&
القاهرة : نبيل شرف الدين
بعد أن تراجعت موجة العنف السياسى الذى مارسه منتمون الى الجماعات الأصولية الإسلامية ، وهدأت بشكل أقل فى أشد مناطق العالم العربى اشتعالا - الجزائر - تلك الأحداث الدامية التى حصدت أكثر مما تحصد الحروب الشاملة بسبب رؤى عنيفة لمنتمين الى فصائل إسلامية. ومع الهدوء الذى اتسع ليشمل عواصم أخرى راحت جماعات الإسلام السياسى المصرية تعلن عن مبادرة لوقف العنف، ثم زاد منظروها فوضعوا نصوص جديدة تنبذ العنف وتقبل بآليات النضال السلمى مما كان مرفوضا لسنوات طويلة. ومن جانبه ذهب محمد مصطفى المقرىء القيادى الناشط فى جماعات الإسلام السياسى فى أوروبا الى وضع كتاب هام بعنوان 'حكم قتل المدنيين فى الشريعة الإسلامية'.
برز الإفتاء فى الفترة المعاصرة كمؤسسة وكعملية واصلتين بين الشرع والدين من جانب والظواهر المجتمعية من جانب آخر، وتقوم الدراسة ببحث إشكالية التفاعل بين الإفتاء من جانب والظاهرة السياسية فى مصر من جانب آخر.
ويقرر الباحث منذ البداية أنه لاحظ فى دراسات علم الاجتماع الدينى ذلك التحيز من جانب علماء هذا العلم لصالح البروتستانتية وضد الإسلام. وتطرح الدراسة عددا من الأسئلة البحثية الهامة مثل : ما هى الخصوصية الحضارية لمفهوم الإفتاء? وهل هناك مناهج تراعى هذه الخصوصية الحضارية فى دراسة تفاعلات الإفتاء مع الظواهر السياسية? ما هى أسس وجذور العملية الإفتائية فى مصر، وما هى وظائف تلك العملية? هل يمكننا القول بوجود تفاعل بين الإفتاء من جانب والأبعاد الثلاثة للتنمية السياسية (المشاركة والشرعية)، والاقتصادية (حفظ المال) والاجتماعية (حفظ النسل) من جانب آخر? .. هل هناك تفاعل بين الإفتاء والسياسة الخارجية? هل أضافت دراسة التفاعل بين الإفتاء والظاهرة السياسية الى التفاعل بين الظاهرة الدينية والظاهرة القومية فى مصر موضوعا ومنهاجا?
يعد الإفتاء هو المفهوم المحورى فى هذه الدراسة، والإفتاء فى جوهره الحكم الشرعى أو الرأى الشرعى فى مسألة ما على سبيل الاستشارة وليس الإلزام، وغالبا ما تسبق بسؤال يكون مثارا للاهتمام عن شخص أو من جماعة أو من مؤسسة ما، وتختلف الفتوى فى ذلك عن مفاهيم أخرى مثل الفقه والقضاء، فهى تختلف عن القضاء فى عدة أمور أهمها طبيعة ومدى إلزام كل منها. وتعد مسألة إلزامية الفتوى من المسائل محل الجدال. ويميز د. نصر فريد واصل المفتى الحالى لجمهورية مصر العربية بين نوعين من الفتوى : الفتوى القضائية والفتوى الاجتهادية.
وتنقسم الدراسة الى ثلاثة فصول تسبقها مقدمة نظرية وتلحقها خاتمة وقائمة المراجع. يتناول الباحث فى المقدمة النظرية تعريف المفاهيم الأساسية الواردة فى الدراسة وتطورها كما يتناول التعريف بمقولات ومناهج وتقسيمات الدراسة. وفى الفصل الأول يتناول الباحث بالوصف والتحليل التفاعل بين التطور الذى تعرضت له مصر نحو الدولة القومية من جانب والإفتاء من جانب آخر، وذلك فى مبحثين، يتعلق الأول بالعلاقة ما بين الإفتاء والبعد الدولى فى بناء الدولة القومية وذلك بتقسيم هذا المبحث الى أولا : التفاعل بين الإفتاء والبعد الدولى فى الدولة القومية. ثانيا : التفاعل بين المفاهيم الخاصة بالجنسية والدستور باعتبارهما من المفاهيم الأساسية فى الدولة القومية من جانب والإفتاء من جانب آخر. ثالثا : التحول عن مؤسسة الخلافة وموقف الإفتاء منها.
وفى المبحث الثانى من الفصل الأول، ندرس تأثير هذا التحول نحو الدولة القومية فى مصر على عملية مأسسة الإفتاء.
وفى الفصل الثانى، تعكف الدراسة على تحليل العلاقة بين الإفتاء والتنمية وذلك من خلال ثلاثة مباحث، فى الأول ندرس التفاعل بين الإفتاء وإشكاليات المشاركة الشرعية، وفى الثانى ندرس التفاعل بين الإفتاء ،التنمية الاقتصادية، وفى الثالث ندرس التفاعل بين الإفتاء والتنمية الاجتماعية (السكان والمرأة).
فى الفصل الثالث .. يدرس الباحث التفاعل بين الإفتاء والسياسة الخارجية، وذلك فى نموذجين رئيسيين شكلا تحولا فى السياسة الخارجية المصرية وذلك فى مبحثين، فى الأول ندرس كيف تفاعل الإفتاء مع التحول فى السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل، وفى الثانى ندرس التفاعل بين السياسة الخارجية المصرية تجاه أزمة الخليج الثانية من جانب والإفتاء من جانب آخر.
أثبتت الدراسة عدم ضرر الاستشراق على دراسة الظاهرة الدينية فى العالم الإسلامى، فالاستشراق يدرس الإفتاء دون أن يعير مصادره الشرعية أى اعتبار : ولذلك فللإفتاء فى الرؤية الاستشرافية وظائف شبيهة بوظائف مؤسسات التشريع الرومانية الاستشارية، وإلزامها القانونى ضعيف. وأثبتت الدراسة أيضا أن للإفتاء وظائف هامة أخرى نابعة من اختلاف الخبرة فى الدول الغربية عنها فى الدول الإسلامية.
وفى محاولته المستفيضة لرفع الإلتباس فيما بين السياسة والإفتاء، يطرح الباحث مفهوم الإفتاء المدنى، حيث عمقت ظاهرة الإفتاء المدنى من دائرة التفاعل بين العملية الإفتائية من جانب والتفاعلات الاجتماعية من جانب آخر، فأصبح الإفتاء المدنى يمثل ضمير المجتمع المدنى ورقابته على الدولة بمؤسساتها الإفتائية، ومارس المجتمع بفئاته الإجتماعية وظيفة هامة فى الضبط العقيدى للدولة.
ومن ناحية أخرى فقد أصبح الإفتاء الرسمى قائدا لسياسات الدولة فى مؤتمرى الإسكان والمرأة، وأصبحت سياسة الدولة الرسمية قائمة على أساس الفتاوى، لكن عندما يتعلق الأمر بالسياسات الاستراتيجية العليا كالاقتصاد والسياسة الخارجية يصبح دور الافتاء هو تبرير السياسات. إن رسالة الباحث فى شأن العلاقة بين الإفتاء والسياسة فى مصر هى دراسة متميزة، وهى فضلا عن التزامها العلمى ومنهجيتها المنضبطة تتسم بجمال العرض وقيمة المعلومة. والأغلب أنها ستشكل إضافة قيمة لمجمل الباحثين فى النظم السياسية فى العالم الإسلامى ولصانع القرار فى ذات النطاق الجغرافى الذى بات لزاما عليه أن يتعامل مع النص الدينى وتفسيره وتأويله واستخدامه فى مناحى الحياة المختلفة تعاملا أساسيا لا عرضيا وهو يخطو باتجاه المستقبل.