&
ـ بقلم: د. محمد الرميحي
اذا استثنينا القليل من وسائل الاعلام التي اهتمت بما يحدث في اليمن، فإنه يلفت النظر ذلك الصمت الكثيف الذي يسود الكثير من المعلقين تجاه ما يحدث هناك من أمر خطير، من الواجب التنبيه إليه ومتابعته،&ومد يد العون للمساعدة في التغلب عليه خاصة من جيران اليمن في الخليج العربي، وهم على أهبة اللقاء السنوي لاقامة قمتهم المنتظرة التي تعقد على غير مبعدة من مسرح الاحداث.
لقد أعلن عن سقوط عدد من القتلى وملاحقات من السلطات استخدمت فيها المروحيات والجنود، حيث دارت معارك تبدو لمن ينظر من بعد صغيرة الحجم والتأثير، وربما يعتبرها البعض هامشية، ولكن الأمر ـ على حقيقته ـ ليس كذلك، ولعل هذا ما يجعل من الضروري لفت الانتباه لما يحدث هناك في تلك القاعدة البشرية المكتظة لجزيرة العرب، مع وجود التحذير من صرف النظر عما يدور على هذه الساحة أو تجاهله، مما نخشى ان تنجم عنه عواقب وخيمة.
تشابه كبير
أليس لافتاً للنظر ان أكبر عمل ارهابي وقع في الجزيرة العربية تجاه الولايات المتحدة في السنوات الثلاث الأخيرة كان مسرحه في اليمن، وهو تفجير السفينة الحربية "كول" في ميناء عدن في اكتوبر من العام الماضي وهي العملية التي لم تتبين للرأي العام العربي أو العالمي تفاصيلها الدقيقة، اللهم إلا الاشارة إلى ان جماعة القاعدة هي التي قامت بها، وهي عملية فيها من التخطيط والدقة في التنفيذ ما كان يوحي لأي عاقل بأن أمراً نُفذ بهذه الدقة لابد من ان منفذيه سيقومون بأمور أخرى تتسم بالدقة نفسها، وربما تفوقها، وهو ما حدث بالفعل في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، أي قبل مرور عام على الحدث الأول.
وجوه شبه كثيرة تجمع بين اليمن وأفغانستان، فالجغرافيا في كل منهما تشبه الأخرى، فالجبال عالية ووعرة، إلى جانب ان التركيبة الاجتماعية قبلية في الغالب ومعايشة للعصر الحديث، محدودة ومحصورة في قطاع حديث لا يتجاوز بعض المدن الكبيرة، وقد كان اليمن مكاناً مختاراً ومرغوباً فيه كساحة خصبة للعديد من المجندين في تنظيم القاعدة، وهو ما تؤكده الاخبار القادمة من الساحة الافغانية حول عدد الأسرى والقتلى من ذوي الأصول اليمنية، كل ذلك بسبب تاريخ طويل من التثقيف الأصولي الذي تُرك من دون رقابة تذكر ووقع فيه خلط شديد بين التعليم والتجهيل بين القضايا الوطنية والأممية، بين التاريخ "الذهبي" والواقع المعيشي، وأهم من كل ذلك الخلط بين الممارسة الديمقراطية الحديثة التي هي مقبولة ومحبذة وضرورية لتنمية المجتمع وتنويره، وبين كونها ـ في نظر البعض ـ مجرد وسيلة وسُلم لنوع من أنواع الحكم يعيد اليمن إلى أيام "الامامة" بل ويتجاوزها إلى ما هو أبعد، فالأولى لها إمام (اليمن) والثانية لها (أمير المؤمنين) شبيه بالملا عمر أو قريب له في التفكير!
إدارة اليمن الحالية خاضت عددا كبيرا من المعارك في العقدين الماضيين، واستطاعت بجهدها الخاص أو بالتعاون الدولي والاقليمي التغلب على كثير من الصعاب التي كان يمكن لقليل منها ان يفت في عضد دولة كبيرة ذات مصادر وافرة من الثروة والامكانات، إلا ان المعركة ضد الارهاب تحتاج إلى جهد دولي واقليمي أكبر، بل مضاعف، ولا يتوقع أحد ان تكون "المطاردة" التي نسمع عنها حالياً في جبال اليمن وقراه معزولة وبعيدة عما يحدث على الساحة الافغانية أو ساحات أخرى، فقد ابتلي اليمن منذ فترة بعدد من المشكلات التي تبدو في ظاهرها كما لو كانت مشكلات رأي أو ديمقراطية، وهي في الحقيقة قضايا أو نزاعات لتطبيق شكل معين للدولة المبتغاة، وتحويل اليمن بما له من مصادر بشرية وموقع جغرافي إلى نقطة وثوب إلى الدولة المتخيلة والمرجوة في أدبيات فريق العودة إلى القرون الوسطى.
اختيار اليمن كساحة للمواجهة ونقطة للوثوب ليس بالأمر العبثي، وما الأحداث التي شهدتها وتشهدها ساحته إلا مرحلة تسخين لمواجهات قادمة، فالقطر اليمني ذو احتياطي بشري كبير، وهو قريب من جماعات "عنف الوفرة" كما يتسم بنسيج عام محافظ، وهامش من الحريات تنظمه مؤسسات حديثة، بجانب نوع من التثقيف الواسع ذي المنحى الأصولي المتزمت الذي يجد صدى له في هيكلية المجتمعات اليمنية البعيدة جزئيا عن السواحل ومناطق العمران الحضري.. كل هذه العناصر مجتمعة تسهل ان يكون اليمن بمنزلة أرضية يرى منظرو العنف انها يمكن الافادة منها، خاصة ان هذه القاعدة يمكن في حالة الوثوب إلى قمتها واحكام السيطرة على قرارها ومقدراتها تحريكها إلى أماكن أخرى تحت شعارات عديدة.
في اليمن معركة بعيدة عن أنظار غير اليمنيين، فقد أخرج اليمن آلافا من المتطرفين في السنوات الأخيرة، بعد ان صارت أراضيه ملاذاً لكثير من العائدين بعد انتهاء الصراع في أفغانستان، وخروج السوفييت منها، إلى جانب ان المدارس المنتشرة في أنحاء اليمن وغير المنضوية تحت مظلة التعليم الرسمي قد كثرت حتى أمست هاجساً حقيقياً يشغل متخذ القرار في اليمن، وكان الجهد السياسي المبذول لمراجعة مناهج هذه المدارس واخضاعها للسلطات التعليمية لا يزال يشكل عبئاً منهكاً للادارة اليمنية.
الجبهة الثقافية
لقد حذر بعض اليمنيين وبعض المعلقين والكتاب ومن جملتهم كاتب هذه السطور في وقت مبكر من ان يتحول اليمن في حالة عدم الفهم الصحيح لما يجري على أرضه إلى أفغانستان ثانية، ربما ليس بالشكل والصورة نفسيهما، ولكن بالروح ذاتها، واليوم أصبحت الاشارات الدولية المختلفة تجاه هذا الأمر موثقة ومعروفة.
والسؤال: ماذا يمكن ان نقدم إلى اليمن من أجل التغلب على بعض هذه المخاطر؟ بالطبع هناك الكثير، ولكن على رأس الضرورات التي ينبغي البدء بها المساعدة العاجلة والكثيفة في توسيع الحياة المدنية في اليمن عن طريق التعليم والتثقيف الحديث.
فهناك آلاف مؤلفة من شباب اليمن لا يجدون لهم اماكن في سلم التعليم النظامي الحديث بسبب ضعف الامكانات، وبعضهم يلجأون الى النظام التقليدي، وتلك المدارس التي تزرع في اذهانهم الوانا من الثقافة تجعلهم جاهزين وقابلين لتلقي افكار تحتضن العنف وتبرره.
ولعل من نافلة القول ان الاهتمام بالقطاع الحديث في التعليم في اليمن هو افضل انواع الاستثمار واكثرها ربحا، ليس لليمن فقط، وهو امر لايعد فحسب سبيلا لاشاعة قيم التسامح والتعايش .. بل ايضا قيم التنمية والانتاج والتطور. وليس خافيا ان العالم اليوم يتوجه بكل جدية وبكل تصميم الى اقتلاع جذور الارهاب، وقد ثبت باليقين ان هذه الجذور ثقافية الطابع ومن ثم فان العمل على الجبهة الثقافية مهما ارتفعت تكلفته ستكون اقل بكثير من تكلفة محاربة الارهاب الذي نعرف اليوم بعض تجلياته .. ولكننا لا نعرف في الغد بأي وجه سيطالعنا!
ـ أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في الكويت
(البيان الاماراتية)