالمي ذا مرجعية مختلفة عن الفن الاوروبي.
ان مقولة الناقد الاميركي بنجامين كورجي في جريدة "واشنطن بوست" عام 1983 عن تكوينات العزاوي بانها "تكمن قوتها الاقناعية في جمالها التجريدي، في الدور البنائي الذي تلعبه في أنماط العزاوي ما بعد التكعيبية، وفي مقدرته على استحضار الثقافة العربية بطريقة غير محددة، وان لم يكن هذا كل شيء، فهو كثير جدا، لوحات العزاوي هي تراثية ومن زمننا في وقت واحد، بألوانها الرائعة المتألقة، واشكالها المشدودة والايقونية، تقف اعماله وبشكل مؤثر بين عالمين". وبعد كل هذه السنوات يلتقي الشاعر الفرنسي ألان جوفروا مع بنجامين كورجي في تحليله لعمل هذا الفنان اذ يقول ":عمل على طريقته كما فعل بيكاسو الذي زاوج بين الفن الافريقي والايبيري وبين الفن الغربي العصري مما اعطاه مزيدا من الثقل والتأثير العالمي. عمل العزاوي ايضا كما فعل ماتيس في المغرب ولكن بالعكس، بدون تنازل للذوق والموضة التجارية وبدون مجاملة للفن الشعبي الشرقي المتميز. عمل العزاوي بطريقة غاية في التفرد والاقناع، بين العمارة السومرية- في المعابد والابراج- وبين ديناميكية الحداثة، كما ظهرت وتنوعت في مختلف البلدان المتقدمة. على حد علمي، كان الفنان العربي الوحيد الذي حقق هذا الانتصار، بكل يسر وجلال، وبحرية مطلقة لا يسعنا امامها سوى الدهشة".
امام هذين التقييمين، لا يمكن للمرء ان يكون سياحيا كما فعل اسعد عرابي، ولا يمكن الا ان يحتفل بهذه التجربة.

مثل المعرض الاخير في معهد العالم العربي، مختارات من مجموعة كندة للفن العربي المعاصر (الرياض)، مجموعة المتحف العربي للفن المعاصر (الدوحة) ومن مجموعة الفنان وابنته تاله، بالاضافة الى مختارات من مجموعات شخصية محدودة، وهي تمثل
نافذة
التقنيات المختلفة للفنان، أعمال اكريليك، كواش على الورق، اعمال تخطيطية وطباعة.
يبدأ المعرض باعمال تشير الى علاقة العزاوي بتجربة الرواد العراقيين وبصورة خاصة جواد سليم. الا اننا سوف نشاهد حضورا متميزا ومستقلا منذ عمله المعروض "من الميثولوجية الشعبية 1968" حيث حاول ان يحقق مزاوجة صعبة بين الموروث الشعبي وبين التجربة التجريدية وخاصة "التعبيرية التجريدية" التي كانت انتصارا امريكيا في بداية الخمسينات. في هذه التجربة كان للموروث الافريقي سطوته البارزة، الا ان العزاوي استبدلها بالموروث المحلي والذي يسميه بـ"الموروث الوطني حينا والقومي حينا اخر" في العديد من حواراته. في رحلته هذه حقق العديد من الاعمال المهمة والتي لم تتوفر الفرصة لعرضها لسبب من الاسباب، مع بداية السبعينات ستأخذ رحلته اتجاهات متفرقة تظل ضمن هاجسه الصعب في التميز الاسلوبي والتي اسميها "خاصيته" بين لوحة "سنوات الذبح الفلسطيني 1974" ولوحة "حالات انسانية 1975" روحا تمردية وانحيازا للانسان المحاصر والمضطهد دون ان يتنازل للمباشرة صفة ما يسمى بـ"الفن الملتزم".
ان انحيازه وبشكل مبكر لاهمية البحث الابداعي وطاقته على الانفتاح مكنه من تخليص تجربته من هوة الموضة السياسية التي خسرت رهانها لانحيازها للممكن والمباشر. في هذه الفترة ايضا سوف يستخدم العزاوي "الطائر" رمزا يأخذ اشكال مختلفة لعل ابرزها في لوحة "طبور في سماء حمراء" فيها نجد شكل الطائر اقرب الى الشكل الميكانيكي، انه لم يعد يحمل رمز الترحال والمنفى كما في العديد من اعماله السابقة، بل شكلا عدوانيا ان صح ذلك. هل هذه اللوحة عن بداية الحرب البشعة بين الشعبين العراقي والايراني؟!.
بعد هذه الاعمال سيأخذ التاريخ- كوثيقة انسانية- بوابة للانفتاح على ما تحيطه من ابداعات، فالزمن والتاريخ كما يشير ألان جوفروا، لا يشكل برأي العزاوي، سلسلة من العتبات المتعاقبة- بحيث تفضي كل منها الى هاوية مختلفة- او انقطاع راديكالي علومي، بل ان الزمن والتاريخ عبارة عن اتصال ذي امتداد أبدي، وتشابك فضائي- زمني ملهم، وبتاء على هذا، فان لوحاته تقدم تاكيدا على ازلية متماسكة بين عدة ثقافات وعدة حضارات متقاربة. كما تجيب بوضوح عن الوعي بهذا الحدث العالمي الجديد الذي لا يتكلم عنه احد".
من لوحته "بوابة بغدادية 1983" مرورا بسلسلته المعنونة "نوافذ شرقية بين اعوام 83-1988" الى لوحة "حلم أميرة مصرية 1995" تأخذ مرجعياته التاريخية مداها الرحب في المخزون العياني، كما تعكس لوحته "كتاب الابواب 1994" مزاوجة جديدة بين النص والعناصر الجمالية للفن الفرعوني فكتاب الابواب احد اهم النصوص الفرعونية يتجاوز مع الاعمال التخطيطية المتعددة والمفعمة بالنشيد الروحي للمتنبي 1996 الى جانب الرسوم الاولية للمعلقات السبع والتي لم يتم عرضها او طبعها ضمن مجموعته المعروفة والتي صدرت عام 1978، هذه النزعة التواقة لمكاشفة النص الابداعي للموروث العربي تشكل كما يبدوا هاجسا تتطور مع السنوات. فمن المعلوم كما يذكر الشاعر والناقد العراقي شاكر لعيبي في نصه المنشور في دليل المعرض "ان العزاوي هو واحد من قلة نادرة من الفنانين الذين انهمكوا بمواظبة وصبر على استلهام القصائد الشعرية والملاحم الادبية العربية، بل سنقول العالمية، فمنذ 1978 انطلق العزاوي في مغامرة جديدة في الفن المعاصر الا وهي تجربة المفسر التشكيلي للنص الشعري بالمعنى الراقي لكلمة "مفسر" من دون ان يتخلى للحظة عن لغته التشكيلية وخياراته الفنية ومن دون ان يكون رسام اشكال توضيحية، بالضبط كما يفعل سلفه الواسطي رسام العمل الادبي "مقامات الحريري".
عرض العزاوي من مجموعته الشخصية اعمالا حملت اسماء مختلفة، سميت حينا بالدفتر وحينا معلقة شعرية وحينا اخر مطوية شعرية، في هذه الاعمال ياخذ النص الشعري العربي الحديث مكانةاساسية حيث نجد اعمال لرموز الحداثة، يوسف الخال، ادونيس، بلند الحيدري، محمد الفيتوري، عبد الوهاب البياتي، نادية تويني، محمود درويش، سعدي يوسف، مظفر النواب، سركون بولص وغيرهم.
وكما يشير بحق ألان جوفروا في مقدمته "يجب النظر الى كل الكتب التي تصورها العزاوي وانجزها مع الشعراء بنفس الفهم الذي نرى به لوحاته، وانا اصر هنا، يجب ان نفهمها ونحترمها كجزء من انتاجه وليس كتتمة غير ضرورية لاعماله.. كلها بنى الرسوم والخطوط مشابهة، بل ومعادلة، للوحاته المخططة. النسيج نفسه والطاقة نفسها وحتى الخيال التخطيطي نفسه تداخلت لكي تعبر عن ارادة الانعتاق والتحرر".
في هذه المعاينة العجلى نجد مساهمات هذا الفنان باعماله المنفتحة جدا على الانسان وعالمه، المعترضة والمتجاوزة، المحملة بالمعاني الوجودية والسياسية، التي تحمل تناقض الماساوية والفرح، والتي تغلب الحياة على الموت وهواجسه، باظهار الحضارة العربية الجديدة التي ستنبثق عاجلا ام اجلا من خلال تمزقاتها الداخلية ومن مصائبها وجنونها الانتحاري. والعزاوي كما يقول ألان جوفروا في عمله الدؤوب المحمل بالحب لهذه الغاية، ينسج من حبال في غاية الدقة شبكة الخلاص التس سيعيد بها اصطياد اسماك الطوفان الجديد".
عبد الرزاق مصطفى
لندن
والمقال المنشور جزء من دراسة طويلة حول اعمال العزاوي

&
&
&