لم يسبق أبدا أن استمعنا إلي الدكتور نبيل شعث وزير الحكم المحلي في السلطة الوطنية الفلسطينية وأحد أهم المفاوضين الفلسطينيين في السنوات الأخيرة يصف في مقابلة علي الهواء أحد المواقف الأمريكية الأخيرة من العدوان الإسرائيلي علي أبناء شعبه بأنه زفت وأن يتحدث عن المجرم شارون مقرونة بعبارة وحارسه في البيت الأبيض في إشارة ساخطة إلي الرئيس بوش. وعندما سئل شعث، وهو من أبرز رموز ما يوصف بالإعتدال والبراغماتية في الساحة الفلسطينية عن احتمال اطلاق واشنطن مبادرة جديدة أجاب في نفور لا أعرف ولا أريد أن أعرف .
لم يسبق فعلا أن تحدث الدكتور شعث بهذه اللهجة وبهذه المفردات ولكن يبدو أنه ذات المنطق الذي جعل وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل يتحدث قبل أسابيع، في مصارحة نادرة، عن أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تفقد المرء عقله.. مما يعني أن معسكر العقلاء بين العرب والفلسطينيين هو الآن علي مشارف الجنون ليس فقط بسبب الدعم اللامحدود لسياسة العدوان الإسرائيلي - فهذا ليس جديدا في العرف الأمريكي ـ بل لأن هذا الدعم يأتي هذه المرة تحديدا لرجل في دموية وإجرام شارون وبمفارقة عجيبة تدعي الحرص علي عملية السلام والتسوية ولكنها لا تخجل في أن تطلب من الضحية أن يكف عن الدفاع عن نفسه وأن يسلم رقبته بلا حراك لعدوه في سابقة غريبة لم يشهدها قط التاريخ الحديث.
ومن هنا فإن الخطاب الأخير الذي وجهه الرئيس ياسر عرفات إلي شعبه يوم عيد الفطر، ورغم ما يثيره من غيظ في أكثر من نقطة، خطاب يمكن إبتلاعه علي مضض لو أنه يمكن أن يجد بعض التجاوب الأمريكي الذي يحتم تعديل كفة الإنحياز الأعمي المستفز ولكن هاهم الجميع يسارعون الي القول إن المطلوب من عرفات ليس الأقوال وإنما الأفعال.. وإذا ما فعل قالوا هذا خداع أو غير كاف.. وإذا ما مضي أكثر قالوا إنه لا يبذل مئة بالمئة من الجهد.. وهكذا في دوامة ركيكة متلفة للأعصاب ولا نهاية لها حتي لكأن المرء يستحضر هنا الجملة التعجيزية الشهيرة التي قالها أعرابي لآخر يرفض الإقرار بأنه يعرفه من قبل والله لو خرجت من جلدك لما عرفتك ... فحتي لو فعل الرئيس عرفات ما لا يقدر علي فعله ولا يجوز له أصلا أن يفعله ووضع كل أبناء شعبه في السجون أو ألزمهم برمي الحلوي علي الجنود عوض الحجارة لما أعلنوا رضاهم عنه ولطالبوه بالمزيد لأن لا شيء يشفي غليلهم سوي الإستسلام الكامل ورفع الأعلام البيضاء وهذا ما لن يظفروا به حتي في الأحلام.
وإذا كان الرئيس عرفات وهو رمز الإعتدال والمرونة والبراغماتية والبهلوانية أحيانا غير مقبول وتعلن حكومة شارون بكل صفاقة أنه أصبح خارج اللعبة، فمن ذا الذي تريده طرفا تتعامل معه؟!! ومن خبث ولؤم بعض الدوائر الإسرائيلية أنها تتبرع وتقترح أحيانا أسماء بدائل تراها جاهزة في مخيلتها المريضة مثل محمود عباس (أبومازن) وأحمد قريع (أبو علاء) وأحيانا العقيدين جبريل الرجوب أو محمد دحلان مع أن هؤلاء أرقي وأذكي من أن يلعبوا أدوارا قذرة كهذه وهم يعلمون مسبقا ما المطلوب منهم أداؤه.. أما واشنطن والإتحاد الأوروبي الذي اصطف الآن إلي جانبها ظلما وانتهازية فإنهم يزعمون استمرار الإعتراف بالرئيس عرفات ومع ذلك يعملون ليلا نهارا علي تهرئته وضرب مصداقيته وهيبته بين أبناء شعبه مع أن لا أحد يمكن بينهم أن يشكك في شرعيته التاريخية والنضالية بل والدستورية أيضا فهو منتخب من شعبه،تماما كشارون، ولا يمكن لبوش أن يعيره بالقول لإنه لا يمثل أحدا كما فعل مع غيره!!(القدس العربي اللندنية)