على الرغم من علامات للاستفهام الكثيرة حول شريط الفيديو الاخير الذي بثته الادارة الاميركية لاظهار تورط بن لادن في احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، الا ان الدلائل المتوفرة ترجح ان الشريط حقيقي وان اعتراف بن لادن فيه بدوره في تلك الاعمال دليل دامغ ضده، اكبر علامة استفهام حول الامر هو بالطبع مصدر الشريط وظروف تصويره، اذ ان من المرجح ان الشريط صور بدون علم بن لادن، لانه مهما كان الامر فلا ينتظر ان يبوح الرجل بمعلومات بهذه الحساسية، ولا ضيوفه، وهم يعلمون ان هذا الحديث يسجل. وهذا بدوره يعني ان من قام بالتسجيل كان علي الاغلب يعمل لحساب نفسه او لجهة ما. وبما ان هذا الشخص كان بالقطع من الحضور والمشاركين في الحوار، فلا يستبعد كذلك ان يكون لعب دور المخرج دون ان يفطن الاخرون، فوجه الحديث الوجهة التي تخدم الغرض الذي من اجله قام بتصوير الفيلم.
وهذا تكتيك معروف اتبعته اجهزة المخابرات العربية، حيث تقوم بزرع مخبرين وسط الجماعات الاسلامية، وتكلفهم مهمة مزدوجة، هي دور المخبر والعنصر المحرض، ويقوم هؤلاء بتغذية خطاب التطرف وسط هذه الجماعات، والتخطيط لاعمال العنف، ثم نصب الشراك بعد ذلك لرفاقهم المفترضين حتي يقعوا في قبضة العدالة وهم لا يشعرون. وما دور العميل المزدوج عماد سالم في توريط الشيخ عمر عبد الرحمن في اقوال اخذت عليه بعد ذلك منا ببعيد، فالرجل كان يعمل مع مكتب التحقيقات الفدرالي مباشرة، وربما مع اكثر من جهاز مخابرات عرب.
واذا سلمنا بوجود مثل هذا العميل في حلقة بن لادن الداخلية، وهو أمر غير مستبعد علما بأن الولايات المتحدة ودول اخري كثيرة رصدت مواد خرافية لاختراق هذه المجموعة، فان نظرية المؤامرة هنا لا تبدو بالسذاجة التي اعتدنا النظر اليها. فقد صرح صامويل بيرغر، رئيس مجلس الامن القومي في عهد كلينتون، بأن الولايات المتحدة رفضت تسليم بن لادن لها من السودان في عام 1996 لانها لم تكن تملك ادلة دامغة ضده، ومن هذا المنطق يكون من الطبيعي ان تقوم امريكا او حلفاؤها بزرع عملاء في داخل شبكة بن لادن ليقوموا باستدراجه لاعمال يمكن بعد ذلك ان تقيم الدليل المطلوب ضده. وقد يكون هؤلاء اجتهدوا في التحريض علي اعمال معينة، خاصة في داخل امريكا، تقيم الحجة الدامغة علي الرجل.
وربما كانت الخطة ان يقع نفس ما وقع لعمر عبد الرحمن وجماعته، وهي ان يعتقل الارهابيون بعد ان نثبت عليهم الحجة، ولكن قبل تنفيذ الجريمة. ويكشف الشريط المفترض السر في فشل هذه الخطة، حيث ان بن لادن كشف فيه ان غالبية العناصر المنفذة لخطف الطائرات لم تكن تعلم لا بطبيعة المهمة ولا بساعة الصفر الا في اللحظة الاخيرة. وهذا بدوره قد قطع بلا شك الطريق علي من كان ينتظر كشف الهدف وساعة الصفر قبل الانقضاض. من جهة اخري فان موت كل العناصر المنفذة قطع بدوره الطريق علي ربط هؤلاء ببن لادن وشبكته.
كل هذه الاعتبارات لا تقدح بالطبع في صحة نسبة الشريط وما ورد فيه لبن لادن. ذلك ان الاستدراج والاستغفال من الاسلحة المشروعة في الحرب، واللوم هو علي من وقع في الشرك لا من نصبه، واذا كانت هناك جماعات تدعي الانتساب الي الاسلام وتعجز مع ذلك عن التفريق بين عناصر المخابرات والمؤمنين الصادقين، وتسلم قيادها لطائفة من هؤلاء المنافقين، فان مثل هذه الجماعات تستحق اسوأ المصير، وتنطبق عليها الادانة القرآنية: بئس ما يأمركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين .
ومهما بلغت براعة المخابرات الامريكية ومخرجي هوليوود فان المتابع بدقة لما ورد في الشريط يدرك ان من الصعب فبركة ما ورد فيه من عبارات ذات نفس اسلامي واضح، وهذا بدوره يؤكد ان ما ورد فيها من اعترافات صحيح، وان بن لادن كان بالفعل الرأس المدبر لانفجارات نيويورك وواشنطن.
ولكن الساسة الامريكيين يخطئون اذا اعتقدوا ان اثبات الادانة بهذه الصورة يعني كسب الجولة الاعلامية والسياسية ضد بن لادن بالضربة القاضية. وهنا فان الاطلاع علي بعض ما ورد في اول الشريط كان كافيا للتنبيه علي هذه المسألة، فالشيخ الذي ظهر مع بن لادن كان يزف له معلومات مفادها ان كل مواطني المملكة العربية السعودية ـ او غالبيتهم علي الاقل ـ كانوا في اشد الابتهاج لما حل بأمريكا واهلها من بلاء ومصيبة، وانهم كانوا يتبادلون التهاني بالحدث، وهذا يكشف ان المسألة لم تكن تتعلق ببراءة بن لادن او ادانته، بل بالعكس، كان الابتهاج والاعجاب ببن لادن سببه الاقتناع بأنه كان وراء العملية.
واذا كان هذا هو الواقع في السعودية، وهي دولة حليفة للولايات المتحدة، وتؤوي اكبر قواعدها في المنطقة، فما بالك ببقية بقاع الارض؟ وهنا لابد من التذكير بان الغالبية الساحقة من مواطني السعودية وبقية دول الخليج كانوا في مقدمة من رحب بالتدخل الامريكي لاخراج العراق من الكويت، مخالفين بذلك سواد الامة الاسلامية والعربية ممن رفضوا التدخل الامريكي، وقد ادي هذا التوجه وقتها الي صدع في الامة تخوف البعض بأن يدوم ويصبح خلافا طائفيا يشبه خلاف السنة والشيعة. فقد كان الرأي العام في الخليج يقبل التأويل الرسمي للدور الامريكي، وهي انه كان ضروريا لاخراج العراق بسرعة، وانه محدود في الزمان والمكان والمهمة. اما بقية العرب فكانوا لا يثقون بالنوايا الامريكية، ويقولون ان الولايات المتحدة دخلت الخليج لحاجة في نفس يعقوب ولن تخرج منه ابدا.
التحولات الاخيرة اظهرت ان الرأي العام في الخليج قد تغير مئة وثمانين درجة، ولم يقف الامر بالخليجين عند الاستنكار للوجود الامريكي، بل تعداه الي تحولهم الي القوة الضاربة الرئيسية في العمليات الاخيرة، فقد كشفت الاحداث الاخيرة ان انشط العناصر في الاعمال المعادية لامريكا جاءوا من السعودية والامارات والكويت ومصر، وهي كلها دول كانت ولا زالت اصلب المكونات للتحالف الامريكي في المنطقة. ولم يأت هؤلاء من الصومال ولا السودان ولا العراق ولا حتي افغانستان نفسها. وهذا يعني ان احتلال افغانستان قد يكون بداية مشكلة امريكا مع ذلك البلد لانهايتها كما تحلم كوندوليزا رايس.
النقطة الاخري هي ان الغالبية من العرب الذين استنكروا الدور الامريكي في الخليج لم يكونوا مندفعين في ذلك الوقت باعتقادهم ببراءة العراق من غزو الكويت، أو احقيته في ذلك. بل بالعكس كان الكل يستنكر ما قام به العراق، وكانت هناك غالبية تكره النظام العراقي وتتمني زواله، ولكنها كانت تستنكر اكثر موقف امريكا والتحالف الغربي، ولم يكن هذا الاستنكار يقتصر علي العرب والمسلمين، بل شاركهم في ذلك جل العالم غير الغربي، واذكر في هذا الخصوص تعليقا سمعته من اسقف افريقي بعد فترة قصيرة من غزو العراق للكويت، يلخص بدقة المأخذ علي امريكا والعرب، هؤلاء القوم قال لي الرجل ظللنا نلاحقهم ثلاث عقود لفرض عقوبات صارمة علي جنوب افريقيا العنصرية، وفي كل مرة كانوا يتحججون بهذه الحجة او تلك، ويتحدثون عن ضرورة الحوار، وان ضحايا العقوبات سيكونون الابرياء. ولكن عندما اصبحت مصالحهم علي المحك، لم يستغرق منهم فرض اشد عقوبات عرفها التاريخ الانساني سوي اربعة ايام فقط .
اولئك الذين احتفلوا ببن لادن في المكسيك وليبريا والقاهرة ومدينة الكاب وكراتشي وجاكارتا لم يكونوا مقتنعين ببراءته، بل العكس، لو كانوا يعتقدون ببراءته لما القوا له بالا، الذي كان يحركهم هو اعتقادهم بأن الذين يباشرون رجم بن لادن ليسوا بلا خطيئة، بل هم بالعكس شر منه، وثانيا ان اسلوبهم في التصدي لخطيئته هو في حد ذاته خطيئة اكبر، لانه يكرر جريمته في استهداف الابرياء بصورة اكبر، وبعنجهية تتدثر بالمشروعية والاحقية والفضيلة. ويري هؤلاء في السلوك الامريكي تكريما للاستعلاء والغطرسة وروح الهيمنة التي اخذها علي امريكا المتضررون من سياساتها وتوجهاتها.
هذا التوجه الفطري في العالم الاسلامي وبقية دول العالم الثالث يمكن ان ينظر اليه في حد ذاته علي انه ظاهرة مرضية، لانها تخلق تشوهات في المشاعر، وتؤدي الي ردود فعل قصيرة النظر او انتحارية، ولا شك ان هناك مسؤولية كبيرة علي قيادات الفكر والعمل السياسي في العالم الاسلامي للتصدي لهذه المشاعر، وعدم مسايرتها والانقياد لها. ولكن هذه المهمة ستزداد صعوبة اذا استمرت القيادات الغربية ومجتمعاتها في اتخاذ المواقف المستفزة لعباد الله والمتغولة علي حقوقهم، فاذا كان بوش يتأسف علي قتل الابرياء في نيويورك ويأمر بقتلهم في غزة ويتولي ذلك بنفسه في افغانستان، واذا كانت اسرائيل تدين الارهاب في حق الافراد وتمارسه في حق الأمم والشعوب، فان دعوة العقلاء في العالم الاسلامي الي ضبط النفس ستواجه أذانا صماء، وسيتجه العالم كله الي فوضي وبربرية لا قاع لها.
ان المواقف الانفعالية غير المدروسة تضر بمصالح الشعوب المستضعفة علي المدي القصير. ولكن في هذا العصر الذي اصبح فيه بامكان فرد واحد ابادة مدن بكاملها باستخدام كميات قليلة من المواد الكيماوية، او البيولوجية، فمن مصلحة الجميع التعاون لتجنب الانسانية الكوارث والابتلاءات. واول سبيل لهذا هو التحري عن الاسباب التي تجعل ثلاثة ارباع سكان المعمورة يحملون الحقد علي ربعها الآخر، والبعد عن تغذية مشاعر الشوفينية والاستعلاء التي تعامل نصف العالم كعبيد يساقون بالعصا والسوط، وهي عوامل لا تساعد علي خلق الجو الصالح لمثل هذا التعاون.
في احدي روايات شارلس ديكنز عن الثورة الفرنسية يصور افراد الطبقة المسحوقة وهم ينسجون في غزلهم اسماء معذبيهم من الطبقات المستبدة انتظارا ليوم الانتقام، ويوم تسوية الحساب. وفي هذا انذار للمسؤولين الامريكيين بالا يغتروا للهدوء الذي يسبق العاصفة، والا يفرحوا بكثرة الرؤوس التي انحنت خوفا من صواريخ امريكا لا حبا في قيادتها.(القدس العربي اللندنية)