أشك كثيراً بأن يتعظ "الكواترو" اللبناني الحاكم تحت سقف المرجعية السورية للسلم الاهلي بما يحدث في الارجنتين.
ربما يخالج بعض اطراف هذا الرباعي قلق ما، مثل القلق الذي عبر عنه بيان رئيس الجمهورية اميل لحود قبل بضعة ايام حول مشروع قانون الايجارات وتحذيره الصريح - للمرة الاولى على هذا المستوى - من التلاعب على الحق المكتسب بـ"التعويض" للمستأجر ورفضه مباشرة نسبة الـ20 بالماية التي يضعها المشروع الجديد. قلق رئيس الجمهورية حيال المبالغة في الضغط على ذوي الدخل المحدود كان ينبغي ان يكون سبباً لرفضه احالة المشروع على المجلس النيابي، وليس "اعلان الوجع" بعد "اطلاق الرصاصة" التي نظمها "اللوبي العقاري" ونجح في فرضها على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والحكومة فصوّبها على الجسم الشرعي للطبقة الوسطى اللبنانية وما دون اي على المستأجرين القدامى، وهم مع عائلاتهم ثلث الشعب اللبناني المقيم. ضرائب متمادية، ومشروع "تهجير" ثلث الشعب اللبناني، وهدر متواصل في الخزانة العامة المديونة... لا شك انها كلها عوامل "ارجنتينية" تقع في خلفية بيان رئيس الجمهورية المشكور حول الايجارات... مع التمني عليه ان يسعى الى سحبه من المجلس النيابي لدراسته مرة اخرى، كدليل حسن نية عملي حيال المستأجرين المطلوب انصافهم بالحفاظ على التعويض وحيال المالكين المطلوب انصافهم بزيادة بدل الايجار.
صحيح ان المعني الاول في نظر الرأي العام "بـ"الحالة الارجنتينية" في لبنان هو رئيس الحكومة رفيق الحريري. لكن الحدث الارجنتيني مناسبة بل فرصة له لكي يعيد التأمل على الاقل في نقطة جوهرية واحدة هي ان اعتماده المبالغ به على التسويات السياسية - اي داخل الرباعي الحاكم - لن يفيده بالمطلق على المدى الأبعد، خصوصاً اذا وقع الانفجار الاجتماعي، او الارجح في الحالة اللبنانية، اذا جرى توظيف عوامل الانفجار الاجتماعي الكامن والجاهز، لاحداث تغييرات في تركيبة "الكواترو". فعندها سيتنصل "الجميع" داخل السلطة من مسؤوليتهم عن السياسة الاقتصادية (التي اعتاد عدد من السياسيين اللبنانيين على القول إنهم "لا يفهمون فيها" حين يريدون التنصل من أي مسؤولية عنها) والتي اصبحت شديدة الضغط على ذوي الدخل المحدود، خصوصاً مع المشاريع التي يجري تحضيرها (وجرى تحضيرها في الخفاء على اساس "احصاءات" سرية لم يكشف عنها) مثل مشروع قانون الايجارات، مع العلم اننا، مع الكثيرين، نؤيد سياسة رئيس الحكومة الرافضة الانصياع الى ميل خبراء صندوق النقد الدولي لتخفيض سعر العملة اللبنانية، لأن هذا التخفيض اولاً لن يحل مشكلة المديونية التي اصبح جزء كبير منها بالدولار، فضلاً عن ان التخفيض يؤدي الى ان يدفع الاكثر فقراً في المجتمع ثمن سياسة انتهجها الاكثر نفوذاً في طبقة سياسية ذات سمعة مشابهة جداً لسمعة الطبقة السياسية الارجنتينية. والاصرار على ابقاء سعر العملة يخدم ذوي الدخل المحدود في قدراتهم الشرائىة اطول فترة ممكنة، بينما تخفيض سعر العملة يجعل الازمة ضاغطة على ذوي الدخل المحدود وحدهم وليس على الطبقة السياسية. انه اختيار بين شروط ازمة اقل سوءاً من شروط ازمة اكثر سوءاً من منظور مصلحة ذوي الدخل المحدود، اي غالبية الشعب اللبناني.
رئيس الحكومة معني في هذا الجو الارجنتيني بأن يفكر جدياً بسياسة تعطي اولوية لتخفيف الاعباء على ذوي الدخل المحدود، بحيث يحصر سياسته "السنيورية" (اي الضرائبية) في المجالات التي لا غنى عنها، لكن يجب ان يوقف وبسرعة "الانقلاب" الاقتصادي - الاجتماعي الذي يحضر له "اللوبي العقاري" وغيره من "لوبيات" اقصى الرأسمالية اللبنانية المتوحشة.
الرسالة "الارجنتينية" لا شك انها دقت ناقوس الخطر في كثير من دول "الجنوب". صحيح ان زعماء الطائفيات اللبنانية مطمئنون عموماً الى ان "خصوصية" الوضع اللبناني يمكن ان تحميهم من الحالة الارجنتينية بمعنى ان اي توتير طائفي يمكن ان يحرف انظار الرأي العام الغاضب من الفقراء والمفقرين الجدد والمتزايدين عن محاسبة الفساد لكي ينصرف هذا الرأي العام الى تجاذباته الطائفية بما فيها - يا للمهزلة والمأساة معاً - حين يجري تطييف بعض المشاريع الاقتصادية - الاجتماعية لكي يكسب "المشروع" الحماس الضمني لـ"ابناء الطائفة" بصفته موجهاً ضد "الطائفة" الاخرى!
صحيح اذن ان خصوصية الوضع اللبناني يمكن ان تدفع المسؤولين الى قلق اقل... ولكن - وهذه "نصيحة" بكل تواضع - لا يمكن الاعتماد الدائم على هذه الحالة عندما يقع الانفجار الاجتماعي في "توقيت" سياسي يوجهه ضد... رمز معين دون غيره.
الرسالة "الارجنتينية" هي طبعاً رسالة لعدد من الاوضاع العربية المديونة والمتراجعة والمغلقة الآفاق، في بلد، هو الارجنتين، تجمع كل التقارير ان رئيسه المستقيل (والحقيقة المطرود الذي غادر القصر على متن هيليكوبتر) لم يصدق التحذيرات التي كانت تأتيه منذ مدة عن عمق المعاناة الشعبية. وكان يعتبر ذلك جزءاً من "الحرتقة" السياسية عليه.
حذار من "الارجنتينيين العرب"... الذين اعطونا بعض الفسحة للانتباه الى غير "الافغان العرب" الذين فرضوا انفسهم وفُرضوا، علينا.
نحن "الارجنتينيين العرب". (النهار اللبنانية)