&"اطلبوا العلم ولو "من" الصين"!
ولكن، هل يتعلّم المستعظمون والمتعاظمون على لبنان، دولاً غربية كانوا أم "متغاربين"، ثم "المتعاربون" كذلك؟... هل يدركون مغزى مباشرة وزير خارجية الصين جولته في الشرق الاوسط بالعاصمة اللبنانية، وفي رأينا انه قد فعل ذلك لا ليتعلم من حكامها - وهو حتماً& بكل ما سمع وشاهد أعلم!... - بل ليشهد ان الوطن الصغير لا يزال عاصمة قضية الشرق الاوسط، "العاصمة - المختبر" حيث كل شيء يُرى ويُقال ويُعلم بحرية لا يسربلها ولا يتهددها خوف من ارهاب... خصوصاً ارهاب الأنظمة المحيطة بلبنان، التي حوّلت حتى الثورات التي انجبتها (وكذلك العقائد التي توارثتها) الى سجونٍ للكلمة والفكر، فأذلّت ديموقراطية حقوق الانسان بـ"تخشيبها" وتحنيطها، وراثةً بعد وراثة، ولا حياة فيها للإرث ولا للروح.
فليتعلم هؤلاء من هذه الشهادة للحرية... شهادة للبنانٍ لا تزال ارضه تنطق بالعقل والمعقول، مهما حاولوا عسكرته ومهما حاولوا ارهابه... بالارهاب عليه حيناً وبالارهاب منه كذلك.
* * *
ترى، هل حدّث الوزير الصيني - من منطلق أعظم ثورة في العالم المعاصر - هل حدّث المسؤولين اللبنانيين عن& شرعية المقاومة وكيف ومتى تكون؟... والناطقون عندنا بتعايشها مع& شرعية الدولة يصرِّحون بما لا يفقهون!
يحضرنا هنا كلام المطران جورج خضر في افتتاحيته "نهار" السبت الماضي حيث قال:
"(...) لا يُسقَط القوي باستقواء الضعيف عليه (...) لا يُزال الشرُّ بالشر ولا يُبادُ السلاح بالسلاح، ولا تنتقم من الذين قرروا الانتقام منك. ذلك ان الارهابي الموصوف - ونحن لا نعرفه في لبنان - يخطئ حسابه اذ لا يعرف إرادة كسره عند الاشداء. قذيفة هنا وهناك او تفجير كبير او تفخيخ، هذه كلها تحرشات صغيرة تزيد الأعزة شراسة.
هذه ليست حرب الانصار (...) تقنية ضمن الستراتيجية الحربية التي كانت الجيوش تقوم بها. أما الارهاب "الحر"، الانفعالي غير المرتبط بأية دولة او مقاومة وطنية شاملة فمكتوب له السحق. هو يقدِّم فرصة الغلبة لساحقيه.
ذلك ان السلام هو الغاية (...) والسلام تهيئ له بمئة اسلوب لا عنفي".
* * *
... كأننا بالمطران جورج لا يخاطب لبنانيي اليوم فقط، بل يتجاوز اللبنان الذي دفع في الماضي عشرين سنة من الحروب العبثية ثمن تناقض منطقي الشرعيتين، شرعية دولته التي كانت متلاشية وشرعية الثورة الفلسطينية التي تشرعنت في ربوعه بقاعدة شعبية لبنانية التصقت بها الى حد الذوبان فيها...
كلام المطران - نقول - يتناول مأزقين دستوريين اثنين، بل مأزقين "كيانيين":
المأزق الفلسطيني، حيث يصطدم "مسار الدولة" الذي أطلقه "الرئيس" ياسر عرفات، بالمسار الثوري لانتفاضةٍ كان هو يرعاها ومنها يستمد قوة... فاذا بها تتجاوز الشرعية التي صارت لها، نتيجة "تلازم المسارين"، لتتمرد على "الدولة" التي كان يُفترض ان تقترن بها ضمن السيرة المتوحّدة.
ثم المأزق اللبناني، حيث حلّت "المقاومة الشعبية" في تحرير الوطن محل الجيش اللبناني الغائب، والغائبة معه "الستراتيجية الحربية" التي تحدث المطران عن شمولها - في آنٍ واحد - العمل العسكري و"حرب الانصار" (حتى "الارهاب") في تاريخ الأمم المناضلة... فأيننا منها؟
* * *
لكي نتجاوز مآزق غياب العقل - فكيف بالمنطق ؟ - عن ثوراتنا والحكم، الحكم... الحكم المدّعي الانتساب الى الثورية الفلسطينية... - لكي نتجاوز المأزق، لا نخاله يضيرنا ان نطلب العلم لا "من الصين" وحدها، بل من الروسيا كذلك، واوروبا الشرقية، وصولاً الى اوروبا فرنسا!...
فهل نتعلم؟ أم نستمر نندفع من هزيمة الى مفاخرة، الى فخ فإلى هزيمة اشنع فإلى فخ هزيمة اخرى نفاخر بها، رغم اللاقيام منها!... وكأننا باستمرار لا تستهوينا سوى "الصوملة" (نسبة الى الصومال) و"الأفغنة" و..."الاعتراق"؟
* * *
الأمثولة العظمى التي كان يجب ان نحاول استعلام الوزير الصيني عنها هي "الثورة الثقافية" التي هزت الصين بعد "استنقاع" الحكم الشيوعي فيها، فغيّرت مقاييسه وتوجهاته... ثورة انطلقت& من ممارسة للنقد الذاتي الجماعي لا للثقافة الثورية فحسب، بل لثقافة الأمة السياسية، وثقافة الحكم خصوصاً!
وفي ظننا اننا، للمرة الأولى، نقارب "التصرف النقدي" حين نرى "حزب الله" يمتنع عن القفز في الفخ الذي نصبه له الرئيس "الغول" ارييل شارون بغاراته الوهمية المهولة، على أمل ان "يتجاوب" الحزب فيردّ بقصفٍ ما... وتعود الطائرات الاسرائيلية بعد ذاك لا لتدمّر مواقع "حزب الله" فحسب، بل القرى والمدائن التي تحتضنه... حتى اذا ما قاوم عندئذ كما كان سيفعل حتماً، وشرعاً، اكتملت الخطة الجهنمية الوحشية فمضت اسرائيل في ما عجزت عن انجازه عام 1982 من تدمير لكل لبنان، ولمخيمات فلسطينييه !
وهي ستسمي ذلك كله "حرباً على الارهاب"، بالوكالة عن اميركا المتورعة عن ضرب لبنان مباشرة، انما غير المتورعة عن بيع اسرائيل في هذا الظرف بالذات اساطيل من طائرات "اف16" وربما غداً قاذفات قنابل "ب52"... مما لا تتسع له كل سماوات فلسطين ولبنان. فالى أين الطيران المهدِّم بها اذاً غير الآفاق العربية برمتها التي تريد اسرائيل اشعالها حتى النهاية؟
* * *
تهانينا، نكرر، لـ"حزب الله" لتغلبه على "تجربة" الانفعالية الخطابية، فلم يقع في الفخ الاسرائيلي... انها بداية الحكمة، فهل تصبح بداية الطريق الى النقد الذاتي لثقافته الثورية؟ لا نخال كثيراً عليه ان ندعوه الى سلوك الطريق الصيني الى "ثورة ثقافية" اعمق مدى واثراً، فيقتنع بأن تحزيب "الله الصمد" هو كمثل احتكاره، أمر حرام ومحرّم لأن "أحدية الله" جلَّ جلاله تفترض ان يكون الايمان به والانتساب اليه حلالاً لكل مؤمن يطلب ذلك اياً كان حزبه او كانت طائفته.
خطوة نحلم بها، بل نطلبها لكي ينطلق لبنان كله معاً في ثورة سلمية تصير نموذجاً لعربٍ اثبتت دولهم انها مجموعة "مومياءات" لفلفت اجسادها المذهّبة بأكفانٍ فوق أكفان، وكلّست كالقبور قصورها العاهرة والسرايات، فصارت كمغارات "تورا بورا" لن يخرج المرابطون فيها الا فراراً من موت الى موت!!!
* * *
هل هذا ما ينتظرنا؟ ممكن؟
لا نيأس. اليأس هو الطريق الى "القبور المكلّسة" ومغاور الارهاب!
يجب ان يثور لبنان على الذين يدفنونه في ثقافة الموت، ثقافة الكهوف... واننا لندعو كل "احزاب الله"، وفي طليعتها الحركات الاسلامية، الآن بالذات، الى نقدٍ ذاتي، بل ندعوها الى ثورة ثقافية تتجاوز التطلعات السياسية الى ما تنتظر وننتظر معها من التطلعات الدينية السامية الابعاد.
ذلك ان بعض التحنيط هو ان نكتفي بالترداد الببغائي ان "الارهاب لا يكافح بالارهاب" (بما في ذلك الارهاب الاميركي فاعلاً ومفعولاً)...
* * *
آن الاوان لأن يلبي مسلمونا والنصارى العرب معاً النداءات الى "سلام الله" كمثل الذي توجَّه منا والينا، في مؤتمر بروكسيل، عاصمة اوروبا، برئاسة البطاركة والمشايخ ... مرددين قول البطريرك اغناطيوس الرابع (هزيم) هناك: "السلام مسار. واذا فُقدت العدالة والحرية والكرامة الانسانية، فكيف يمكن الحديث عن السلام؟".
ومرددين كذلك قول شيخ الازهر (بلسان الشيخ فوزي الزفزاف) في المقام ذاته في بروكسيل: "يمكن ان يتم التعايش السلمي البنّاء في مجتمع متعدد شرط صدق النية والرغبة الجادة في تحقيق هذا التعايش والاخلاص فيه (...) واستعمال المنطق والعقل لاقناع الآخرين بحتمية تحقيق هذا التعايش لما فيه الخير الذي يعم جميع البشر".
أليست تلك الدعوات، لا "السلفيات" ولا "تحزيب التديّن"، هي الطريق الى ما يصح وصفه بالثورة الثقافية ، فلا نظل نظن ان اكثرنا ايماناً واقربنا الى الله انما هو الاشدّنا تعصباً وتطرفاً؟
طوّل الله عمر دعاة الخير كمثل الصوت الشيعي الآخر الذي يردد ولا ييأس، الشيخ هاني فحص، مفسراً ما معناه ان على المسلمين، كما على سائر المؤمنين بالله، الانتقال من الكلام عن الدعوة لنشر الدين، ولو بالجهاد او الحرب،& الى العناية بالانسان، الانسان روحاً وعقلاً ومصيراً... أي العناية المشتركة بحقوق الانسان وترقية حياته وحضارته، وبكرامته وحرياته في مجتمعه الحر.
* * *
ان لم يكن ذلك كله "ثورة ثقافية" في المسيحية والاسلام، ضمن الدين وليس ضدّه، فانه في نظرنا بداية الدعوة الى ثورة تدرأ أخطار الاصوليات، فضلاً عن العقائديات السياسية البالية التي انتهت الى انماطٍ متخلّفة من الحكم الديكتاتوري، والى الوانٍ واشكال من الارهاب، ابرزها "ارهاب الدولة الاسرائيلي"!
أخطار ليس أقلها شأناً حروب عبثية اخرى يوقعنا في شراكها الاعداء، وما اكثرهم وما أوفر تودد بعضهم الينا بشرورٍ تتلبس خيراً بعد شر! (النهار اللبنانية)
&