&
الإنترنت تنمو بسرعة متضاعفة, ففي نهاية عام 1977 كان هناك 56 مليون مستخدم للإنترنت في العالم, وتبين الاحصاءات أن تعداد مجتمع الإنترنت في العالم كله الآن هو حوالي 391 مليون مستخدم , ويتوقع أن يبلغوا حوالي 774 مليون مستخدم في عام 2003, وهناك 3 ملايين مستخدم جديد ينضمون كل شهر. وصاحب هذا النمو المستمر اهتمام متزايد بديناميكيات سلوكيات الأفراد وهم في تفاعل على الخط, متصلين بالإنترنت.
يهتم العالم اليوم بالدراسات التي تقيس التأثيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية لاستعمالات الإنترنت, وهي دراسات تهتم بتأثير استعمال وتطبيق الإنترنت على النسق الاجتماعي وعلى سلوكيات الأفراد, وهو ما يدخل في المجال المعرفي الجــديد نســبياً والـــذي يعــرف بــ Social Informatics أو المعلوماتية الاجتماعية - إن صح التعبير - وهي الدراسات والبحوث التي تتناول تأثير تطبيق واستعمال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات على النسق الاجتماعي, أو التغييرات الاجتماعية الناتجة عن تطبيق واستعمال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات.
المجموعة الأولى من الدراسات اهتمت بدراسة الأبعاد الاجتماعية والنفسية لطبيعة الاتصال البشري من خلال الإنترنت, فرغم التقدم النسبي في تكنولوجيات الإنترنت في نواحي الصوت والصورة, فإنه مازالت الاتصالات التي تتم عبرها تعتمد بصورة مبدئية على النص المكتوب, فمثلاً سوء التفاهم الذي يحدث من خلال الاتصال (الإنترنتي) ناتج عن غياب الإشارات الحسيّة الأخرى التي تدعم عمليات الاتصال في العالم الحقيقي, مثل الابتسامة , وتقطيب الوجه , وغير ذلك من حركات اليدين, ونظرات العينين التي تدعم عمليات الاتصال في العالم الحقيقي الذي يعتمد على تنوّع الإشارات في تفسير أجوبة شخص ما.
والاتصال الإنترنتي يعطي قدرة كبيرة على تغيير الهوية,لذلك تصبح الإنترنت غير صحيّة ودون فائدة لبعض الناس حين يدخلون في اتصالات على الخط في غرف الدردشة ومجموعات المناقشة وتبادل الخطابات الالكترونية, ولها أيضاً تأثيراتها الاجتماعية والنفسية الضارة حين يدمن هؤلاء الناس الإنترنت. وطبيعة الاتصال الإنترنتي الذي يعتمد على النص ويتصف بأنه اتصال بارد يعتبر معوّقاً كبيراً للاستشارات العلاجية النفسية والاجتماعية التي تتم على الخط في الإنترنت. والتي يجب أن تراعي القيم الثقافية والاجتماعية والأخلاقية للمناطق الجغرافية المختلفة.
مخلوقات ميكانيكية
ولكي نتعرف بعمق على الكيفية التي غيّرت بها الإنترنت حياتنا, ظهرت في الشهور الأخيرة عدة أبحاث وكتب أشهرها ما كتبته الدكتورة شري توركلي Sherry Turkle, مؤلفة كتاب (الحياة على الشاشة: الهوية في عصر الإنترنت).
فهي تؤكد أن التغييرات التي يحدثها الكمبيوتر الشخصي والإنترنت في عقولنا يجب أن تفهم من خلال فهم جهاز الكمبيوتر وشبكة الإنترنت كأداة للتفكير, فنحن نتعلم الراحة والمعايشة والتحدث مع آلات ذكية, ونتعلم أيضاً أن نثق في محكات الكمبيوتر, ونتمتع بها مثل كائنات تحس وتشعر, ونتعلم أيضاً أن نقبل صورتنا عن أنفسنا كما تراها تلك المحكات, وأصبحنا نرى أنفسنا على نحو مخالف لما تعوّدنا عليه, وأصبحنا نقبل صورتنا في مرآة الآلة, وتقول أيضاً: (إن عملية تطوير وتنمية نوافذ الكمبيوتر بشكل تبادلي هي ابتكار تقني حفز بواسطة الرغبة في أن يعمل الأشخاص بكفاءة أكبر, من خلال استعمال عدة تطبيقات مختلفة في الوقت نفسه, لكن في الممارسة اليومية للكثير من مستعملي الكمبيوتر, تصبح نوافذ الكمبيوتر مجالا قوياً للتفكير فيها كامتداد مضاعف ومتعدد للنفس البشرية).
والدكتورة توركلي بدأت ملاحظتها المنهجية لقياس التغيير السيكولوجي لمستعملي الكمبيوتر مبكراً في عام 1980 حين حدثت ثورة الكمبيوتر الشخصي خاصة بعد انتشار نظام النوافذ كنظام تشغيل. ومن أجمل ما قالته في كتابها: (إن الكائنات الإنسانية أصبحت في تشابك تام مع كائنات التكنولوجيا, وأيضاً مع بعضها البعض لدرجة الصعوبة التامة في التمييز بين ما هو إنساني وما هو تكنولوجي! آلات تتكلم مع آلات قبل أن تتكلم مع إنسان, هذه هي حقيقة الحوار الذي يتم بين البشر في الإنترنت, فنحن نعيش الحياة كلها الآن على شاشة الكمبيوتر أو شاشة الإنترنت, حتى أصبحنا مخلوقات ميكانيكية تتكون من خليط من البيولوجيا والتكنولوجيا والشفرات المكودة. والمسافة التقليدية بين الإنسان والآلات أصبح من الصعب المحافظة عليها. وعندما ننظر إلى ايقونات سطح المكتب على شاشة الكمبيوتر يجب أن نفكر كيف يعلمنا الكمبيوتر التفكير والعمل?! وماذا يفعل كل الملايين من المتزحلقين الجدد في شبكة الويب. والذين يبدأون الآن مجرد بداية إلى المغامرة في (السيبرسباس) (فضاء الإنترنت), إنهم يحتاجون إلى أن يفهموا أن هناك تغييرات ستحدث في عاداتهم العقلية, وفي خريطة تفكيرهم, وفي قواعد اللعبة! ويجب أن نحاول باستمرار أن نوظف محكات الكمبيوتر كأداة لتعلية وتحفيز الوعي).
أمراض الإنترنت
المجموعة الثانية من الدراسات تناولت تأثير استعمال الإنترنت على انتشار مشاعر الاكتئاب والعزلة الاجتماعية, فدراسة كريستوفر سانديرز التي نشرت في صيف 2000 وجدت علاقة قوية بين استعمال الإنترنت ومشاعر العزلة الاجتماعية والاكتئاب بين الطلاب المراهقين في المدارس الأمريكية, وصنف الطلاب إلى مجموعات ثلاث. الأولى تستعمل الإنترنت بشدة وكثافة, (أكثر من ساعتين في اليوم) والمجموعة المتوسطة (من ساعة إلى ساعتين في اليوم) والمجموعة الثالثة الأقل استعمالاً (أقل من ساعة في اليوم), والتي اتضح أنها أكثر تفاعلاً في العلاقات الاجتماعية مع الأب والأم والأصدقاء, وأقل شعوراً بالاكتئاب والعزلة عند مقارنتها بالمجموعة الأولى الأكثر استعمالاً للإنترنت. وبيّنت الدراسات أن هناك علاقة قوية بين زيادة وارتفاع استعمال الإنترنت وزيادة سوء استخدامها, وبدأ علماء الاجتماع في عنونة تلك القضايا تحت عنوان اكتئاب الإنترنت, وإدمان الإنترنت.
وفي دراسة طويلة استمرت لمدة سنتين , بطريقة عشوائية اختيرت عائلات أعطيت لها أجهزة كمبيوتر وتدريب على استعمال الإنترنت, وبينت نتائج الدراسة التتبعية أنه بعد سنة واحدة إلى سنتين, كان الاستعمال الزائد للإنترنت مرتبطا بعلاقة إحصائية مع انخفاض الاتصالات العائلية, ونقص حجم الدائرة الاجتماعية المحلية للعائلة - بالإضافة لذلك, زادت مشاعر الاكتئاب والوحدة بين المشاركين, وكان انخفاض المساندة الاجتماعية أكثر انتشاراً بين الشباب, وارتبط هذا بتعرضهم لمواقع الفحش والأدب المكشوف.
وتبرز النتائج أيضاً أهمية دراسة تأثير استعمال الإنترنت بين المراهقين, ففي دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية كان حوالي 12% من مستخدمي خدمات الإنترنت من الفئة العمرية 13-17 عاماً, ويتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 31,4% في عام 2002. وفي منطقتنا العربية تبين الاحصاءات المسحية المبدئية تزايد استعمال الإنترنت بين المراهقين العرب.
فحش الإنترنت
في 19 مارس عام 2001 صدر في أمريكا كتاب بعنوان الفحش العام - حماية الأطفال من فحش الإنترنت, ومؤلفه Dan Gabriel يقول فيه: (أصبحت المكتبات ميدانا للقتال على الأدب المكشوف للإنترنت, والمحافظون المخلصون في كل مكان أصبحوا يطالبون بالتدخل الفيدرالي لحماية أطفالهم. وتشتد الحرب الثقافية داخل مكتبات أمريكا, حيث تحذر جماعات المحافظين من فحش الإنترنت المنتشر خاصة في المدارس الداخلية, وأن مكتبات المدارس العامة أصبحت مأوى للكلام البذيء الخالي من الخجل خلال خدمة الإنترنت التي تقدمها تلك المكتبات). وهو مؤشر لنا في منطقتنا العربية للرقابة على مراكز ومقاهي الإنترنت التي يقبل عليها الشباب والمراهقون هرباً من الرقابة الأسرية, خاصة أن الإنترنت في الغرب بوابة واسعة لتجنيد الأطفال والشباب من الجنسين في أفعال الجنس الشاذة.
جرائم الإنترنت
وانتشرت أيضاً ما يعرف بجرائم الإنترنت وهي تحمل خصائص جديدة للجريمة, والجرائم التي تدور عبر الشبكة متنوعة, وتتراوح بين الجنح الصغيرة والجرائم الخطيرة, منها الاحتيال واستغفال الآخرين, حيث سهّل البريد الإلكتروني بعض أنواع الاحتيال, نظراً لسرعة وسهولة إرسال الرسائل بواسطته إلى عدد كبير من الناس.
وجرائم الإنترنت أصبحت هي أيضاً موضعاً لاهتمام الدراسات والبحوث التي تقيس تأثير الإنترنت على النسق الاجتماعي, والعجيب أن موقع (شرطة إنترنت) (www.web - police.org), يستقبل شكاوى يومية من مستخدمي الإنترنت في مختلف بلدان العالم, ويحقق فيها. وتدور هذه الشكاوى حول جرائم التزييف والإزعاج والاحتيال والسرقة, والاعتداء, والاحتيال, والتجسس, والتهكم, والقذف. التي تجري عبر الشبكة, بالإضافة إلى جرائم أخرى, مثل إساءة استخدام الشبكة, وخرق للقوانين المعمول بها, كوضع صور أطفال إباحية أو الاتجار بها. وينشر هذا الموقع تقارير إحصائية تحدث باستمرار, عن جرائم الشبكة, من خلال الشكاوى التي تصل إليه يومياً.
وهذا الخطر المتنامي من الجرائم عبر الإنترنت, بدأ يلفت انتباه الباحثين, لأن القوانين الموجودة في معظم البلاد حول العالم أصبحت غير ملائمة لمثل هذه الجرائم. وهذا النقص في وسائل الحماية القانونية ضد الجرائم الالكترونية الجديدة حتم السرعة في السعي لوضع الإجراءات التقنية والقانونية لحماية أنفسهم من أولئك الذين يسرقون, أو يدمّرون المعلومات القيّمة أو ينشرون الإباحية وكل ما هو شاذ, والحماية الذاتية رغم أنها عنصر أساسي, ولكنها غير كافية لكي تجعل فضاء الإنترنت مكاناً آمناً من الجرائم الإلكترونية.
وإذا كان حكم القانون يجب أن يطبّق, فإن الدول التي لا تتوافر فيها الحماية القانونية الكافية من الجرائم الإلكترونية سوف تصبح أقل قدرة ,بشكل متزايد, على ان تنافس في الاقتصاد الرقمي الجديد, خاصة بعد أن اخترقت الجريمة التخيّلية الحدود القومية بشكل متزايد للغاية, فالأمم أدركت ضرورة أن تفحص الحكومات الوطنية تشريعاتها القانونية الحالية لتحديد مدى كفايتها لمكافحة أنواع الجرائم الجديدة, ففي تقرير عالمي حديث صدر في أواخر عام 2000, يدرس مدى كفاية التشريعات القانونية في 52 دولة لمواجهة جرائم الإنترنت, اتضح أن عشرا من هذه الدول فقط قد عدّلت قوانينها لتغطية أكثر من نصف تلك الجرائم, لكن دعونا نقف بعض الوقت أمام أخطر جريمة تُرتكب عبر الإنترنت, وهي تجارة الأطفال لأغراض الفحش.
غواية الأطفال
والعجيب أن شبكات استغلال الأطفال في الفحش تجد حماية رفيعة المستوى في بعض الدول, بل يمكن أن نقول إن تلك الشبكات تحوّلت إلى شركات متعددة الجنسيات من حيث انتشارها وقوّتها ونفوذها المسيطر, فهي أصبحت صناعة كونية, وسهل ذلك التكنولوجيا الجديدة من كاميرات فيديو منزلية وإنترنت التي يقدم فيها مئات الألوف من الملفات عن جنس الأطفال, وبداية إغواء الأطفال والشباب في المكتبات والمراكز ومقاهي الإنترنت, حيث يتم التحرّش بهم وإغواؤهم من خلال حجرات الدردشة والبريد الإلكتروني وغيرها من الكيانات الاتصالية الجديدة في الإنترنت, إلى أن يقتنع الطفل أو المراهق من الجنسين بتبادل الصور, ثم تتبعها مقابلة وجها لوجه وتكتمل دائرة الإغواء بعيداً عن رقابة المجتمع والأسرة.
وتعمل حكومات العالم على سن القوانين التي تحمي الأطفال من الفحش المكشوف في الإنترنت, ويسعى المصممون إلى تصميم برامج فلترة وترشيح للإنترنت من تلك المواقع, سنغافورة - مثلاً - فرضت على شركات خدمات الإنترنت استعمال برامج الفلترة والمرشحات التكنولوجية لمنع مواقع معينة للصور والأفلام الإباحية, ووضعت لوائح للإنترنت تقاضي بها المتبلدين وفاقدي الإحساس والحياء.
في 1997 - على سبيل المثال - حاكمت حكومة بافاريا في المانيا فيلكس سوم, الرئيس المحلي لشبكة كومبسيرف للخدمة الفورية online service compuserve, لأن واحداً من المشتركين في الشبكة استعملها للحصول على مواد إباحية غير قانونية, على الرغم من أن شبكة كومبسيرف لم تنتج تلك المواد الإباحية, ورئيسها وموظفيها لا يستطيعون معرفة مَن يستعمل الشبكة للحصول على تلك المواد. ومع ذلك وجهت تهمة لفيلكس سوم بالاتجار في الأدب المكشوف.
وقد حاولت واشنطن أيضاً, التحكم في المواد الجنسية عبر التفاعلات الفورية في الشبكة, ففي عام 1997 أصدرت المحكمة العليا قانون أدب الاتصالات, لتقييد الكلام الغامض جداً والفاحش عبر الويب, لدرجة أن الشخص الذي يضبط بنشر القبح عبر الشبكة سواء بالكلام أو نشر مواد جنسية كان يمكن أن يسجن, ورغم ذلك - بالطبع - هناك دائماً طرق للتهرّب من مثل هذه الفلاتر الإلكترونية, وتنجح في تجنب البوابات المغربلة.
ما أحوجنا في منطقتنا العربية إلى الاهتمام بتلك النوعية من الدراسات التي تقيس التغييرات الاجتماعية والنفسية والسلوكية الناشئة من تطبيق تكنولوجيات المعلومات والاتصالات مثل تأثير شبكة الإنترنت على خصوصية النسق الاجتماعي العربي! ما الآثار الإيجابية لتدعيمها وتنميتها? ما السلبيات والنتائج غير المرضية وغير المتوافقة مع خصوصية النسق الاجتماعي العربي والتي تقتحم مجتمعنا? وكيف نوظف إيجابيات تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في مواجهة مشاكل المجتمع العربي على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية? كلها أسئلة تحتاج من الباحثين العرب إلى كل جهد للإجابة عنها.
أحمد محمد صالح
ملاحظاتكم وانتقاداتكم&ارسلوها الى المحرر الانترنيتي&&: [email protected]